في 22 يوليو الماضي شهدت مدينة «كليفلاند» خطاب قبول «دونالد ترامب» لترشيح الحزب الجمهوري له لانتخابات الرئاسة. الخطاب الأطول في تاريخ مؤتمرات الحزب الجمهوري والذي شاهده قرابة ال30 مليون شخص عبر التلفزيون، سبب ارتباكًا وصدمة للكثيرين داخل وخارج الولايات، فخطاب ترامب احتوى على عنصرية متطرفة تجاه العديد من الفئات، المهاجرين واللاجئين، والسود والأقليات الجنسية، بالإضافة لوعده بإلغاء بعض المعاهدات التجارية وتفكيك حلف «الناتو» والقضاء على «داعش» بالطرق التقليدية (الحرب)، وعودة تدعيم الحليف التقليدي «إسرائيل» بقوة، ووعيد صريح بضرورة حبس الخصوم كـ«هيلاري كلينتون» و «أوباما». وبمجرد انتهاء الخطاب سادت حالة من الجنون بين بعض مؤيدي ترامب، فبعضهم مارس العنف في الطرقات ضد مؤيدي المرشح الخصم، أو ضد ما دعاهم ترامب بأعداء أمريكيا. المحللون الاقتصاديون وصفوا خطة ترامب الاقتصادية بالمجنونة والمهددة بالخطر للبنية الاقتصادية الأمريكية، أما المهاجرون فيعيشون حالة من القلق البالغ نظرًا لوعد ترامب بتهجيرهم في حالة فوزه. تلك الحالة المجنونة لم تكن مستبعدة وخصوصا في الدراما الأمريكية، فتفكك البنية السياسية التقليدية، وضعف الحزب الديموقراطي والجمهوري وعدم قدرتهم على مواجهة الأزمة الاقتصادية (الوجودية) التي تهدد كل سكان أمريكا وقابلية هذه الأزمة للانفجار في أي وقت وأكثر من مرة، والحلول التقليدية الدائمة والمخيبة للآمال التي يتبناها السياسيون الأمريكون، تؤدي هذه الأزمات لظهور تلك الأمثلة الشاذة مثل ترامب وزيادة قدرتها على الوصول لأعلى المناصب بما فيها منصب الرئيس، ودفع العالم لمرحلة جنونية في حالة وصولهم، وهذا ما ظهر جليًا من خلال مسلسل «House Of Cards» الذي أنتجته شركة «Netflix».


الذات هي الموضوع:

– لايمكنا التعامل مع كل مشكلة على حدة، ولكن إن استغللنا هذا لصالحنا.- نخلق الفوضى؟ – أكثر من الفوضى- الحرب الخوف الهمجية؟ – سئمت محاولة استمالة الناس. – فلنهاجمهم أذن.
حوار بين فرانك وكلير

الذكي في مسلسل «House Of Cards» أن موضوعه الأساسي ليس السياسة الأمريكية، السياسة الأمريكية هي الميدان الذي تدور فيه قصة المسلسل، ولكن موضوعه الرئيسي هو شخصية «فرانك أندرود» وزوجته «كلير أندرود». فالمسلسل استعرض في أكثر من موسم رؤية فرانك وكلير العدمية للحياة، وبالتالي قرر الزوجان صنع مشروعهم القائم على السيطرة على هذا العالم العدمي، وتحويله لما يتفق مع أهدافهم وصنع مجدهم الخاص.ما شكل أهدافهم ورؤيتهم حين يسيطرون على العالم؟ لا أحد يعرف ولا هم يعرفون وهذا يناسب منظورهم العدمي، فهم يركزون على الوصول لنقطة «سيطرتهم على السلطة في أمريكا وبالتالي سيطرتهم على العالم» ويعتبرون العالم ينتهي بعدها، هل يرغبون في تذكُّر العالم لهم بعد موتهم؟ لا، يبدو أن الزوجان لا يريدان هذا ولا يهتمون به وهو ما ينعكس في رفضهم للإنجاب، فمشروع فرانك وكلير هو مشروع ذاتي بلا هدف واضح، وهذا هو مصدر الخوف فيه، فليس هناك رؤية أيدلوجية أو دينية لتلك السيطرة التي يرغبون بها، وهذا ما قد يجعلنا نتوقع أنهم يرون حتمية انتهاء العالم بعد موتهم، فهم ليس لديهم مشروع واضح للسيطرة، سيمتلكون السلطة ولو حتى على أنقاض العالم سينشرون الخوف والفوضى، سيحكمون عالمًا مليئًا بالقتلى ومهدمًا ومعدمًا. الانقطاع عن مصادر الإنسانية هو ما اتبعه فرانك وكلير، فرفضهم للإنجاب وبالتالي رفضهم لاستمرار ذكراهم أو ارتباطهم بإنسان آخر. من رمزيات هذا الموسم هو لحظة إشراف كلير على موت أمها من خلال ما يسمى «الموت الرحيم»، أنهت كلير حياة أمها بنفسها وبيديها، وبذلك نرى قطع كلير لكل صلاتها بالإنسانية، فكما رأينا في المواسم السابقة فكلير كانت دائما مشوشة، تسيطر عليها بعض المشاعر الإنسانية، ورأينا بشكل تدريجي انقطاع هذه المشاعر شيئًا فشيئًا، وموت أمها هو إعلان لانقطاع كلير التام عن المشاعر الإنسانية وبالتالي التفرغ لمشروعها اللا إنساني.


بيت من ورق:

هذا صحيح ،إننا لا نخضع للإرهاب. نحن نصنع الإرهاب.
فرانك أندرود

العبارة السابقة هي آخر ما ذكره فرانك في الموسم الرابع. لعل هذه العبارة تلخص تاريخًا طويلًا من تدعيم السياسة الأمريكية لمختلف أشكال الإرهاب. مشهد مهيب يقتل فيه جهاديون مواطنًا أمريكيًا يبكي من الرعب، المفاجأة هي أن الجهاديين يبكون من الرعب أيضا، لأن فرانك أغلق كل طرق التفاوض المحتملة من أجل دفعهم لقتل المواطن الأمريكي، وهو ما سيؤدي عند عرض المشهد لنشر حالة من الرعب بين المواطنين، هو من أراد صنع هذا المشهد الدموي، الجهاديون مجرمون بكل تأكيد ولكن الأكثر إجراما هو فرانك الذي صمم على عرض المشهد على كل شاشات التلفيزون ليُصِّدر الخوف للجميع ويبدأ حربه، الضحية وقاتليها والعالم يبكي وفرانك وكلير يشاهدون بمنتهى الثبات مجريات خطتهم الأخيرة الجنونية.

فرانك وكلير لم يكونا أبدًا كائنات شريرة في بيئة طيبة، ربما هم كائنات شاذة عن القاعدة وتمحورهم حول ذاتهم وطموحهم استثنائي، ولكن بيئة السياسة الأمريكية الهشة هي ما سمح بذلك، فرانك أندرود بذكائه الحاد وذاتيته الشديدة، أو دونالد ترامب بعنصريته ومحافظته الشديدة، هم النتائج التي ستظهر عاجلا أو آجلا إذا استمرت هذه البيئة السياسية الهشة.

«بيت من ورق» هذا هو الوصف الأدق للسياسة الأمريكية، بناء ضعيف يقوم عليه عدد من الساسة محدودي الذكاء الذين لا يمتلكون أي حلول لأي أزمة سواء اقتصادية أو أزمات اجتماعية أو سياسية، أغلب الساسة وأعضاء «الكونجرس» و«مجلس الشيوخ» سبب ترقيهم يعود إما لخلفيتهم العسكرية، أو لامتلاكهم المال أو قدرتهم على التملق والرغبة في مكانة اجتماعية أفضل، وحماية اقتصادية من الإفقار الذي يواجهه الشعب الأمريكي، تلك هي البيئة التي فقد الشعب الأمريكي الأمل فيها، وبالتالي تكون هذه البيئة السياسة المسدودة مكانًا مناسبًا لظهور فرانك خصوصًا لو امتلك الرغبة والطموح والذكاء والمخاطرة اللازمة لتنفيذ ما يرغبه.

«House Of Cards» مسلسل استثنائي بفلسفته وعرضه للبيئة السياسية الأمريكية، ساعد على عظمة هذا العمل في جميع مواسمه بصفه عامة والموسم الرابع بصفة خاصة الاختيارات المميزة للطاقم التمثيلي، رُشح المسلسل لعشر جوائر إيمي هذا العام من بينها 8 جوائز في فئات التمثيل المختلفة يتقدمهم «كيفن سبيسي» و«روبن وايت» و«مايكل كيلي». على جانب آخر المسلسل مخيف فهو يعرض لك الجانب الممكن مما قد تذهب إليه السياسة الأمريكية وقدرتها على التدمير، وسيزيد هذا الخوف عندما ترى نموذجًا كدونالد ترامب يصعد أمام مؤيديه وهديرهم، ليلقي هذا الخطاب المخيف.