واحدة من أشهر السلاسل عالميًا في تبسيط المواد الأساسية للطلبة هي سلسلة للأغبياء For Dummies، وكذلك سلاسل كـ ridiculously simple made، التي تتخذ عنوانًا غريبًا قليلًا لكنه معبر، حيث يحاول صانعوها تبسيط أعقد العلوم بصور سهلة الفهم والاستذكار، يعتمد تبسيط المعارف والعلوم في رأيي على قاعدة أساسية تتكون من جزأين:

1. قلل من توقعاتك عن معرفة الجمهور بالكلمات المعقدة والمصطلحات الثقيلة، وارفع من توقعاتك عن ذكاء نفس الجمهور، أعطهم كلمات كثيرة سهلة ولا تعاملهم كأغبياء.

2. إصنع جزرًا منفصلة مشروحة جيدًا، ثم ابنِ جسورًا قصيرة واضحة بينها. الآن لنبدأ ببناء بعض الجزر.


مقدمة في الثقوب السوداء

الثقوب السوداء عوالم خطرة، تتكون حينما تنهار نجوم عملاقة وتنسحق على ذاتها، تعلمنا النسبية العامة لأينشتين أن لها قوة جذب عظيمة للدرجة التي تمنع شعاع الضوء نفسه من الهرب، دعنا نتعلم ذلك بالطريقة التالية:

ثقب أسود
يجب أن تقفز بسرعة أكبر من سرعة الإفلات لكيلا تعود للأرض

كل جسم في الكون له جاذبية، تحتاج لكي تفلت من جاذبيته أن تقفز بسرعة ما، لكي تفلت من جاذبية الأرض تحتاج أن تركب صاروخًا يقفز بسرعة 11.2 كم/ثانية، أي سرعة أقل من ذلك سوف تمنعك من الهروب، ومن المشترى – كوكب أكبر – تحتاج لصاروخ ينطلق بسرعة 59.6 كم/ث، ومن الشمس – نجم ضخم- سوف تحتاج لصاروخ ينطلق بسرعة 617.5 كم/ث، وهكذا … كلما ازدادت جاذبية الجسم ازداد احتياجنا لسرعة أكبر لكي نفلت منه، لذلك تسمى «سرعة الإفلات»، لكن مع الثقب الأسود نحتاج أن نهرب بسرعة أكبر من سرعة الضوء التي هي بالفعل أسرع شيء في الكون، لذلك لا يمكن لشيء أن يفلت من أفق حدث ثقب أسود ما، أفق حدث؟

ثقب أسود
خلف أفق الحدث لا يمكنك الهروب

أفق الحدث Event Horizon هو منطقة حول الثقب الأسود تمثل الحد الذي لا يمكن لأي شيء، حتى الضوء نفسه، أن يفلت منها، مقدمة تلك المساحة التي يتمكن الثقب الأسود من الإمساك بالضوء نفسه بداية منها وحتى المفردة بالداخل، لذلك لا نستطيع أن نرى ما يحدث خلف أفق الحدث، لأن أي شعاع ضوء أو إشارة لاسلكية أو صوتك مناديًا على زميلك في الخارج لينقذك، أي شيء يحاول الإفلات من تلك المنطقة لإبلاغ أعيننا أو أجهزة الراديو الخاصة بنا بما يحدث هناك لن ينجح، لذلك سوف يبدو الثقب الأسود ككرة سوداء، تلك التي نعرفها من فيلم Interstellar، سطح الكرة الأسود هو أفق الحدث، ليس أفق الحدث حاجزًا أو جدارًا ما، بل هو أشبه بتلك النقطة قبل الدخول في الشلال والتي عندها لا يمكنك العودة بقاربك مهما امتلكت محركاتك من قوة، عندها لا تشعر بشيء مميز غير الخوف من الموت في نهاية الشلال.

ثقب أسود
ثقب أسود

حول الثقب الأسود خارج أفق الحدث تدور سحابة ضخمة من الغاز والغبار تسمى «قرصًا مُزوِّدًا Accretion disc»، وفي منتصف الثقب الأسود يوجد ما ندعوه المفردة Singularity، وهي النقطة التي ربما ينسحق فيها كل شيء يدخل للثقب الأسود، لكنها ليست موضوعنا الآن، موضوعنا هو عن مقال مكتوب في ملف نصي Word!


المعلومات في الفيزياء

أنا أكتب هذ المقال الآن، بينما أضغط على أزرار لوحة المفاتيح فأنا أرفع من مساحة المقال على الذاكرة، مع كل معلومة، كلمة، حرف، أرفع من عدد «البت» – وحدة المعلومات – على الكومبيوتر، البت هو أصغر وحدة تخزين ممكنة. كل بايت يتكون من 8 بت. في بعض الأحيان أفشل في صياغة مقال جيد، ليكن بمساحة 130 كيلوبايت، عندها أقوم بحذف الملف من على جهاز الكومبيوتر، هل يعني هذا أن المعلومات التي يتضمنها هذا الملف قد تم حذفها من الوجود؟

لا، تعلمنا الديناميكا الحرارية أن الطاقة والمادة لا تفنى ولا تستحدث من عدم ولكن يمكن تحويلها من صورة لأخرى، ما يحدث في الكون كله هو عملية تحولات للطاقة والمادة من صورة لأخرى، يمكن تطبيق ذلك المبدأ على المعلومات أيضًا، في عالم الميكانيك الكمومي لا يمكن للمعلومات أن تُفنى، ما يحدث عندما أحذف الملف من على الكومبيوتر هو أنه يتحول لطاقة في صورة حرارة، تلك التي تشعر بها أسفل الـ لابتوب الخاص بك. لكن، في عالم الفيزياء، ما هي المعلومة؟

هي حالة كل جسيم في الكون: كتلته، الموضع، السرعة، اللف، درجة الحرارة … حينما نقول المعلومة التالية: «سيارة أحمد في المنصورة بجوار الجامعة»، فالمعلومة لا توجد في المقال الذي ذُكرت فيه، ولا في صفحة الفيسبوك التي نُشرت عليها، ولا في دماغنا حينما نتبادلها معًا، ولا في اللغة التي كتبناها بها، قد نكون كتبناها بإشارات مورس أو بالعربية أو باللاتينية أو بلغة الكومبيوتر، كل هذا لا يهم، لأن المعلومة توجد في المنصورة بجوار الجامعة.

المعلومة في فيزياء الكم ليست مادة، ليست شيئًا ما يمكن لمسه، ليست طاقة، ليست شيئًا نختبره بجهاز ما، على مدى تاريخنا استطعنا تطوير أدواتنا لضمان نقل المعلومات من مكان لآخر ومن صورة لأخرى بطرق دقيقة حتى وصلنا في النهاية للرياضيات المجردة. لنفترض الآن أننا قررنا حرق إحدى أهم روايات نجيب محفوظ، ثرثرة فوق النيل، هل تضيع المعلومات المذكورة بها للأبد؟

لا، يمكن نظريًا جمع كل ذرة دخان وطاقة ورماد لإعادة بناء رواية محفوظ من جديد. لكن، ما الذي يحدث حينما نقرر إلقاء نفس الرواية في ثقب أسود يسحق كل شيء بداخله، أليس ذلك خرقًا لقاعدة حفظ المعلومات التي تعلمناها منذ قليل؟

تعطينا النسبية العامة إجابة جيدة عن فقدان معلومات الرواية في الثقب الأسود، سوف تكون هذه الجزئية صعبة قليلًا لأن لها علاقة بتلاعب النسبية في ساعات المسافرين، لكن دعنا نحاول، حينما نلقي بالرواية في ثقب أسود هناك طريقتان لرؤية ذلك:

بالنسبة للرواية: سوف تقترب من الثقب الأسود، تتخطى أفق الحدث، لن تشعر بذلك، تستمر في السقوط حتى تنسحق في المفردة.

بالنسبة لنا: تقترب الرواية من الثقب الأسود، تتباطأ حركتها بالنسبة لنا تدريجيًا وتضعف ألوانها منزاحة نحو الأحمر، ثم سوف يبدو لنا أنها تجمدت على أفق الحدث تمامًا، للأبد. ما يحدث هنا له علاقة بنسبية أينشتين، كلما اقترب الكتاب من الثقب الأسود ذا المجال الجذبوي العالي يتباطأ زمنه بالنسبة لنا. دعنا نضرب نفس المثال بالنسبة لشخص يسقط في ثقب أسود:

الكتاب إذن يسقط وتبقى معلوماته بالنسبة لنا في الخارج، إنهما وجهتا نظر لنفس النقطة. كل شيء يدخل للثقب الأسود سوف يبدو بالنسبة لنا متجمدًا عند الأفق، هنا لا مشكلة، حيث لن نكسر قانون بقاء المعلومات الذي تعلمناه منذ قليل، فمعلومات رواية نجيب محفوظ لا زالت محفوظة عند الأفق نظريًا. لكن، هل تعيش الثقوب السوداء للأبد؟


مفارقة معلومات الثقب الأسود

ثقب أسود
ثقب أسود

واجه ستيفن هوكنج في منتصف السبعينات 1974 معضلة مرعبة ظن في البداية أنها خلل حسابي ما في العمل الرياضي الذي يقوم عليه، وهي أن الثقب الأسود قادر على بث جسيمات في صورة إشعاع، والتبخر فيما بعد، ثم اكتشف هوكينج أن ذلك لم يكن خطأ رياضيًا، بالفعل تطلق الثقوب السوداء ما نسميه «إشعاع هوكينج». لكن، ألم تقل منذ قليل أن الثقب الأسود يجذب كل شيء؟ كيف يمكن إذًا أن يطلق إشعاعًا؟

هنا تتدخل ميكانيكا الكم لوضع إجابة مختلفة قليلًا، تعلمنا ميكانيكا الكم أنه لا يوجد في الكون ما ندعوه الفراغ المثالي، لأن ذلك يخرق قاعدة هامة، مبدأ عدم التأكد، دعنا لا نفتح الباب للحديث عن غرائب ميكانيكا الكم الآن، لنتعلمها كالتالي:

في هذا الفراغ، تتولد جسيمات افتراضية من المادة والمادة المضادة بشكل لحظي ثم تلتقي معًا مرة أخرى وتُفني بعضها في زمن قصير للغاية، كلمة «افتراضية» هنا لا تفي المصطلح معناه، هو في النهاية مصطلح غاية في التعقد حتى على المتخصصين في المجال، دعنا نتعامل معها على أنها نوع من الاضطراب. الأمر كأن نقول أن حاصل جمع «1» و«-1» هو «0»، فراغ. تسمى تلك الظاهرة «التموج الكمومي Quantum fluctuations»، يحدث ذلك بشكل طبيعي في الفراغ وتستمر الجسيمات الافتراضية في التولد والتلاشي، وهكذا.

لكن عند أفق الثقب الأسود، وهو منطقة ذات قدرة على جذب أي شيء مهما كان، قد يحدث في ذلك الزمن القصير جدًا حينما ينفصل أحد الجسيمين الافتراضيين – وقبل أن يلتقي برفيقه مرة أخرى – أن يسقط في الثقب الأسود، فيدخل إليه مضطرًا بسبب قوة جذبه ، فينطلق الآخر كإشعاع هوكينج. يتحول الجسيم الافتراضي المنطلق كإشعاع هوكينج ليصبح جسيمًا حقيقيًا مكتسبًا طاقة موجبة، ويحتم ذلك أن يسقط رفيقه للثقب الأسود بطاقة سالبة، تلك التي تتسبب في إنقاص كتلة الثقب الأسود وتبخره تدريجيًا حتى ينتهي، هناك رياضيات معقدة للغاية تصف هذا الحدث الغريب، لذلك فالأمر ليس بتلك البساطة التي أشرحها.

ثقب أسود
ثقب أسود

يتناسب إشعاع هوكينج عكسيًا مع كتلة الثقب الأسود، الثقوب السوداء العملاقة قد تعيش لمدة غاية في الطول حتى تتبخر، ذلك لأن فقدانها للطاقة عبر الإشعاع قليل للغاية، أما عن ثقب أسود في حجم سفينة سياحية فسوف يتبخر في أقل من ثانية، دعنا نتأمل تلك المعادلة، لا تلتفت للرموز الكثيرة، كلها ثوابت، هل تلاحظ العلاقة العكسية بين T وM ؟

ثقب أسود
ثقب أسود

هنا ظهرت مفارقة المعلومات information paradox، فالثقب الأسود يتبخر، وتتبخر معه كل المعلومات التي سقطت فيه، وهذا يعني أن المعلومات يمكن بالفعل أن تُفقد تمامًا، وبذلك نخرق أحد أعمق قوانين الفيزياء. لنضرب مثالًا آخرَ مشهورًا:

دعنا نُلقي بـكل من: «ثرثرة فوق النيل» وهي رواية بغلاف ثقيل نسبيًا كتلتها 1 كيلوجرام، وسمكة وزنها 1 كيلوجرام في ثقب أسود. نعرف أن كتلة الثقب الأسود سوف تزيد بعد سقوط كل من الكتاب والسمكة وأي جسم يلقى مصيرًا مشابهًا، ثم يخرج «إشعاع هوكينج» بكم مقابل للسمكة ورواية محفوظ ولكل جزء في كتلة الثقب الأسود. لكن، لنرفع من درجة تركيزنا قليلًا هنا، لاحظ أن الرواية التي تسقط في الثقب الأسود ليست هي ما يتم إشعاعه من الثقب، إشعاع هوكينج كما وضحنا لا علاقة له بالرواية والمعلومات التي تتضمنها، إنما له علاقة بجسيمات افتراضية حول الأفق، بذلك إشعاع هوكينج الذي يخرج لا يعطينا أي معلومات تميز بين الرواية والسمكة، هو يتناسب مع كتلة كل منهما فقط، حسب المعادلة السابقة، الموضوع هنا لا يشبه حرق كل منهما في نار عادية ثم جمع البقايا وبناءه من جديد، نظريًا، الوضع يشبه أن نحذف ملف وورد لمقال ركيك من الوجود، نهائيًا وأبدًا!

ثقب أسود
لا يمكن لإشعاع هوكينج أن يعطينا معلومة تميز بين الرواية والسمكة، هناك معلومات مفقودة إذًا

يمكن إذًا للمعلومات أن تُفقد، كانت تلك الملاحظة، التي أثارها هوكينج بذكاء شديد، هي مركز دراسة فيزياء الثقوب السوداء من السبعينات وإلى الآن، لكن مشاكل الثقب الأسود بدأت قبل هوكينج ومعادلته الشهيرة، سنة 1972 تسائل جاكوب بيكنشتاين: ماذا يحدث حينما نلقي بكوب شاي ساخن لثقب أسود؟

يبدو أن لعبة إلقاء الأشياء في الثقوب السوداء هي جزء أساسي من حياة بعض الفيزيائيين النظريين، أساسي كالزواج مثلا في كل الأحوال، لم تكن إجابة هذا السؤال مقدمة لمعادلات هوكينج فقط، بل كانت مقدمة لبناء فيزيائي جديد غاية في الغرابة نسميه «الكون الهولوجرام»، هل يمكن أن نكون أنا وأنت ومذيعو التوك شو وقارة أفريقيا والأرسنال ومدفع رمضان عبارة عن معلومات مُلصقة على ما يشبه قرص مدمج ما في مُشغِّل كوني عجائبي؟!

المراجع
  1. The Black Hole War: My Battle with Stephen Hawking to Make the World Safe for Quantum Mechanics by Leonard Susskind
  2. An Introduction to Black Holes, Information and the String Theory Revolution: The Holographic Universe by Leonard Susskind, James Lindesay