كنا نأكل كرة واحدة من الأرز طوال اليوم لنعمل أكثر من 12 ساعة.
 أحد الناجين من جزيرة هاشيما

انقضت الحرب العالمية الثانية بواحدة من أبشع الجرائم الحربية التي ارتكبتها الولايات المتحدة في التاريخ الحديث، بسقوط قنابلها النووية فوق هيروشيما وناجازاكي؛ لتشكل إبادة جماعية لن ينساها الأمريكيون أنفسهم قبل أعدائهم، لكن المفارقة أنه وعلى بعد 15 كيلومترًا فقط من ناجازاكي ثمة جزيرة شهدت جريمة من بين الجرائم التي اقترفتها اليابان قبل أن يسحقها شبح الهزيمة.

كيف بدأت الحكاية؟

حل العام 1910 وخلال فترة الاستعمار الياباني لكوريا بسيطرة اليابان عليها عسكريًّا ضمن تحركاتها التوسعية داخل آسيا، والذي تبعه فيما بعد احتلال كوريا نفسها وبعدها الصين، لكننا وبدون أن ندخل في تاريخ التوسعات اليابانية نجد أنفسنا بصدد الحديث عن استعباد اليابان لعشرات الآلاف من الكوريين داخل الجزيرة لاستخدامهم في أعمال التنقيب والحفر داخل الجزيرة، وتحديدًا داخل مناجم الفحم.

كان ذلك جزءًا من دخول اليابان حقبة الثورة الصناعية منتصف القرن التاسع عشر، والتي بدأت معها رحلة البحث عن مصادر الوقود والطاقة لتستطيع معها مجاراة ثورة الآلة الجديدة، فكانت مثل غيرها من الدول التي دخلت تلك الرحلة تبحث عن الفحم باعتباره الوقود الأكثر استخدامًا في تلك السنوات.

كان الكنز الذي منيت اليابان بالحصول عليه متركزًا في أعماق مياه جزيرة هاشيما وبكميات كبيرة، لكن الاستكشاف وحده لم يكن كافيًا ليتحول ذلك الكنز إلى ثروة تستخدمها اليابان، لذا كان لا بد من تواجد رأس المال والعمالة، وهو ما وفرته شركة ميتسوبيشي التي دخلت إلى الجزيرة وقررت السيطرة على الأمور بالكامل داخلها، واتفقت مع الحكومة اليابانية على شراء الجزيرة والانتفاع بحق بيع الفحم المكتشف داخلها لتبدأ الحكاية.

الحرب العالمية الثانية

بدأت الحرب العالمية الثانية وتحول معها اهتمام اليابان بالحصول على وقود المحروقات لأغراض أخرى غير التصنيع، وهي المواجهات الحربية التي كانت اليابان تسعى من خلالها للسيطرة على الشق الأكبر من آسيا.

مع بداية الحرب العظمى اقتادت القوات اليابانية أكثر من 41 ألف صيني عنوة إلى أراضيها لاستخدامهم في معسكرات العمل القسري، وأرسلت من ذلك الحشد الضخم 3756 شخصًا و1442 مواطنًا من كوريا الجنوبية لجزيرة هاشيما للعمل في مناجم الفحم.

لم يكن الأمر بالنسبة إلى الكوريين والصينيين مجرد قيامهم بأعمال التنقيب التي تريدها ميتسوبيشي والحكومة اليابانية، بل جرى التعامل معهم باعتبارهم عمالة مجانية، وذلك عبر البقاء في ظروف عمل قاسية في أماكن منخفضة عن سطح البحر بما يصل إلى 1000 متر في حرارة عالية للغاية، فيما كان يقدم لهم القليل جدًّا من الطعام والماء.

في الوقت نفسه خلق اليابانيون واحدة من المفارقات القاسية والمؤلمة بالعيش في ظروف رفاهية في أحياء الجزيرة، وعلى مقربة من المعذبين في المناجم.

لم يكن ذلك كافيًا لتكتمل الدائرة، حيث كان المطلوب من العمالة تحقيق مقدار محدد من الإنتاج كل يوم، ومن يعجز عن تنفيذ ذلك كان يتعرض للضرب والتعذيب الذي كان يصل للقتل أحيانًا.

ذكريات أليمة

يروي صن زوهانجو، وهو أحد الصينيين الذين عملوا في هاشيما، شهادته عن تلك السنوات القاسية التي عاشها خلال عمله في حقول الفحم.

يحكي زوهانجو قائلًا: كنت في الرابعة عشرة من عمري حينما اقتادني اليابانيون إلى تلك الجزيرة للعمل هناك، كنَّا نتعرض للتعذيب طوال الوقت خلال العمل، كانت أماكن العمل محاطة بجدران عالية وضخمة حوَّلت الجزيرة إلى سجن كبير لا يمكن الفكاك منه، حاول الكثيرون الهرب عبر القفز من تلك الجدران، لكن نهايتهم كانت السقوط في المياه والغرق، كان اليأس يصل بالبعض إلى الانتحار لعدم تحملهم ظروف العمل والتعذيب.

بينما حكى الكوري تشوي شانج سيوب، البالغ من العمر 88 عامًا، عما جرى له في جزيرة هاشيما قائلًا:

حتى الآن وكلما تذكرت تلك الأيام لا أدري كيف استطعت تجاوز ذلك كله والنجاة من الموت، ليس هناك بشر قساة مثل اليابانيين، عشت على هذه الجزيرة كأشباه البشر، أشعر بالغم وبثقل على صدري كلما تذكرت تلك الأيام، حينما كنت مجبرًا على العمل في منجم وأنا أرتدي سروالي الداخلي وحسب، أُخذت إلى هناك وأنا في الخامسة عشرة من عمري عام 1943.

فيما كشف سيو جانج وو الذي توفي في عام 2001 المزيد من التفاصيل القاتمة عن حكايات العمل داخل هاشيما قائلًا: كان اليابانيون يسكنون في أبراج عالية، وكانت الجزيرة ممتلئة بأبراج مراقبة شرطية يبلغ طولها أكثر من 10 أمتار لإيقاف أي محاولة هرب، من بين زملائي هناك قفز 40 شخصًا عبر الجدار العالي، إما في محاولة للهرب أو الانتحار، وكانت النتيجة موتهم جميعًا.

وأضاف: كنا نقضي أكثر من 12 ساعة في منجم تفوق حرارته 40 درجة مئوية في ظروف يعجز أي شخص عن تحملها طوال ذلك الوقت.

المفارقة الإجرامية

حل العام 1945 وقررت الولايات المتحدة أن ترتكب جريمتها الأعظم بإبادة هيروشيما وناجازاكي بقنابلها النووية، لكن المفارقة الأهم أن جزيرة ناجازاكي تبعد 30 دقيقة فقط بالقارب عن جزيرة هاشيما التي شهدت استعباد اليابانيين أنفسهم للكوريين والصينيين.

وكأن التاريخ لا ينفك يخبرنا أن الحرب العالمية الثانية كانت بين أطراف كلهم مجرمون مهما انتهى بهم الحال، فلو لم تكن الدفة قد ذهبت نحو نصر الحلفاء بشكل إجرامي في 1945 لكانت الدفة توجهت نحو نصر هتلر واليابانيين، وكلاهما وقتها لم يكن ليتورع عن تعذيب وسحق من يسقط في أيديهم، ذلك أن المنتصرون في تلك الحرب العظمى هم من شكَّلوا خريطة العالم في المائة سنة التالية.

لكن الأزمة الأكبر هي أن الجرم الأمريكي على ضخامته أوقع الأطراف المحايدة في تساؤل ربما لا يستطيعون العثور على إجابته، ماذا كان اليابانيون ليفعلوا لو انتصروا في الحرب العالمية الثانية؟

مزحة اليونسكو

شهد العام 1970 قرارًا من الحكومة اليابانية بإغلاق جميع مناجم الفحم في جزيرة هاشيما، وذلك بعد أن أصبح النفط هو الوقود المقرر استخدامه عالميًّا، وفي الوقت نفسه احتفظت شركة ميستوبيشي بملكيتها للجزيرة ولأراضي المناجم دون أن تفرط فيها.

وبحلول العام 2002 حاولت الحكومة اليابانية أن تمحو الماضي فغيَّرت اسم الجزيرة لتصبح «تاكاشيما»، وصارت جزءًا من ناجازاكي المجاورة لها بالتبعية، وبعدها بسبع سنوات فقط قررت فتح الجزيرة كمزار سياحي دون أي ذكر لمعسكرات العمل القسري أو تلميح لذكر أن المزار السياحي شهد على أرضه موت 1442 كوريًّا جنوبيًّا و772 صينيًّا بالعمل القسري والتعذيب.

لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل صارت جزيرة هاشيما تقدم من قبل الحكومة اليابانية باعتبارها مصدر فخر كواحدة من أوائل المدن اليابانية التي شهدت دخول اليابان عصر الثورة الصناعية، وقدمت طلبًا في العام 2006 لمنظمة اليونسكو لإدراجها ضمن التراث العالمي، والغريب أن اليونسكو وافقت على الطلب في العام 2015 لتصبح هاشيما، أو Battle Island كما يعني اسمها بالياباني، جزءًا من حضارة اليابان بدلًا من أسبابها للشعور بالندم.

أصيب الكوريون بالغضب لتلك التطورات، فكان قرارهم إطلاق حملة تمويل ضخمة لإنتاج مادة إعلامية تكشف حقيقة جزيرة هاشيما التي تغيَّر اسمها وطُمس تاريخها المظلم، وبالفعل أُذيع المقطع في الميادين الكورية وفي ميدان التايمز وحمل اسم The Truth of Hashima.

ولأن التوثيق دائمًا جزء من المقاومة، أنتجت كوريا فيلمًا في العام 2017 بعنوان Battleship Island، وهو فيلم حركة يروي حكاية مجموعة من العمال الكوريين في الجزيرة ومحاولتهم للهرب، وعلى الرغم من أن الفيلم حوى الكثير من المبالغات وكان ميالًا لفكرة المبالغة أكثر من التوثيق، فإنه في النهاية كان محاولة درامية لمواجهة الإنكار والطمس الياباني الذي غطى القصة وحاول محو تاريخ أصحابها بطرق مختلفة.

في النهاية فاليابان لم تكن الطرف المستضعف طوال الوقت، ولم تكن الطرف المجرم طوال الوقت، ومفارقات الحرب العالمية الثانية كانت بمثابة الاختيار بين الموت بالسم أو السيف.