إذا سقطت شجرة كبيرة في الغابة دون أن يكون حولها أي مخلوق يمكنه سماعها، هل ستصدر الشجرة صوتًا؟

للوهلة الأولى تبدو الإجابة على السؤال بسيطة بل وبديهية، لكن ماذا لو كان السؤال أعقد مما يبدو؟

أول من طرح هذا السؤال كان الفيلسوف الإيرلندي «جورج باركلي» عام 1710 في كتابه A Treatise Concerning the Principles of Human Knowledge، وقال إنه لإجابة ذلك السؤال المُحيِّر، علينا أولًا أن نحدد ما هو الصوت؟

الصوت ما هو إلا موجات ميكانيكية تنتقل عبر أوساط مادية من مصدر الصوت إلى أذن المُتلقي، والصوت في ذاته ليس سوى اهتزازات، عندما تستقبلها الأذن تقوم بتحويل تلك الاهتزازات إلى إشارات كهربائية يترجمها الدماغ إلى الصوت الذي نعرفه.

وتلك النقطة بالتحديد هي ما تزيد سؤال باركلي تعقيدًا، فتلك الاهتزازات الناتجة عن سقوط الشجرة لن تتحول أبدًا إلى صوت لو لم يكن هناك أذن تستقبلها ودماغ يترجمها إلى صوت الضجيج الذي نعرفه. إذن فسقوط الشجرة ليس كافيًا حتى تصدر صوتًا، بل بالإضافة إلى وجود وسط ينتقل من خلاله الصوت، من الضروري أن يتواجد كائن حي يستقبل تلك الموجات ويحوِّلها إلى صوت، ولذلك يمكننا القول إنه لا وجود للصوت إذا لم يكن هناك منْ يمكنه سماعه.

الأمر أشبه بطريقة عمل الراديو، المحطة الرئيسية تُطلِق الموجات في الأثير ليستقبلها راديو ذو تردد معين في منزلك، ثم يُحوِّل الراديو تلك الموجات إلى صوت تسمعه، لكن ماذا لو لم تكن تملك راديو؟ ماذا لو لم يكن أي أحد في العالم يملك راديو؟ حينها ستظل موجات الراديو مجرد موجات، اهتزازات، ولن تتحول إلى صوت أبدًا.

ولذلك ببساطة، الصوت ليس له وجود موضوعي (ليس قائمًا بذاته)، بل وجوده حسي ومستحيل بدون وجودك أنت، فوجود منْ يستمع هو شرط أساسي لوجود الصوت، وبدونه يصير الصوت لا وجود له.

الأمر الأكثر إثارة للاهتمام، أن تلك الفكرة لم تتوقف على الصوت فقط، بل تمددت في رؤوس الفلاسفة مع مرور السنوات، وتحوّل الاهتمام بالصوت إلى الاهتمام بالعالم بأسره، بل وصل البعض للاعتقاد أن العالم أيضًا ليس له وجود، لو لم يكن هناك ذهن يستوعبه ويترجم وجوده خلال حواسه.

العالم ليس موجودًا خارج الذهن

في عام 1819 عبر الفيلسوف «أرثر شوبنهاور» عن فكرة الوجود الحسي للعالم في كتابه «العالم إرادة وتمثلًا» بقوله:

إذا نظرنا للعالم فلن نرى شمسًا فوقنا ولا أرضًا تحتنًا، بل عينًا ترى الشمس وقدمًا تتحسس الأرض.

وهنا لا ينكر شوبنهاور وجود العالم بشكل فعلي (موضوعي)، لكن ينكر انفصاله عن الذهن بشكل حسي، فنحن لا نرى العالم كما هو، بل العالم هو منْ يتمثل لكل شخص بشكل مختلف حسب قابلية الشخص للفهم وقدرته على رؤية ما حوله، لذلك لو توقف أحدهم وقال ما هو العالم؟ فمن وجهة نظر «شوبنهاورية» بحتة، من المستحيل الإجابة على سؤال مثل هذا بشكل موضوعي، لأن العالم يختلف من شخص إلى آخر.

يشبه الأمر رؤية العالم من خلال نظارات عدستها مكونة من خبراتنا السابقة وظروف نشأتنا والقناعات الكامنة بداخل كل منا. وتلك النظارات تمنعنا من رؤية العالم كما هو (بوجوده الموضوعي)، ولذلك نعيش ونموت في فرضية، فرضية بُنيت على أساس شكل نظارتنا التي ننظر من خلالها للعالم، وبالتبعية تنحصر رؤيتنا لما يمكنه أن يؤكد فرضيتنا وفقط، حتى لو كان ذلك يعني أن نعمي أعيننا عن حقائق واضحة، ما دام ذلك العمى سيخدم الفرضية التي شيدناها في أذهاننا منذ الصغر.

ألا تصدق أيًا منْ هذا؟ أتظن أنه بإمكانك الثقة في حواسك واليقين في حقيقة العالم الذي تعكسه نظاراتك؟

يؤسفني أن أقول لك عزيزي القارئ إن ذلك بالضبط ما قاله المشاركون في تجربة «الغوريلا الخفية»، قبل أن تجبرهم التجربة على تغيير رأيهم.

هل يمكنك الثقة فيما ترى؟

قام الباحثون في جامعة هارفارد باستدعاء فريقين، أحدهما يرتدي الزي الأبيض والآخر يرتدي الزي الأسود، ومع كل فريق كرة يتناقلها أفراده بين أيديهم، وبينما يحدث ذلك يُطلَب من المُشاهِد أن يقوم بعدّ عدد المرات التي تناقل فيها أفراد الفريق الأبيض الكرة.

وأثناء ذلك، وفي منتصف التجربة تقريبًا، تظهر غوريلا سوداء في منتصف الغرفة، أو بلفظ أدق رجل يرتدي زي غوريلا، يقف وسط الفريقين لعدة ثوانٍ، يضرب على صدره مرات متتالية ثم يختفي من جديد.

والغريب عزيزي القارئ أنه بعد الانتهاء من التجربة، قام الباحثون بسؤال المشاهدين عمّا رأوه، وكانت الصدمة أن أكثر من نصف المشاهدين لم ينتبهوا لظهور الغوريلا السوداء من الأساس. كيف ذلك؟!

لقد ظهرت الغوريلا في منتصف الغرفة لعدة ثوانٍ، بل وضربت على صدرها عدة مرات، ومع ذلك لم يلاحظها معظم الناس ولم ينتبه لها أحد، فقد كان انشغالهم بعدّ المرات التي تناقل بها الفريق الأبيض الكرة كفيلًا بأن يمنعهم من رؤية غوريلا سوداء تضرب على صدرها في منتصف الغرفة.

كيف حدث هذا؟

يُرجِع العلماء السبب وراء ذلك إلى ظاهرة الانتباه الانتقائي Selective Attention والتي تجبر عقولنا في كثير من الأحيان أن تتجاهل بعض التفاصيل بل والأحداث في سبيل التركيز على الحدث الرئيسي Main event.

على سبيل المثال، في التجربة كان الحدث الرئيسي هو عدّ مرات التقاط الكرة، لكن في الحياة من الممكن أن يكون الحدث الرئيسي تجربة صعبة نمر بها مثل فقدان شخص مُقرَّب أو انتهاء علاقة حب أو المرور بفترة اكتئاب مريرة تجعل نظرتنا مقصورة على ما يُعزز تلك الحالة النفسية وتجاهل كل ما سواها.

بل في معظم الأوقات يكون الحدث الرئيسي هو مشاغل حياتنا اليومية التي لا تعطي لأحد الفرصة للانتباه للتفاصيل الصغيرة أو استنشاق الزهور أثناء الطريق كما يقول المثل الأمريكي الشهير.

لم يكتفِ بعض العلماء بذلك فقط، بل لقد أخذ الفيزيائي الأمريكي «ليونارد ملودينوف» الأمر لمستوى آخر، حيث قال إن الغرض الرئيسي للانتباه الانتقائي هو أن يحمي عقولنا من التعامل مع عشوائية الواقع المربكة وكثرة تفاصيله التي يمكن أن تدفعنا للجنون.

عيب خلقي في العقل أم الجنون؟

حسب ملودينوف، فإن عقولنا لديها عيب خلقي خطير يجعلها غير قادرة على التعامل مع عشوائية الواقع وتضارب الأحداث، ولذلك تميل عقولنا لربط الأحداث ببعضها وإيجاد الأنماط بين الحدث والآخر بل واختراعها إن تطلّب الأمر.

كل ذلك ليتمكن عقلنا من خدمة الفرضية التي تحاول إيجاد تفسير لكل ما يحدث لنا وإثبات أن تجاربنا مختلفة عن تجارب الآخرين، مع العلم أن كل التجارب التي يمر بها الشخص العادي قد حدثت لملايين الأشخاص من قبله بل وستحدث لمليارات من بعده. لكن بالطبع هذا الكلام ينطبق على الشخص العادي لا شخص فريد من نوعه مثلي (مقولة مقتبسة عن 7.7 مليار شخص يعيشون على وجه الأرض حاليًا).

ولذلك يضرب الفيزيائي الأمريكي المثل في كتابه The Drunkard’s Walk، بالشخص المحظوظ الذي كسب اليانصيب لأنه راهن على الرقم 27.

بالطبع كان اختياره عشوائيًا ولم يكن له تفسير معين على الإطلاق، لكن كما قلنا الأشياء العشوائية تحدث للأشخاص العاديين فقط، لذلك عندما سألوا صاحبنا المحظوظ لماذا راهنت على الرقم 27 تحديدًا، أجاب بكل ثقة قائلًا:

لأني حلمت بالرقم 7 لمدة 3 ليال متتالية، و3X7 بالتأكيد تساوي 27!

(إذا لم تلاحظ عزيزي القارئ، فحاصل ضرب 3X7 هو 21 وليس 27 كما يظن صاحبنا حسن الحظ).

لا يبدو صاحبنا على قدر كبير من الذكاء أليس كذلك؟ لكن ضع نفسك مكانه، منْ يريد أن يظن أنه شخص عادي؟ منْ يريد أن يتخلى عن ميل عقله لإيجاد الأنماط ليشعر ببعض التوازن في حياته؟ منْ يجرؤ على العيش في عالم عشوائي مُعترفًا أن ليس لكل شيء سبب وليس لكل حدث تفسير وليس لكل تجربة مبرر؟

هوس العقل بالأنماط هو سر استمرار البشرية

بالطبع لا يبدو هوس العقل البشري بإيجاد الأنماط واختراعها كظاهرة صحية، فلماذا تحمل عقولنا مثل هذا العيب الخلقي الذي قد يدفع بعضنا للجنون؟

يُجيب العالم «مايكل شارمر» على هذا السؤال قائلًا إن هوس العقل البشري لإيجاد الأنماط يعتبر من الأسباب الرئيسية لاستمرار الجنس البشري حتى الآن.

في كتابه The Believing Brain يفسر العالم الألماني نظريته بمثال بسيط:

عُد بالزمن 3 ملايين سنة، وتخيّل أنك إنسان بدائي تتمشى وسط سهول إفريقيا باحثًا عن غداء لك ولأولادك، وفجأة سمعت صوت خشخشة بين الحشائش من خلفك. يا تُرى ما هو مصدر الصوت؟ هل هي الرياح تداعب الحشائش الساكنة؟ أم حيوان مفترس يتحرك تجاهك ليلتهمك؟

إجابتك على هذا السؤال في بعض الأحيان قد تكون مسألة حياة أو موت. ولذلك يميل العقل دائمًا لإيجاد الأنماط بين كل شيء حوله، وأيضًا العثور السريع على روابط بين صوت خشخشة الحشائش وبين احتمال وجود حيوان مفترس على وشك الفتك بك، ذلك هو النمط الذي يختاره عقلك بشكل تلقائي دون تفكير.

وعملية إيجاد الأنماط أو اختراعها تلك يُسمِّيها شارمر بعملية التنميط Patternicity، وينتج عنها نوعان من الأخطاء:

  1. النوع الأول هو «الإيجابي الزائف»، وهو الاعتقاد بوجود النمط عندما لا يكون موجودًا.
  2. النوع الثاني هو «السلبي الزائف»، وهو الاعتقاد بعدم وجود نمط عندما يكون النمط موجودًا بالفعل.

فأي نوع من الأخطاء تُفضِّل أن ترتكبه في الحالة السابقة: أن تعتقد بوجود حيوان مفترس خلفك عندما لا يكون هناك شيء، أم تعتقد بعدم وجود حيوان مفترس بينما هو قادم باتجاهك؟

ولذلك يميل العقل دائمًا ناحية ارتكاب النوع الأول من الأخطاء والميل نحو الاعتقاد بوجود نمط حتى ولو كانت نسبة صحة ذلك ضئيلة. ولذلك أيضًا يجب علينا الاعتراف أننا مدينون للعقل ولذلك العيب الخلقي بحياتنا وحياة أسلافنا بل وأحفادنا أيضًا، حتى ولو عنى ذلك ارتكاب الكثير من أخطاء النوع الأول، لا مانع في ذلك، المهم ألّا نرتكب أخطاء النوع الثاني أبدًا.

خاتمة: لا تقع في غرام فرضيتك

إن كان الواقع ليس حقيقيًا كما نظن، وإدراكنا الحسي ليس بالدقة التي نحلم بها، بل وأيضًا عقولنا تخدعنا معظم الوقت فتعمينا عن رؤية ما أمامنا حينًا، وتجعلنا نرى ما ليس موجودًا أحيانًا أخرى. وإن كانت حواسنا ليست جديرة بالثقة لهذا الحد ومقاييس الواقع مهلهلة لهذه الدرجة، ماذا علينا أن نفعل حيال كل هذا؟

هنا يأتي دور مقولة مهمة للبيولوجي البريطاني الحائز على نوبل «بيتر مدور» حيث يقول:

لا تقع في غرام فرضيتك.

ليس بالضرورة أن كل شيء موجود يمكنك رؤيته، وليس بالضرورة أن كل ما تراه موجود من الأساس. وذلك يعني أن العالم بالنسبة لك هو فرضية موجودة في رأسك فقط، تنتبه لأشياء وتتجاهل أشياء أخرى، والأحرى بك ألّا تصدق كل ما ترى، بل وتكون مرنًا مع فرضيتك للعالم وتُذكِّر نفسك باستمرار أن ما تراه ليس العالم، بل منظورك عنه، ليس الواقع بل الزاوية التي اخترت أن تنظر للواقع من خلالها، ليس الحقيقة الموضوعية، بل مجرد النتيجة المترتبة عن خداع حواسك.

وتتحلّى بالتواضع والمرونة الكافية حتى تصير قادرًا على تحديث فرضيتك باستمرار، بل والتشكيك فيها وفيما يمليه عليك عقلك إذا ما شعرت في أي لحظة من اللحظات أن فرضيتك ليست في صالحك.

فمجددًا هي مجرد فرضية، ليست حقيقة وليست حتمية، لأننا لو نظرنا للعالم فلن نرى شمسًا فوقنا ولا أرضًا تحتنا، بل عينًا ترى الشمس وقدمًا تتحسس الأرض، لذلك تذكر دائمًا، كلما هجم عليك شبح اليقين أو تمكن منك غرور العقل، ألّا تقع أبدًا أبدًا في غرام فرضيتك.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.