الحج قبل تطور وسائل النقل كان يُسبب مشقة كبيرة لممارسيه، وتوجد عبارة شائعة في كتب التراجم، تعبر عن هذه المعاناة، وهي «مات في طريق الحج».

فقد كان قطَّاع الطرق ينهبون قوافل الحج، وفي الأحوال الجيدة يفرضون على أفرادها إتاوات ليسمحوا لهم بالمرور، وقد يقتلون من فيها أحيانًا. وإن لم يمت الحاج من قاطع طريق، فقد يموت جوعًا أو عطشًا إن لم يستطع شرب بوله أو بول جمله، أو قد يموت على يد جيش العدو.

هذه المصاعب دفعت إلى الإفتاء بسقوط فريضة الحج أحيانًا، بل إن هناك خليفة للمسلمين من أهل السنة صَنَع مجسمًا يشبه الكعبة للطواف، بدلًا من الذهاب إلى مكة، وظهرت تنظيرات دينية كثيرة تخفف من شأن فرضية الحج إلى مكة، وأن بالإمكان الاستغناء عنه إذا ما شق الأمر.

في السطور التالية نستعرض أشهر طرق الحج، والأهوال التي واجهها الحجاج في العصور الإسلامية الوسطى بها، والتنظيرات الدينية التي نتجت عن ذلك.

3 طرق أساسية لمكة

هناك 3 طرق أساسية كان يفد من خلالها معظم الحجيج إلى مكة، أولها من مصر، ومنه يأتي حجاج الأندلس والمغرب العربي وأفريقيا عمومًا. والثاني من الشام، ومنه يأتي حجاج الترك والمغول وشعوب شمالي آسيا. أما الثالث فكان من العراق، ومنه يأتي حجاج فارس وخراسان ودول أواسط وشرق وجنوب آسيا.

الطريق المصري: 45 يومًا من القاهرة لمكة

كان حجَّاج المغرب العربي والأندلس يأتون بحرًا (في الغالب) حتى الإسكندرية، ومنها إلى القاهرة، ومن القاهرة ينطلقون في مراكب نيلية مع الحجاج المصريين جنوبًا إلى مدينة قوص.

وفي قوص يتركون المراكب وينطلقون برًّا عبر صحراء مصر الشرقية حتى البحر الأحمر، حيث ميناء «عيذاب»، التي تقع ضمن مثلث حلايب حاليًّا، ليعبروا بالمراكب إلى جدة، ومنها إلى مكة المكرمة.

كانت الرحلة تستغرق من القاهرة إلى مكة في أفضل تقدير 45 يومًا، فما بالك بالمغاربة والأفارقة! وقُدِّر الطريق من مكة إلى الفسطاط بمصر بحوالي 854 ميلًا.

ظل هذا الطريق هو الأساسي للحج، حتى نشط طريق ثانٍ في عهد السلطان الأشرف برسباي، عبر سيناء، حيث نقل الجُمرك من «عيذاب» إلى الطور والسويس في عام 830هـ/1426م، ليتحول طريق الحج المصري إلى شبه جزيرة سيناء والعقبة، وبعد العقبة قد يلتقي الحجاج المصريون بقافلة الحجيج القادمة من الشام، ويسلكون نفس الطريق.

طريق الحج الشامي: 30 محطة في الطريق لمدينة الرسول

كان الطريق يبدأ في الغالب من دمشق بشكل أساسي، أو حلب، ويمر ببادية الشام (الأردن حاليًّا)، ثم الدخول إلى ما يُعرف اليوم بالحدود السعودية، حتى يصل المدينة.

قبل أن يصل الحجاج المدينة يكونون قد مروا على 30 موضعًا، فيستريحون بمدينة الرسول وينعمون بزيارة قبره، وينطلقون بعدها إلى مكة، في مسافة قُدِّرت بين دمشق ومكة بحوالي 728 ميلًا.

طريق الحج العراقي: شهر في الصحراء بين مكة وبغداد

كانت بغداد محطة مركزية في طريق الحج الآسيوي، ومنها كان الحجاج ينطلقون إلى الكوفة والبصرة، ومن البلدين يبدأ خطان للمسير إلى مكة، عبر صحراء شبه الجزيرة العربية.

وفي الغالب كان السفر عبر أحد الطريقين يستغرق شهرًا، في مسافة قُدِّرت من مكة إلى بغداد بحوالي 642 ميلًا.

الأعراب وقطع الطريق: حين فرض اللصوص جباية على دولة الخلافة

كان القرامطة المتمردون على الدولة العباسية، ثم الفاطمية، يخرجون على قوافل الحج ويفتكون بمن فيها وينهبونها. وبسبب هذه الأوضاع الأمنية المتوترة دخل الأعراب على الخط وقلَّدوا القرامطة، وفرضوا جباية على الحجاج في الطريق، ليسمحوا لهم بالمرور آمنين.

وأحيانًا كانت تدفع الدولة الجباية بنفسها للأعراب، الذين اشتهر منهم قائد يسمى «الأصيغر»، والذي تداولت المصادر اسمه كرجل تحسب له عاصمة الخلافة وحكومتها البويهية الحسابات.

ففي عام 385هـ أرسل السلطان البويهي بهاء الدولة -المسيطر على الخلافة- إلى الأصيغر 9 آلاف درهم، عوضًا عمَّا كان يأخذه من الحجاج وصار ذلك رسمًا له.

وفي سنة 384 هـ – 994م خرج الحجاج من العراق، فاعترضهم الأصيغر، ومنعهم من العبور، وقال لهم إن الدنانير التي أرسلها الخليفة العام الماضي كانت مغشوشة (دراهم مطلية)، وأنه لن يسمح لهم بالمرور إلا بعد أن يعطوه جبايته المستحقة لعامين مقبلين، وطالت المخاطبة والمراسلة حتى ضاق الوقت على الحجاج فرجعوا، ولم يذهبوا للحج.

كذلك كان هناك بني خفاجة الذين بلغت بهم الجرأة حد خطف بعض الحجاج، وجعلهم يعملون لديهم كرعاة للغنم، ولم يعلم ذووهم عنهم شيئًا لسنوات، وظنوهم ماتوا في الطريق، وحين هرب بعضهم وعادوا لبلدانهم وجدوا تركاتهم قد وزعت، وزوجاتهم قد تزوجن من غيرهم.

على الجانب المصري، كانت قبائل البُجاة الساكنة في مثلث حلايب قساة على الحجاج، ينهبون أموالهم بدعوى توفير الركائب لهم، لينقلوهم بها إلى ميناء عيذاب، وكان المغاربة والأفارقة يعانون أكثر من المصريين، فقد كانت تفرض عليهم رسومًا إضافية، ومن لا يدفع يعود إلى حيث أتى.

ويصف الرحالة الأندلسي ابن جبير الذي سلك طريق عيذاب للحج حال الحجاج مع البجاة فيقول: كان الحاج معهم كالأسير!

ولم تقف معاناة الحجاج المصريين والمغاربة عند ذلك، فقد كان البحر أيضًا من عيذاب إلى جدة مهلكة لهم، بسبب جشع المراكبية ورغبتهم في تكديس المراكب بأكبر عدد، طمعًا في المال.

ويصف ابن جبير وضع الحجاج على المراكب فيقول:

يشحنون بهم الجلاب (المراكب) حتى يجلس بعضهم على بعض، وتعود بهم كأنها أقفاص الدجاج المملوءة، يحمل أهلها على ذلك الحرص والرغبة في الكراء، حتى يستوفي صاحب الجلبة منهم ثمنها في طريق واحدة.

أما قوافل الشام فعانت من اللصوص وقاطعي الطريق، وكانت هناك محطة أساسية في الطريق تسمى إسطبل عنتر، قبلها مباشرة موضع يسمى آبار الحلو، اشتهر بوجود اللصوص فيه، حيث كانوا يرصدون حركة المحمل الشامي، وينصبون الكمائن للحجاج وينهبونهم.

وبجانب ذلك كانت قوافل الحج الشامية في سنين كثيرة عرضة للنهب من الصليبيين، وقت احتلالهم بلدانهم، وكثيرًا ما أُلغي الحج هناك من الأساس؛ لاستحالة المرور بسبب الحروب والصراعات.

الموت جوعًا وعطشًا: حين تبول الحاج في كفه وشرب

طرق الحج جميعها تمر بصحارى قاحلة، وحين يفقد الحاج ماءه أو زاده يتعرض للهلاك، وهو ما حدث كثيرًا، واضطر بعضهم للتبول في كفه ليشرب، أو يشرب من بول بعيره، بل قد ينحر بعيره ليأكلها، رغم أنها وسيلة نقله.

وهناك بعض الحوادث المشهورة حول ذلك، منها ما وقع عام 402هـ – 1011م حين هاجت الريح وفقد الحجاج القادمون من العراق الماء وهلك منهم كثيرون، وبلغ ثمن قربة الماء الواحدة مائة درهم.

وفي العام التالي سبق الأعرابُ الحجاجَ إلى مواضع آبار وبرك الماء فنزحوها وغوروها، ووضعوا الحنظل بها ليصبح ماؤها مُرًّا، ثم ترصدوا الحجاج ومنعوهم من الاجتياز، قبل دفع جباية كبيرة.

وقيل إن هذه الواقعة أدت لوفاة 15 ألف حاج بسبب العطش، ولم يفلت إلا عدد يسير، وبسببها خرج والي الكوفة، بأمر من عضد الدولة البويهي، بجيش يطارد الأعراب في الصحراء وقتل منهم الكثيرين، وأسر 15 منهم، وأرسلهم إلى بغداد، فشُهر بهم وتعرضوا لأشد تعذيب.

سُجن الأعراب وتُركوا ليجوعوا، ثم أُطعموا طعامًا شديد الملوحة، وعطشوهم، وأخذوهم مقيدين إلى نهر دجلة لينظروا إلى الماء ولا يشربون منه، وتُركوا كذلك حتى ماتوا عطشًا.

ومما يحكيه ابن الجوزي عن حوادث عام 405هـ – 1014م أن عدد الحجاج بلغ 20 ألفًا، تعرضوا جميعًا لعطش شديد، فلم ينجُ منهم إلا 6 آلاف فقط، من الذين شربوا أبوال الجمال وأكلوا لحومها.

ويحكي ابن جبير أن المسافة بين قوص في مصر والنيل كانت قطعة من العذاب، معتبرًا أن وفاة بعضهم نتيجة العطش كانت معتادة، وكان نهب الحمالين من قبائل البجاة لأمتعة الحاج المتوفى أمرًا معتادًا أيضًا.

ويصف الرحالة الأندلسي حال الحاج حين يصل ميناء عيذاب فيقول إنه كان يشبه الميت: « كأنه مُنشر من كفن».

كان الطريق من قوص إلى عيذاب نادر المياه، لدرجة أن المحطات الأساسية للراحة به كانت تسمى أغلبها بأسماء آبار المياه الموجودة بها، منها بئر تسمى «بئر العبدين»، وسُميت كذلك لأن عبدين ماتا عطشًا قبل وصولهما إليها.

لكل ما سبق كانت عودة الحجاج لبلدانهم عيدًا، وفي بغداد عاصمة الخلافة العباسية كان الخليفة يستقبل الحجاج العائدين بنفسه، سواء العراقيون أو الآسيويون المارون بالعراق، وكان يمكن أن يستغل ذلك سياسيًّا، كما حدث عام 391هـ – 1000م، حين استغل الخليفة القادر بالله حفل استقبال الحجاج وأخذ منهم البيعة لولي عهده.

الحج البديل: كعبة سامراء والقدس ومسجد يونس

كان الذهاب للحج والعودة منه يعد كرامة من الكرامات للحاج؛ لأن احتمالية الهلاك كانت عالية، وفقدان الحاج وعدم معرفة الموضع الذي مات فيه كانت واردة جدًّا.

صدرت فتاوى بإسقاط فريضة الحج، خاصة في الأندلس والمغرب، منها فتوى الفقيه المالكي أبو بكر الطرطرشي (ت 520هـ – 1126م)، الذي قال: «فمن خاطر وحج سقط فرضه، ولكنه آثم بما ارتكب من الغرر».

ولذلك فإن كل خلفاء الأندلس لم يحجوا، ولم يحج أغلب خلفاء بني العباس (ربما لم يحج منهم سوى المنصور، والهادي، والرشيد)، وكذلك لم يحج من خلفاء بني أمية إلا القليل، ولم يحج أي خليفة فاطمي، وكذلك لم يحج أي خليفة عثماني، وقيل إن بعضهم حاول أن يحج وقُتل أو مرض، أو أن منهم من حج سرًّا ولم يعلن.

وفي المقابل نلحظ وجود محاولات لتعويض هذه المتعة الروحية، فنجد الخليفة العباسي المتوكل (ت 247هـ – 861م) يبني بمدينة سامراء مجسمًا يحاكي الكعبة، وجعل حوله طوافًا، وكذلك حاكى شعائر منى وعرفات، ليغري بذلك أمراء كانوا معه طلبوا الذهاب للحج، فخشي أن يفارقوه.

وفي الشام كان من لا يستطيع الحج إلى مكة يقصد بيت المقدس في موسم الحج، ويذبح الأضحية هناك. واجتمع في القدس أكثر من 20 ألف حاج في بعض السنين.

وفي العراق زعم البعض أن سبع زيارات لمسجد النبي يونس في نينوى تعادل حجة، رغم أن المسجد بنته جميلة بنت ناصر الدولة (ت 373هـ)، وفي الغالب لا يوجد به جثمان النبي يونس.

الصوفية كانت لهم عادات قاسية في العبادة، ومنها الحج سيرًا على الأقدام دون زاد ولا مال، وذكر أن أحدهم كان يصلي في طريقه لمكة ركعتين عند كل ميل! ومع ذلك فإن لهم كلامًا روحيًّا ساهم في إراحة قلوب بعض من يتعسر عليهم الحج.

الفيلسوف واللغوي الصوفي أبو حيان التوحيدي (ت 414هـ – 1023م)، وضع مؤلَفًا بعنوان «كتاب الحج إذا ضاق الفضاء عن الحج الشرعي».

ويؤثر عن أحد الصوفية قوله: عجبت لمن يقطع البوادي والقفار ليصل إلى بيت الله وحرمه؛ لأن فيه آثار أنبيائه، كيف لا يقطع نفسه وهواه حتى يصل إلى قلبه لأن فيه آثار مولاه؟!

ويروى أن الوزير نظام الملك (ت 485هـ – 1092م) خرج للحج، فلما عبر نهر دجلة وضرب خيامه جاء فقير تلوح عليه سمات الصوفية، وأعطاه رقعة مطوية كتب فيها: رأيت النبي وقال لي: اذهب إلى الحسن وقل له: أين تذهب؟ إلى مكة؟ حجك ها هنا! أما قلت لك: أقم بين يدي هذا التركي وأعن أصحاب الحوائج من أُمتي؟ فرجع نظام الملك ولم يحج.

ويقول الهجويري (ت 465هـ – 1072م) الصوفي الشهير، صاحب «كشف المحجوب»، إن الحج نوعان: الأول في الغيبة، والثاني في الحضور. فمن كان غائبًا عن الله في مكة كمن كان غائبًا عنه في بيته، ومن كان حاضرًا مع الله في بيته فكأنه حاضر في مكة … فالحج مجاهدة لكشف المشاهدة، والمجاهدة ليست علة للمشاهدة، ولكنها وسيلة لها … فليس المقصود من الحج رؤية البيت بل المقصود الحقيقي مشاهدة الله.

كانت هذه الأقوال والممارسات بالتأكيد لها دور في تخفيف المعاناة النفسية عن الراغبين في الحج ولا يستطيعون، أو يخافون الهلاك في الطريق، بجانب الفتاوى بإسقاط الفريضة.

المراجع
  1. «التنبيه والإشراف» للمسعودي
  2. «المنتظم» لابن الجوزي
  3. «الكامل» لابن الأثير
  4. «جارب الأمم» لابن مسكويه
  5. «صلة تاريخ الطبري» لعريب بن سعد القرطبي
  6. «كتاب الوزراء» للجهيشاري
  7. «البدء والتاريخ» للمقدسي
  8. «طبقات الشافعية» للسبكي
  9. «سفر نامة» لناصر خسرو
  10. «كشف المحجوب» للهجويري
  11. «الرسالة القشيرية» للقشيري
  12. «رحلة ابن جبير» لابن جبير الأندلسي
  13. «الحضارة الإسلامية» لآدم متز
  14. «الحج إلى الحجاز في العصر المملوكي» لهيام علي عيسى