ينشغل العالم بمتابعة الانتخابات التركية، وينقسم بين مؤيد لبقاء أردوغان، وراغب في فوز المعارضة وإزاحة أردوغان. أعطت نتائج الجولة الأولى من الانتخابات أملًا لكل فريق باقتراب تحقيق رغبته، فازدادت حدة تعبير جميع الأطراف عن مواقفها. لكن على الجهة الأخرى هناك من بدَّل تمامًا من تغطيته للأحداث وعناوين مقالاته.

الصحف الأجنبية كانت هي البطل في هذه القصة. فكانت مقالاتها في الأسابيع السابقة للجولة الأولى تستخدم أوصافًا مثل المستبد، أو السلطان، أو الطاغية. كما تمركزت خطاباتها حول رسم صورة مظلمة لتركيا حال فوز أردوغان، مخاطبة بذلك الناخب التركي في الداخل والخارج كي يَعدل عن قراره بانتخاب أردوغان.

 لكن نفس الصحف عادت من جديد، بعد نتائج الجولة الأولى، لتستخدم لهجة أكثر عقلانية وموضوعية. وأخذت تتحدث عن إثبات أردوغان نفسه للشعب التركي مرة أخرى، وأن أردوغان يُقدِّم نفسه للعالم مرة جديدة.

الإيكونومست تحارب بقوتها الكاملة

صحيفة الإيكونومست على رأس تلك القائمة. فقد وضعت غلافًا لصفحتها على مواقع التواصل الاجتماعي يفتقد أبسط قواعد التغطية المحايدة، ويدعو صراحةً لضرورة رحيل أردوغان، ويحث بكل وضوح للتصويت للمعارضة. فنجد على صورة الغلاف على موقع التغريدات، تويتر، كلمات مثل أردوغان يجب أن يذهب. ثم نجد جملة أخرى تقول إن طال بقاء أردوغان في السلطة زاد استبداده.

وعلى مدار تغطيتها الصحفية، قالت المجلة إن أردوغان قد استولى على كافة مؤسسات الدولة. كما قالت إنه أحكم قبضته الحديدية على تلك المؤسسات. ثم وجهت خطابها للزعماء الغربيين ونصحتهم بضرورة التعبير عن انزعاجهم من أردوغان قبل الانتخابات، كي يكون ذلك دافعًا للناخبين للبعد عنه، والالتفاف حول مرشح المعارضة.

لكن بعد نتائج الجولة الأولى مباشرةً أزالت الصحيفة صورة الغلاف من صفحاتها. وخففت من حدة حديثها عن أردوغان، وبدأت في تحميل صيغة الخطاب للمعارضة التركية لا لمحرري الصحيفة أنفسهم. فمثلًا قالت الصحيفة إن نتيجة الجولة الأولى حملت أسوأ نتيجة ممكنة تصورتها المعارضة. وقالت أيضًا إن نتائج كليجدار أوغلو مخيِّبة لآمال الناخبين في الداخل والخارج.

فنأت الصحيفة بنفسها تمامًا عن الحديث المباشر، وأوضحت في التغطية اللاحقة أن أردوغان هو المرشح الأوفر حظًّا للفوز بالجولة الثانية في الانتخابات.

لوفيجارو تتراجع بقسوة

صحيفة لوفيجارو الفرنسية لم تختلف كثيرًا في مضمونها عن الإيكومنست. فقد تحدثت قبل الجولة الأولى عن أنها ترى معطيات تفيد بترويع الناخبين عبر الحديث المُنظم عن استراتيجية الفوضى من قِبل أردوغان والحكومة التركية. ما تراه الصحيفة تهديدًا مباشرًا للناخبين حال قرروا انتخاب المعارضة. كما رأت في ذلك تلميحًا أن أردوغان قد يثير الفوضى إذا خسر الانتخابات.

لهذا تساءلت الصحيفة صراحةً في تقريرٍ لها: هل سيكون أردوغان قادرًا على القبول بفقد عرشه؟ لا تبدو كلمة عرش كلمة مجازية أو اعتباطية، فقد اختفت تمامًا في تغطية الصحيفة فيما بعد الجولة الأولى. واكتفت الصحيفة لاحقًا بالحديث عن أن الانتخابات التركية شهدت نسبة تاريخية عالمية بلغت 90%. وأوضحت أن ذلك نابع من عمق الإيمان التركي بأن التغيير يأتي عبر صناديق الاقتراع.

اللافت ليس أن الصحيفة غيَّرت موقفها فحسب، بل إنها وقفت في موقف يشبه المدافع عن النتيجة أيضًا. ووصفت الإعلام الأوروبي بالمرتاب. وأن أوروبا قد أصابها الجنون وكانت تتمنى حدوث انتكاسة لأردوغان في الانتخابات. ثم فسَّرت الصحيفة السبب وراء فوز أردوغان بأن الغرب قد تناسى ثقل الشباب المتدين الذي يحب أردوغان، هذا الشباب الذي لا يؤمن بالمعايير الغربية، على حد قول الصحيفة.

نيوزويك تشبِّه أردوغان ببوتين

من الإيكومنست البريطانية ولوفيجارو الفرنسية نذهب إلى الولايات المتحدة الأمريكية. لم يختلف الحال كثيرًا، خصوصًا في مجلة نيوزويك. بل ذهبت المجلة لأبعد من سابقتيها، وشبهت أردوغان بفلاديمير بوتين، الرئيس الروسي. ويتضح من التشبيه باقي سياق التقرير. لكن على قدر القسوة والتطرف في الوصف الأول، كان قدر التراجع في لهجة الصحيفة بعد نتائج الجولة الأولى.

فنشرت الصحيفة تقريرًا بعنوان شديد الوضوح، توقفوا عن وصف أردوغان بالديكتاتور. بعد هذه الجملة المباشرة أردفت الصحيفة عنوانًا فرعيًّا يوضح سر مطالبتها بعدم وصفه بالديكتاتور جاء في العنوان، المستبدون لا يذهبون لجولات الإعادة. واتخذت الصحيفة كذلك موقفًا عدائيًّا ضد الغرب والليبراليين جميعًا، قائلة إن لديهم مشكلة في عدم إيمانهم بالانتخابات التركية.

ثم أوضحت الصحيفة لاحقًا أن عدم الإيمان الغربي بالديموقراطية التركية، ووصف الانتخابات التركية بأنها مزورة، لن يفيد الأتراك ولا العالم. لأن الاستمرار في وصف أردوغان بالديكتاتور سيضر بالعملية الانتخابية في المستقبل. وسيُقنع الناخب أن الصندوق ليس وسيلته المثالية لإزاحة الرئيس الذي لا يحبه.

بلومبيرج: درس في الالتفاف

صحيفة بلومبيرج الشهيرة انضمت للقافلة من أوسع أبوابها. فقد ساقت أدلتها في تقرير مطول قبل الجولة الأولى أن أردوغان يواجه ناخبين غاضبين من سنوات الفوضى الاقتصادية. تلك الفوضى التي أحدثها أردوغان بقراراته لتخفيض الليرة التركية، والتحكم في قرارات البنك المركزي التركي. ثم أكدت الصحيفة أن الرغبة المهيمنة بين العديد من الأتراك هو كراهية أردوغان. لهذا توصلت الصحيفة لاستنتاج ذكرته بسهولة ووضوح أن أردوغان لن يُعاد انتخابه، ولن يصل إلى جولة الإعادة من البداية.

لكن بعد الجولة الأولى تراجعت الصحيفة عن تلك التصريحات، لكنه كان تراجعًا مهذبًا ودبلوماسيًّا. فألقت اللوم على استطلاعات الرأي التي بنت عليها الصحيفة رأيها. وقالت أيضًا إن الأتراك أثبتوا أن استطلاعات الرأي كانت خاطئة، وأن الأتراك لم يجعلوا أردوغان يذهب لجولة الإعادة فحسب، بل إن الناخب التركي في طريقه لإعادة أردوغان للسلطة مرة أخرى.

هذا التراجع الدبلوماسي افتقدته الصحف الفرنسية مثل لوفيجارو، ومثل صحيفة ليكسبرس أيضًا. فقد نشرت الصحيفة قبل الجولة الأولى تقريرًا يقول إن أردوغان يشبه بوتين، وإن هناك ميثاقًا مشتركًا للمستبدين يتوحد عليه بوتين وأردوغان. وذكرت الصحيفة في معرض تغطيتها أن أردوغان بات يحكم البلاد بقبضة حديدية، وأن الأتراك بحاجة للتخلص منه للبدء من جديد.

لكن بعد ظهور نتائج الجولة الأولى عدَّلت الصحيفة من تلك النبرة، بل اتخذت نبرة معادية للمعارضة. فقالت الصحيفة إنه رغم محاولات المعارضة للطعن في نتائج الجولة الأولى، فإن الصحيفة ترى أن الانتخابات قد قدمت للأتراك خيارًا سياسيًّا حقيقيًّا. واتفقت الصحيفة مع المراقبين الأوربيين من مختلف المنظمات في أن الانتخابات لم يشُبْها التزوير، وأن أمام الأتراك اختيارين حقيقيين، كلاهما مفيد سياسيًّا لمستقبل تركيا.

التايمز: انقلبت على فتاها

التايمز البريطاينة الشهيرة لم تفوِّت فرصة الانضمام للقائمة. فاختارت نفس التشبيه بين أردوغان وبوتين، واختارت أيضًا كلمات الفزع والفوضى وأردوغان. وقالت إن هناك حالة من إرهاب الناخب بالفوضى التي يمكن أن تحدث إذا لم يفز أردوغان في الانتخابات. وأكدت الصحيفة أن أردوغان قد يسبب حالة من الفوضى المفتعلة إذا خسر الانتخابات. لكن التايمز تفرَّدت بذكر نقطة أنه إذا خسر أردوغان فإنه سوف يستخدم استراتيجيات مشابهة لما فعله بوتين للبقاء في السلطة.

لكن الصحيفة لم تذكر تلك الاستراتيجيات، ولا حتى الأسباب التي دفعتها لتبني هذا الاعتقاد، أو المعطيات التي على أساسها وصلت إلى هذا الاستنتاج. على الجانب الآخر كان كليجدار أوغلو هو الفتى الذهبي للتايمز. فتحدثت بأن استطلاعات الرأي ترجح فوزه. كما عدَّدت مميزاته، والمستقبل المشرق الذي ينتظر تركيا في ظل حكمه.

بعد الجولة الأولى تركت الجريدة الحديث عن أردوغان، لكنها انقلبت على كليجدار أوغلو تمامًا. فوصفته بأنه قومي متشدد يتحدث عن ترحيل السوريين بلا رحمة. وأنه قد سقط من حسابات الشباب الأتراك الذين كانوا يرونه بمثابة والد لهم. وأن طريقته في رسم شعار القلب وهو يخاطب المترددين من الناخبين قبل الجولة الثانية هزَّت من موقعه الانتخابي.

دير شبيجل: كل شيء «يُسبّح» باسم أردوغان

نفس اللهجة الخطابية استخدمتها صحيفة دير شبيجل الألمانية. فتحدثت عن الفوضى التي يمكن لأردوغان أن يُحدثها إذا خسر. وقالت إن الرجل سيحاكي سيناريو الفوضى إذا لم تعجبه نتائج الانتخابات. وأخذت الصحيفة رأيها لأبعد من مجرد الكلمات، فوضعت على غلافها أردوغان جالسًا على عرش مكسور وبجانبه هلال عثماني مكسور. إشارة لمضمون كلامها عن إفساد أردوغان للحياة السياسية التركية.

تحدثت المجلة أيضًا عن قمع أردوغان لمنتقديه. وتخويفه للمستثمرين. وذكرت افتقار تركيا لرأس لإقامة مشاريع متعلقة بالبنية التحتية. كل تلك الأسباب استنتجت منها الجريدة أن أردوغان بات من الماضي، وحظوظه الانتخابية قليلة.

لكن هذا الاستنتاج تلاشى تمامًا بعد الجولة الأولى. فنشرت الصحيفة مقالًا بعنوان كل شيء يُسبح باسم أردوغان. قالت الصحيفة في المقال إن الجولة الأولى كانت صادمة، وأوضحت أن أردوغان لا يزال يتمتع بشعبية جارفة لم يكن العالم يراها. وأوضحت المجلة أن 30% من الناخبين الأتراك يثقون في أردوغان بلا قيد أو شرط، وسيدعمونه مهما كان الواقع.

وختمت الصحيفة تقريرها، بنفس الكلمات التي ختمت بها جميع الصحف أحاديثها، بأن الأزمة الاقتصادية وطريقة تعاطي أردوغان مع العالم الغربي، وغيرهما من المواقف التي ذكرتها الصحف قبل الجولة الأولى باعتبارهم أسبابًا ستؤدي لفشل الرجل، قالت إنها أسباب زادت من شعبيته. ويترقب العالم أجمع نتائج الجولة الثانية، لأننا بالتأكيد سوف نشهد بعدها تغيُّرًا جديدًا في الخطاب العالمي بخصوص الانتخابات التركية، سواء فاز أردوغان رسميًّا، أو خسر بشكل نهائي.