يرمي اللاعب صاحب القبعة الكرة في قوة تجاه خصمه الذي يمسك بالمضرب الخشبي الكبير، فيطوح هذا المضرب ليضرب الكرة ضربة هائلة فتطير عبر الملعب ويرمي هو المضرب أرضًا، ثم يبدأ في الركض في تتابع غريب نحو القواعد الموزعة على الملعب المعيّن الشكل، والجمهور يهتف في حماس، بينما يركض آخر لالتقاط الكرة التي طارت في الهواء، أو يطوح اللاعب الممسك بالكرة كرته ليلقفها زميله الذي يلبس قفازًا عجيبًا وتعاد الرمية.

مشهد معتاد جدًا وربما محفوظ من أفلام البيسبول الأمريكية العديدة، وربما نجده محشورًا في كل فيلم حديث يأخذ فيه البطل حبيبته للمباراة أو يشاهدها في التلفاز في اهتمام، هو أو مشهد من مباراة رجبي، وهي لعبة أمريكية معقدة متحذلقة أخرى. السؤال هنا: هل يفترض بنا أن نتحمس وننفعل لهذه اللعبة غير المفهومة – اللعبة لا تمارس على نطاق واسع إلا في أمريكا واليابان-؟ ما الذي تمثله هذه اللعبة الأمريكية بالكامل لنا؟

هذا مثال بسيط لما تقدمه لنا الشاشة الأمريكية من محتوى لا يتصل بنا ولا يمسنا إطلاقًا، هذا مثال غير مؤذٍ طبعًا إلا في إضاعة الوقت في مشاهدة سخافات لن تزيد في سجلنا المعرفي ولا الإنساني شيئًا.

ماذا عن عشرات التفصيلات الصغيرة التي تنقل لنا الحياة الأمريكية بدقة مطالبة إيانا بالتقليد؟ النظام الأمريكي المتحرر السعيد اللامبالي، والجذاب جدًا مع هذا، نظام المواعدة المركزة بالقدر الأكبر تجاه الجنس، وفريق المشجعات الفاتنات فارغات العقل، وتسلط الأقوياء الحمقى على الأذكياء اللامعين، والقسوة تجاه الأقارب، وحفلات التخرج، وسهرات الجامعة المفرطة في السُّكر والعربدة؟

الأمر لا يقتصر على مجرد المشاهدة، بل هناك التماهي الكامل الذي لاحظته مؤخرًا، الكثير من الأصدقاء يشاركون صورًا واقتباسات من المسلسل الكوميدي الأمريكي الأشهر «Friends» ويجترّون النوستالجيا والشوق إلى ذكرياته وأبطاله، حقًا! هل صار «Friends» من مفردات ماضينا التي نستعيدها بكل حب؟

نحن لا نتحدث هنا عن الصراع المعتاد بين الشرق والغرب، واستيراد القيم والتأثيرات السلبية للعولمة، نحن نتحدث عن عمل مرفوض داخل مجتمعه الأصلي.

في الأعوام الخمسة أو الستة الماضية زادت كثيرًا موجة الاحتفالات بأعياد الميلاد، هذا العام بالذات بلغت الموجة أقصاها، لا مشكلة في الاحتفال بعام جديد لكن المبالغة المجنونة في طقوس الكريسماس وتزيين الشجر والبحث عن الهدايا، هذا هو التجاوز والإفراط، ألا نملك أعيادًا كي نستعير أعياد الآخرين بهذا النزق؟ ما الذي تمثله طقوس الكريسماس لنا في الشرق أصلًا؟ نحن الذين لا نملك شجرًا دائم الخضرة، ولا نؤمن بالكرات الزجاجية الشفافة التي تطرد الشياطين – هذا طبعًا غير حقيقة أن الكريسماس أساسًا لا يمت بصلة لميلاد المسيح وأنه كان عيدًا وثنيًا كليًا ضمته المسيحية بذكاء إليها بدلًا من إلغائه.

المشكلة في «Friends» وما يماثله من أعمال مثل «How I met your mother»، وحتى عمل من المفترض كل أبطاله علماء ذوي مستوى ذكاء خارق مثل «Big bang theory»، ومسلسل الرسوم المتحركة الشهير «The Simpsons»، أنهم يقدمون أصلًا مبادئ مغضوب عليها في المجتمع الأميركي – منتشرة بشكل شبه عام لكنها مرفوضة – فهي تقوض المجتمع من أساسه، نحن لا نتحدث هنا عن الصراع المعتاد بين الشرق والغرب، واستيراد القيم والتأثيرات السلبية للعولمة، نحن نتحدث عن عمل مرفوض داخل مجتمعه الأصلي.

هذه الأعمال – «Friends» وما تلاه – تقدم صورة وقحة وسطحية ومهينة لما يجب أن يكون عليه المجتمع – حتى لو كان مجتمعًا أمريكيًا منفتحًا – علاقات غاية في التسطيح، الاهتمام بالجمال الخارجي فقط، تشييء المرأة والتعامل معها دائمًا بقلة احترام، تبرير الوقاحة والنذالة تجاه الآخرين طالما ليسوا من الجماعة أو «الشلة»، وأسوأ شيء تحقير قيمة العلم والذكاء والإعلاء من قيمة الـ«روشنة» والاستهتار.

الشخص الذكي هو أكثرهم إثارة للملل وتعاسة في حياته وذكاؤه لا يساعده إطلاقًا في حياته الاجتماعية. يمكننا أن نرى هذا بوضوح في «Friends» حيث «روس»، الشاب الذكي الطموح، الذي يترك كل شيء في مقابل أن يكون بصحبة حمقى مثل «ريتشيل وجوي». أو في النموذج الأحدث قليلًا «How I met your mother» الذي يحقق نسب مشاهدة رهيبة ويمثل إلى حد كبير ما مثله «Friends» في التسعينات، عن ماذا يحكي فعلًا؟ عن مجموعة أخرى من الحمقى لا يميزهم أي شيء ولا يمتلكون فضيلة واحدة، يتخبطون في العلاقات بنزق ومجون، ولا يوجد فيهم واحد عاقل سوى «تيد موسبي»، البروفيسير المرموق الذي يفضل ترك محيطه الأكاديمي ومحادثاته الذكية كي ينضم للحمقى ويستمتع بوقته معهم، والمثل الأعلى الذي يسعون لتقليده هنا هو «بارني ستينسون»، وهو وغد آخر لعوب، «دون جوان» شديد التأنق والاعتداد بنفسه، شديد القسوة والمجون في علاقاته ويتعامل مع النساء باعتبارهن أدوات للمتعة فقط – يقدمه المسلسل لنا أنه شخصية أفضل وأسعد كثيرًا من «تيد موسبي» المحترم المجد.

لا شك أن الحياة الأكاديمية تكون مملة أحيانًا – لكن ألا يرسخ هذا أكثر وأكثر أن الأذكياء لا بد أنهم مملون وحياتهم بائسة وأن الشباب المنحرف «الروش» يحيا حياة أفضل من الأذكياء أصحاب المهن المحترمة والملابس الكلاسيكية؟

في «The Simpsons» نرى الإعلاء من قيمة الغباء والـ«دهولة» والأنانية وكل صور الرذيلة ونتعلم – وهذا هو الأخطر – أن نحب «هومر» ونصفق له بغبائه وجهله، وأن نسخر مع «بارت» من «ليسا» الأخت الذكية المثقفة التي لا تستطيع التأقلم مع نظام الحياة الأمريكي.

كان هذا هو القلق الأكبر لدى الكاتب الأميركي «ديفيد هوبكنز» في هذا المقال الجميل: كيف أطلق مسلسل «فريندس» شرارة سقوط الحضارة الغربية؟ الذي تمت ترجمته هنا، وهو قلق له ما يبرره، إلا أننا هنا نواجه هذه المشكلة مع معضلة أضخم بكثير وهي: هل تناسبنا القيم الأمريكية المعوجة هذه؟ أعني أنه لا بأس بمشاهدة حياة الناس الآخرين وثقافاتهم، تمامًا كما نشاهد حياة قبائل الكيكيويو الأفريقية والبدو الطاجيك في الجبال، هي جميلة وجذابة جدًا في سياقها، لكن هل يجوز أن نحضر جملًا ذا سنامين ونطوف به في شوارع القاهرة؟

هذا ما أشعر به تمامًا وأنا أرى مفردات الحياة الأمريكية منتشرة بضراوة في كل دقائق حياتنا، استعضنا عن القهوة بالنسكافيه سريع التحضير، عن المناقيش بالكرواسان والبيتزا، وعن الكعك بالدوناتس، وعن الخطبة بالمواعدة أو «الصحوبية» كما يسميها الشباب بلامبالاة بل وأريحية أحيانًا.

لا بأس في استعارة تفاصيل معينة خاصة إن كانت مريحة أو لا نملك بديلًا لها، البأس يكمن في استبدال تفاصيلنا الأصيلة المستمدة من ديانتنا وتراثنا والتراكم التاريخي لنا عبر القرون، بتفاصيل أخرى مستحدثة تمامًا لا تنتمي إلى الصورة العامة لنا.

لا ضرر أبدًا في الاقتباس من الغرب، في التشبه بهم، لكن ألا نقتبس سوى طقوس المواعدة وشرب الإسبريسو في الصباح؟ والتحقير من الأذكياء المجتهدين؟

أراقب في رعب مشاهدة أخي الأصغر المراهق ورفاقه للمسلسلات الأمريكية وأرى ببطء تلك الشخصية الجديدة التي تتكون من صب مبادئ الحرية والاستهتار والوقاحة أحيانًا لتصنع نسخة لا تصدق من الطفل البريء اللطيف المغرم بالقراءة. من الخطأ أن نسمح للصغار بمشاهدة هذا الهراء، ربما نشاهده نحن الكبار، ربما، فهو مضحك لأننا تعودنا على الدعابات الأمريكية التي غالبًا ما تتمثل بتعليقات خارجة أو عنصرية.

كأن الأمر كان ينقصه أن يصبح أسوأ، هناك تلك الموضة التي ظهرت في تعريب العروض الأميركية، فأصبحنا نشاهد عرضًا شائهًا مثل «هبة رجل الغراب» الذي عرفت اسمه الغريب من جارتي الطفلة وأختها اللتين تتابعانه بشغف، وتشهدان مواقف المصاحبة والنظرة التشيئية للسيدات وخروج البنت مع رئيسها في العمل ليشربا الويسكي في استراحة الغداء!

هناك رقابة دائمة على المصنفات الفنية بعين حذرة تقتص كل ما هو خارج لتحمي الشباب مع إضافة تحذير «+18» كي تخلي مسؤوليتها، لكن ماذا عن عشرات العروض من هذا النوع – مضحكة وظريفة لا تضم محتوى خارجًا – تسمم بنجاح وعلى نطاق واسع عقول النشء والمراهقين، لعمري هذه العروض أيضًا يجب أن يكتب عليها بوضوح «+18»، المفترض أن الأطفال يربون على قيم عديدة نحاول غرسها فيهم، قيم نابعة من خلفيتنا الدينية والثقافية والتاريخية، ولا نملك أن نحميهم للأبد، فهذا غير ممكن، لكننا نغرس فيهم نبتات لتكبر وتحميهم فيما بعد، ونأمل أن يكون غرسنا صالحًا ومثمرًا، لذا لا يمكننا في سنوات التنشئة هذه أن نخاطر بنبتات أخرى تختلط بما نحاول أن نغرسه بل وتقتلعه اقتلاعًا، ونفاجأ أنه بعد كل مجهوداتنا تنشأ شخصيات عجيبة تتحدى قيمنا وفضائلنا.

المنع في هذا العصر صار مستحيلًا، ولا يمكننا التحكم فيما يشاهده الأبناء، ففي الماضي كان التلفاز، أما الآن فهناك الإنترنت الذي يجعل كل شيء متاحًا عند أطراف الأصابع. لا أتكلم هنا عن الرقابة التي تمنع المحتوى الخارج، فهذا جهد ينتبه الآباء إليه وينفذونه بخشونة أحيانًا، بل أتكلم عن الرقابة على المحتوى البريء ظاهريًا، والذي يرسخ قناعات جيل بأكمله، وأعتذر لأصدقائي من معجبي «Friends» و«The Simpsons» وغيرهما، فأنا أيضًا أشاهدهما، لكني بدأت المشاهدة في سن تكونت فيه هويتي ومبادئي، وبعدما صرت قادرة على الحكم بأن حسنًا هذا التفصيل مضحك، وجملة التهكم على الشخص العبقري هذه كانت جملة مناسبة، لكنها خاطئة ولا يجوز نقلها للواقع، والأشخاص الأذكياء يستحقون احترامنا وتقديرنا لا سخريتنا.

لا ضرر أبدًا في الاقتباس من الغرب، في التشبه بهم، لكن ألا نقتبس سوى طقوس المواعدة وشرب الإسبريسو في الصباح؟ والتحقير من الأذكياء المجتهدين؟ ماذا عن التفكير العلمي والمنطقي؟ ماذا عن الاجتهاد في العمل وحرية السلطة الرابعة وحق التقاضي؟ لن أعيد عشرات المنجزات التي نحسد الغرب عليها ثم نتهمه بالغرب الكافر من باب قلة الحيلة، لكن الأمر يستحق وقفة، لنتوقف عن محاولة تبني كل شيء قادم من هناك باعتباره قمة الحضارة والمجد، بينما لدينا هنا الحضارة الحقة التي تعبر عنا، وهذا ليس تعصبًا قوميًا أو شعوبية، لكن ماذا نحن بدون تاريخنا؟ بدون عاداتنا الصغيرة وأعيادنا ومخبوزاتنا ومشروباتنا؟

نحلم دومًا أن يكون الجيل القادم هو الجيل الذي يحقق المجد والتقدم ويصلح جراحنا وخيباتنا، لكن الجيل القادم سيؤمن أن أميركا هي البلد الأعظم في العالم مع كل هذه الوجبات من «كنتاكي» و«ماك» وكل هذه الـ«كوكاكولا» ومباريات الـ«بيسبول».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.