[1]

ما زلت أذكر حين التقت أعيننا لأول مرة ذات صيف مراكشي مبهج. كنتْ قد قدمت للمدينة بعد أن قضيت السنة الدراسية بأكملها منكباً على دروسي، ترجيت أبي أن يصطحبني معه للمدينة لقضاء العطلة الصيفية رفقة أبناء عمي. كانت تقف على بعد خطوات قليلة منِّي، وصوت ضحكتها يعلو كلما تحدثت إحدى صديقاتها. كان تجاهل طلتها الساحرة من سابع المستحيلات، وكنت فتىً ساذجاً في السابعة عشرة. في «سني الخطير» على حد قول أمي، لا يمكن للمرء أن يُعوِّل كثيراً على ما يهوى الفؤاد، ولا يمكنه -في الوقت نفسه- أن يستمع لعقله غير مكتمل النضج. ولكنني قررت أن أتبع ما يمليه عليّ قلبي.

قبل أن نصل لليأس الذي ليس بعده رجعة، كان حبنا أقوى من أن تهزه أي ريح. تزوجنا وهاجرت لفرنسا لأكمل دراستي، وقد كان كل شيء مثالياً حينها. كنّا على اتفاق بأن نعيش معاً في فرنسا بمجرد أن تنهي دراستها الجامعية هي الأخرى في كندا. كان بيتنا متواضعاً، لكن وجودها فيه جعله دافئاً للغاية. حين رزقنا بطفلنا الأول كنت قد حصلتُ على وظيفة كمهندس معماري، وتمكنت من الحصول على الجنسية الفرنسية، كانت فرحتنا بمولودنا الأول لا تُوصف، وقررنا تسمية ابننا «حسام».

لكنها اختفت من حياتنا –بصمتٍ- كما جاءت، تركت حسام وتركتني دون تفسير أو سابق إنذار. لم تترك وراءها شيئاً يدلنا على مكانها سوى ورقة صغيرة كتب عليها: «لا تبحث عني، أحمد».

كانت بذلك تقطع حبل الأمل عني وتضع حداً لحبنا. رحيلها كسر ظهري وأتعبني. أصبح الأرق لا يفارقني منذ أن استيقظت وحيداً يوم اختفائها. في محاولة أخيرة للتعايش مع ألم الفقد، قررت العودة لأرض الوطن مع ابني حسام والاستقرار هناك.

كانت أمي امرأة صبورة، تحملت الفقر والجوع في طفولتها القاسية، وتخلّت عن أحلامها؛ لا لاستحالتها بل لقلة حيلتها. كانت سعيدة لرؤية ابنها وحفيدها، لكن الحزن كان مُخيِّماً على بيتنا يومها. لم نتحدث يومها عن «سلمى» بالرغم من أنني كنت في أمس الحاجة للحديث عنها وعن ضحكتها الآسرة التي اختفت تدريجياً. أيكون زواجنا قد قتل فيها تلك السعادة العفوية التي رأيتها يوم التقينا؟

[2]

كنت طفلاً ذا عشر سنوات حينما رأيت عمي يضرب زوجته لأول مرة، لم أكن قد رأيت مشهداً بذلك القدر من العنف من قبل. كان عمي مُقامراً وسكيراً يعمل في البلدية، يبدر رزق النهار في الليل ويترك أبناءه تحت رحمة الجوع إلا في اللحظات النادرة حين يستيقظ ضميره.

كنتُ في زيارة قصيرة مع أبي للمدينة عندما نشب خلاف عقيم بين عمي وزوجته بسبب سكره المتواصل وشُحِّهِ، تحول العراك من تبادل للشتائم إلى اشتباك بالأيدي. لم أعد إلى بيتهما منذ ذلك اليوم المشؤوم. ما زلت أذكر الصمت القاتل الذي تلقّى به أبي شكوى زوجة أخيه، صمته الذي أدركت أنه في حد ذاته عنف. بالرغم من أن أبي لم يُعنِّف أمي يوماً أو يصرخ في وجهها، كرهت فيه تواطؤه مع الشر.

كان أبي رجلاً قاسي الملامح، ولكن حبه لأمي جعله رجلاً صالحاً. كان أبي رجلاً بسيطاً للغاية وكثيراً ما كانت بساطته المُفرطة مصدر إحراج لي ولإخوتي، كنّا نتجنب الحديث عنه أمام زملائنا في المدرسة ونتحجج بحجج واهية حينما نسأل عن عمله. كان أبي رجلاً شغيّلاً، لكنه لم يستقر في عمل من قبل، بل كان يجد حرفة جديدة كل سنة.

كرهت أبي لكونه رجلاً بسيطاً، كرهته لعدم بوحه بحبه لي ولإخوتي يوماً، ولأنه لم يفعل شيئاً يُخوِّل لي أن أعترف بكرهي له. كان كرهي له أمراً سخيفاً، لكنه بالنسبة لي كان كرهاً مُبرراً ومنطقياً. لا شيء يكسر المرء بقدر حب غير متبادل. كان حبي لكل إنسان وكيان حباً من طرف واحد، أحببت سلمى أكثر مما أحبتني، أحببت أبي بكل تشوهاته العاطفية وعدم قدرته على الإفصاح عن حبه لنا، وأحببت الوطن الذي أذاقني وأهلي شتى ألوان الذل والإهانة.

[3]

ضحكت سلمى ملء ثغرها عندما بُحت لها لأول مرة عن أفكاري العدمية و«فلسفتي الراديكالية»، لم تستطع وهي ابنة عائلة برجوازية، أن تتفهّم نفوري من هذا الوطن، ذلك لأنها لم تعش يوماً على هامش الوطن، ولم تقف في طوابير الأمل والأحلام بين فقراء الوطن.

أنصفها الوطن كما لم ينصفني وزملائي الذين لم يبرحوا قلعة الفقر منذ ولادتهم. لكنني أحب هذه الأرض التي رأت عيناي فيها النور لأول مرة، لست رجلاً حقوداً ولا عدمياً كما تظن سلمى. أحب جبال الريف وبحر الحسيمة ونسيم الناظور وسماء مراكش الفاتنة، أحب كرم شعبي وسذاجتهم رغم أنها هي التي جعلت هذا الوطن قيد المعاناة، أحب اللغة الأمازيغية، لغة أجدادي التي لم أتعلمها يوماً. أنا رجل له كامل القدرة على الحب رغم كل التشوهات العاطفية التي ورثتها عن أبي ووطني البائس.

كان الحب أكبر وَهم عشته، وَهم تمسكت به حتى آخر لحظة، رافضاً الانتباه لكل الأدلة التي تشير إلى كونه لا يعدو أن يكون مجرد سراب. كنت كالعطشان في صحراء قاحلة إذ يتمسك بأمل وجود ماء في ذلك الوسط المقفر الخالي من أي أثر للحياة.

كنتُ وسلمى كطفلين بريئين لا يفقهان من الدنيا شيئاً، أحاديثنا تتمحور حول الإمبريالية الأمريكية وغزو العراق وكل موضوع على وجه البسيطة عدا مشاعرنا تجاه بعضنا البعض. كانت تتهرّب من أسئلتي المُفخخة، وكنت أفضِّل أن أُبقي صراحتي ووضوحي لنفسي، لكي لا أخسر تلك اللحظات الثمينة، وها هي اليوم تطير من يدي كفراشة وتتوعّدني ألا تعود.

[4]

كانت أمي «فتيحة» قد عاشت من المآسي ما يجعلها تكتسب مناعة قوية تجاه كل ما تلقي به الحياة نحوها من صعاب وتحديات. كانت قد ودّعت ابنها الأكبر قبل أن آتي إلى الحياة بخمس سنوات، لم أعرف «علي» يوماً، لكنني أحببت شخصه من خلال ما كانت ترويه لي أمي عن شجاعته وحبه المتفاني لها.

الحقيقة أنّني كثيراً ما كنت أغار من حب أمي له رغم رحيله منذ سنوات خلت، وأتساءل أحياناً إن كان سيذكرني الناس كما يذكرونه، أم أنني سأصير نسياً منسياً. كان من الصعب على عقلي الصغير أن يتخيّل امرأة كفتيحة تبكي ابنها الأوحد وتثكل رجلاً في عمر الزهور. كانت أمي تمثل كل ما يمت للقوة والصمود بصلة، لم تكن تشبه نساء الأرض ولا رجالها، كانت تشبه نفسها وتنضح تميزاً بين سكان قريتنا. يحترمها الكبير والصغير، ويحترمونني لا لشيء إلا لكوني ابنها.

تقول أمي إنها تمسكت بيد ابنها «علي» ونظرت إليه كأنما تحفظ ملامح وجهه للمرة الأخيرة، وكان عزاؤها الوحيد آنذاك اقتسامها المعاناة مع جاراتها اللاتي ودعن أبناءهن على أمل اللقاء القريب. كل شيء بدا حينها في عيني الأم المكلومة اللتين كانتا خاليتين من أي قيمة، وخوفها من مستقبل مجهولةٍ أحداثه كان مُسيطراً على فكرها وحركاتها وسكناتها.

[5]

كان «علي» يرتاد مدرسة «تيط مليل للطيران» بعد أن قرر أحد مدرسيه الفرنسيين مساندته لتحقيق حلمه، ينتظره مستقبل مشرق وزواج سعيد مليء بالحب ومشبع بالسعادة. وضاعت أحلامه بين أحكام القدر وبطش الطغاة.

سُميت بالحرب؛ هي تلك الآلة الوحشية، صنع البشرية ونتيجة التطور والحداثة. يجلس السَّاسَةُ والحكام ينظرون إلى صنع أيديهم بفخر لا نظير له، ها هم قد خلقوا فتنة ستعيش لأجيال وسيغذيها شعور القومية لدى الطرفين. وبينما هم يتاجرون بأرواح الآخرين وأحزانهم، ويرتقون في المناصب ويجمعون الثروات، يسكن الخوف والرعب بيوتَ منْ أحبّوا السلام وضحوا بحياتهم من أجل الوطن، دون علم منهم بأن الوطن لن يتحمل خسارتهم لأجل مفهوم تافه سمّاه المستعمر الفرنسي بـ«الحدود».

يُحرِّك القادة بيادقهم أينما شاءوا بثقة، فمهما كانت نتيجة قراراتهم المتهورة فإنها لن تمسهم بشيء. وفي الجزائر، كما في المغرب، أمهات يبكين أبناءهن، يشهدن قسوة الوطن، أو بالأحرى قسوة منْ علّمونا أن الوطن يتجسّد فيهم.

كيف للوطن أن يدهس أبناءه ويمضي تاركاً جثثهم نحو مستقبل أكثر سوءاً من حاضره؟ وهل يُلام الوطن على أفعال منْ نَصَّبُوا أنفسهم حُكّاماً علينا وما هم إلا ذيول الغزاة الذين أوهمونا بوثيقة تشهد استقلالنا ونهاية استغلالنا؟

تموت أحلامٌ مع كل رصاصة تخرج من البندقية، وتُدفن أمنيات العودة إلى دفء الأسرة مع كل جسد يسقط في ساحة المعركة مودعاً وطناً ما كان له أن يرثيه، إذ هو مشغول برثاء نفسه.

لا وجود لمنتصر في الحرب، فالحرب منذ بدايتها إنما هي إعلان عن انهزام البشرية أمام أطماع تكلفها أنهاراً من الدماء. ويختار البشر حمل السلاح خوفاً من الآخر، كما لوكان هذا «الآخر» ينتمي إلى جنس غير الجنس البشري. نُغدِّي شعور الكراهية تجاه غيرنا بشعور الوطنية والانتماء، كما لو كان انتماؤنا لبقعة من بقاع الأرض يجعلنا أشرف من غيرنا وأولى بالاحترام.

تنتهي الحرب ويبقى دمارها فينا، مهما بنينا وشيّدنا فوق الخراب الكبير، سيظل عار «حرب الرمال» ينهش أرواحنا وضمائرنا. وفي حصص التاريخ، يتجنّب المدرس ذكر ما يخدش الصورة المثالية لتاريخنا من أحداث. ذلك التاريخ الذي يحمل صوراً بطولية لمقاومة رجال ونساء هذا الوطن، وتصدياً قوياً للاستعمار، كيف له أن يحمل في طياته حرباً ضروساً ضد من نُكِنُّ لهم الأخوة؟ هذا العار لا يموت، بل يعيش معنا حتى ندفنه أو يدفننا.

[6]

في كل من وهران والرباط، هناك منْ صارت «حرب الرمال» الجرح الأكثر عمقاً في قلوبهم، ما أقساه ذاك جرح الوطن!

بين واقعنا المُعاش اليوم، وما ندّعي الإيمان به، خيط رفيع من الكذب، كلٌ منّا يُدرِك في دواخله أن الوطن زيف، والوطنية وهم يُباع ويشترى كما المناصب التي وُزعت بعد أن انقضت الحرب على مُسترزقيها.

نعلم جيداً أن شهداء الوطن وأبطال حرب التحرير ما كانوا لينالوا السلطة والمال والجاه الذي وهبه الغزاة لأسلاف لهم يحكمون أوطاننا ويحفظون مصالح أعدائنا على أرض بلادنا. أقضي الكثير من الوقت أفكر في مأساة أمي، في لعنة الفقد التي حلّت على عائلتي وشعبي والجنس البشري بأكمله. يختطف الموت منْ نحب ويختار بعضهم الهجران والفراق المر، يذكرني فقدي المؤلم لسلمى بفقد أمي لابنها الأقرب إلى قلبها وروحها.

فقدي لسلمى جعل الزمن يتوقف بالنسبة لي ونسيت بسببه أن أعيش وأحب وأكون أباً لابننا، لكن فقد أمي لبكرها «علي» جعلها أكثر تمسكاً بأسرتها، وأكثر حرصاً على سلامتنا وسعادتنا في هذا العالم المخيف المُشبع بالمآسي.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.