يتمحور الهجوم الموجَّه إلى السلفية الجهادية بشكلٍ أساسي حول شخص ابن تيمية (661 هـ – 728هـ)، الملقَّب من قبل أتباعه بشيخ الإسلام، فهناك اتّفاق بين أبناء تلك الجماعات ومنتقديهم على كونه المنبع الذي تخرج منه تلك الأفكار.

سنحاول هنا تسليط الضوء على هذا الموضوع، من خلال عرض كتاب «متاهة الحاكمية: أخطاء الجهاديين في فهم ابن تيمية»، للدكتور هاني نسيرة، الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية عام 2015. وسنركز على منهجية ابن تيمية ونظريته السياسية وفقه الجهاد عنده، وعلاقته بتأسيس جماعات السلفية الجهادية، محاولين تسكين ابن تيمية في مكانه الصحيح، عن طريق طرح سؤال مهم: هل أفكار هذه الجماعات هي أفكار ابن تيمية حقًا؟

عن ابن تيمية

كان عصر ابن تيمية عصر اضطراب سياسي؛ حيث الغزو التتري، والفتن، والتعصب المذهبي والطائفي المتصاعد بين السنة والشيعة، وسقوط الخلافة العباسية، وظهور دولة المماليك. لكن التحدي الأكبر له كان انحسار المذهب الحنبلي والسني بعد تحوُّل التتار إلى الإسلام الشيعي، وظهور فرق تأويلية وفلسفية في الإسلام السني هدَّدت حضور المذهب الحنبلي. دفع كل ذلك ابن تيمية إلى اعتبار دولة المماليك الصاعدة حامية للإسلام، فعمل على الحفاظ عليها.

كان ابن تيمية مجاهدًا ضد التتار، وضد شيعة جبل كسروان المتحدين مع التتار ضد المسلمين، وضد فرق البدع والضلال؛ فتحت إشراف الناصر بن قلاوون قام ابن تيمية بإغلاق الخمَّارات وهدم المزارات التي كان يُنذر لها النذور من قبل أتباع المذهب الصوفي. كان صلب العمل عند ابن تيمية هو مكافحة تلك الفرق الصوفية والفلسفية التي رأى في انتشارها الخطر الأكبر على العقيدة الإسلامية.

دخل ابن تيمية صراعات ومحنا طرحته في السجن أكثر من مرة، كان أغلب مناوئيه فيها من مشايخ الصوفية؛ حيث لم يكن المذهب الصوفي مهمشًا كما هو الحال الآن، بل كان مؤثرًا نتيجة ميل عديد من رجال دولة المماليك إلى التصوُّف. وكان أبرز منافسين لابن تيمية هما الشيخ نصر المنبجي والقاضي ابن مخلوف المالكي الذي أمر بحبسه حين كان في مصر. كما سجن ابن تيمية مرة أخرى بسجن القلعة في دمشق حتى وفاته.

إشكاليات الخطاب عند ابن تيمية

دعا كثير من المفكّرين والفقهاء إلى إعادة قراءة ابن تيمية بعيدًا عن فهم جماعات السلفية الجهادية واللبس الذي حدث في فهمه. ويمكن القول إن منهج ابن تيمية كان بحاجة إلى قراءة خاصة أهم أسسها:

  1. النظر إليه في ضوء عصره.
  2. التفرقة بين فتاويه التاريخية والمبادئ الكلية التي اعتمد عليها.
  3. فهم تطور خطابه.
  4. الابتعاد عن القراءة المجتزئة لكتبه، دون معرفة أسباب تدوينها.

في الواقع، أدى خطاب ابن تيمية نفسه إلى ذلك الالتباس. لقد توزع الخطاب بين العديد من كتبه، وكان يستخدم ألفاظًا ومصطلحات كل فن في الكتابة عنه، مما يصعِّب على غير المتخصص فهم ما كتب. وللأسف، وظفت جماعات السلفية الجهادية تلك الخصيصة لخدمة أفكارها.

على سبيل المثال، كان الشغل الشاغل لابن تيمية هو تصحيح العقيدة وترسيخ الفكر السلفي، ولم تشغله فكرة تطبيق الشريعة، فقد كان يعيش داخل دولة تطبقها بالفعل. ولذلك لا نرى لتلك القضية ثقلًا في خطابه وتشكلاته، وإلا لرأيناها في كثير من كتبه أو لرأيناه يكافح في سبيلها طيلة حياته، وهو الشيخ الذي تفانى لخدمة صحيح الدين كما يعتقده.

التكفير والأمر بالمعروف

يرفض ابن تيمية التكفير المطلق لكل من تبنى تأويلاً خطأ للدين، فلا تجعل البدعة الرجل كافرًا طالما كان في قلبه إيمان بالله ورسوله وألا يكون قد أتاها بقصد. فيرى ابن تيمية -مثلًا- أن كثيرًا من السلف أخطؤوا في فهم وتأويل الربا واستحلال النبيذ والقتال في الفتنة، لكنها أخطاء يحاسبهم ربهم عليها دون أن تعد دليل كفر.

وضع ابن تيمية أسسًا يحدد على أساسها موقفه من المخالفين له: فكان يميز بين تكفير القول وتكفير الشخص، وبين درجات البدع وحدودها فيما لا يخالف رسالة النبي ووحيه. فلا يكفر ابن تيمية إلا بشروط منها: استحلال مجمع على حرمته، ومخالفة رسالة النبي عن قصد، والقول الدال على الكفر المبطن والشرك الصريح.

للتدليل على ذلك، نذكر رفض ابن تيمية الإفتاء بقتل نصر المنبجي والقاضي ابن مخلوف، عدويه اللدودين، حين سنحت له الفرصة بإحلال دمهما بناء على طلب ابن قلاوون. كذلك لم يكفِّر ابن تيمية الأشعري وحذّر من تكفير طائفة لأخرى، فقد تكون الطائفة المكفِّرة مبتدعة أكثر من الأخرى.

رفض ابن تيمية تكفير الجهمية الذين نقل قولهم بخلق القرآن، مستندًا في ذلك إلى عدم تكفير الإمام أحمد لهم، ورفضه تكفير أحد من أهل القبلة. أما عن ابن عربي فقد رأى أنه أحسن في فهمه بين الظاهر والباطن وأن الله أعلم بما مات عليه؛ لأننا لا نعلم هل ثبت عليه شرط الكفر أو نفي عنه.

 أما عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكان ابن تيمية يتحرك فيهما دومًا في إطار الدولة دون الخروج عليها، داعيًا إلى فقه الموازنات، فإن كانت مفسدة الأمر أكبر من منفعته يلزم تحريمه، أما إن كان المعروف أغلب أو متوازنًا مع المنكر لا يلزم الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر. وقد ارتبطت دعوته تلك بموقفه السياسي؛ حيث كان يعمل في إطار الدولة ويدعو للزوم الجماعة وترك قتال الحكام.

النظرية السياسية عند ابن تيمية

يعاب على الحركات الإسلامية المعاصرة عدم الدراسة الكافية للنظرية السياسية في التراث الإسلامي، وفي مقدمة تلك الحركات السلفية الجهادية التي اكتفت بمبدأ الحاكمية وبعض الفتاوى الفقهية الأخرى. وهنا سنحاول توضيح نظرية ابن تيمية السياسية.

توطئة تاريخية

اهتم الفقهاء حتى القرن الخامس الهجري بالفقه، باعتباره علم عملي وسلوكي مكلفة به الأمة، وتركوا قضية الخلافة وشروطها وأحكامها لخروجها عن نطاق مجالهم، فالأمة عندهم أهم من الحاكم، وصلاح الأمة أهم. أما الفرق الكلامية فكانت مهتمة بالدولة وإدارتها، ولجأت كل فرقة معارضة إلى علم الكلام لدعم موقفها. وقد سار ابن تيمية على نهج الفقهاء فتجنب علم الكلام الذي يثير الفتنة ويشكِّل خطرًا على الأمة.

انحسرت الكتابات السياسية في التراث الإسلامي على أدبيات الأحكام السلطانية، المهتمة بالجانب السياسي للدولة وطريقة إدارتها، وكذلك كتابة رسائل نصح للأمراء والملوك، وترجمة الفلسفة السياسية اليونانية ومحاولة إيجاد فلسفة إسلامية مناظرة لها. ثم ظهرت عدة كتب في الكتابات السلطانية، غلب عليها جميعًا التشريع لسلطة التغلُّب وعدم الخروج على الحاكم وتقبل أهل الشوكة مبررين ذلك بدرء الانقسام وحماية البلاد من الفتن والأعداء.

النظرية السياسية التيمية

لم يكتب ابن تيمية بشكل موسَّع ومحدّد في النظرية السياسية، فقد تفرقت آرائه بين كتبه، لكنه كان مهتمًا بأحكام الخلافة والاجتماع الديني، ولم يستخدم علم الكلام إلا ضد الشيعة في كتابه «منهاج السنة النبوية». وهو وإن لم يُعرف عنه إنكار جوهرية الخلافة أو الإمامة في حياة الناس، فقد رآها من الفروع لا الأصول، حيث رفض تقديم الشيعة للإمامة وإلحاقها بأصول الدين مثل التوحيد، والنبوة، والعدل.

كان ابن تيمية يرى التوحيد والعقيدة أهم للأمة من الإمامة، فالأخيرة ليست شرطًا لعبادة الله وطاعته وطاعة رسوله بعقيدة صحيحة، كما أن طاعة النبي كانت واجبة لنبوته لا لحكمه وليست مرتبطة بزمان ومكان كما يحدث مع الملوك والخلفاء.

اعتبر ابن تيمية الأمة حارسة الشرع وليس الإمام؛ فنقل الشرع كان بالتواتر من علماء الأمة وجموعها وليس من فرد الإمام. والدين يحتاج أمة واعية تحافظ عليه لا إمامًا معصومًا، بل إن الإمام المعصوم لن يحتاج إلى شورى ما ينفي السنة الصحيحة المنقولة عن النبي بوجوب الشورى لتفادي الخطأ وتحرى الأفضل للمسلمين.

أما عن موقفه ابن تيمية من التغلُّب، فكان يرى أن الإمامة ملك وسلطان، وقوة قبل أن تكون أمانة، فوجود القوة والقدرة على السيطرة أهم في الإمامة من الأمانة. لذا كان الإمام في نظر ابن تيمية هو من يقتدى به، ومن يملك سيفًا يطاع طوعًا وكرهًا، مثلما كان الخلفاء الراشدين. ورفض ابن تيمية الخروج على الحاكم وقتاله على عكس ما رأى المعتزلة، حسب كلامه.

ابن تيمية والحركات الإسلامية المعاصرة

يقوم مفهوم السلفية الجهادية على ركيزتين رئيسيتين: سلفية العقيدة، وجهادية المسلك. وقد استخدم هذا المصطلح لتمييزهم عن الجماعات السلفية الأخرى التي لا تنادي بالخروج على الحاكم ولا تدعو إلى الجهاد رغم إيمانها به. ويعتمد هذا المفهوم على عدد من الحجج، منها: فضل السلف وخيرية رجال القرن الأول من الإسلام كما يقول ابن تيمية؛ لأن الحي لا يؤتمن من الفتنة، إنما من مات فقد عُرفت سنته ويجب اتباعها.

نشأت الحركات الإسلامية المعاصرة -مثل الإخوان المسلمين بمصر- في بيئة أشعرية صوفية بالأساس، ما جعل أولوياتها مختلفة عن أولويات الدعوة السلفية التقليدية، إذ غلبت على حركات الإسلام السياسي الاهتمام بالتحديات الخارجية المعاصرة لها. ولم يحضر ابن تيمية في أدبيات جماعة الإخوان ولا ظهر تأثيره على من هم قبلها في مدرسة النهضة الحديثة لجمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده.

أما من نقل ابن تيمية فعليًا إلى الحركات الإسلامية فكان محمد رشيد رضا، الذي تحوَّل من الاتجاه الصوفي إلى السلفية الفقهية وتأثر بالدعوة الوهابية. أما عن أفكار سيد قطب وأبو الأعلى المودودي فكانت تهدف لعمل انقلاب على الدول القومية لمخالفتها مبدأ الحاكمية، كما هدفت إلى إعادة بناء المجتمع لخدمة هذه الفكرة.

لم يتأثر سيد قطب بابن تيمية في كتابه «في ظلال القرآن»، حتى أنه لم يذكره فيه مرة واحدة؛ كما رأى المودودي أن ابن تيمية لم يوفق في بعث حركة سياسية إسلامية تنقل أهل الجاهلية إلى أهل الإسلام.

كانت بداية حضور ابن تيمية في الفكر الحركي الإسلامي عبر تنظيمات السلفية القطبية، أو ما أطلق عليها السروريين. كانت هذه الخطوة هي التمهيد لظهور فكر ابن تيمية في خطابات جماعات السلفية الجهادية، الذين انتقلوا إلى دول الخليج التي وفَّرت لهم ملاذًا آمنًا ودعمًا ماديًا وشرعيًا، بسبب حاجتها إلى تأسيس شرعي وفقهي للحركية الإسلامية، وهناك كانت تنتشر المرجعية السلفية وتشتعل الصحوة السلفية.

في هذه المحطة تقاربت القطبية مع السلفية الفقهية، وهي التي أثَّرت في العديد من مؤسسي وقيادات جماعات السفلية الجهادية، مثل أسامة بن لادن مؤسس تنظيم القاعدة.

التنظيمات الجهادية: النشأة والأدبيات وابن تيمية

تعتبر رواية محمد مورو حول نشأة التنظيمات الجهادية هي الأوثق، وقد نقلها عن مجموعة من الجهادين. تقول الرواية إن المؤسس الأول لتنظيم الجهاد كان شابًا يدعى نبيل البرعي (22 سنة) عثر على أحد كتب ابن تيمية في سور الأزبكية، حيث كان يبحث عن كتب دينية بعد رفضه لفكر الإخوان المسلمين. أعجب البرعي أيما إعجاب بكتابات هذا الفقيه الثوري المجاهد ضد التتار والذي مات سجينًا في قلعة دمشق بسبب مواقفه السياسية، وقد بدأ دعوته إلى التنظيم في العام 1960م.

أما القيادي الجهادي السابق كمال حبيب فيقول إن مجموعة أيمن الظواهري التي انضمت إليها مجموعته هي أول ما عرف بالسلفية الجهادية؛ لميلها منذ النشأة إلى المصادر السلفية وكتابات ابن تيمية في إثبات منهجها. ورغم أن مصطلح السلفية الجهادية نشأ في التسعينيات؛ إلا أنه دليلًا على الميل الجهادي للتأصيل السلفي الفقهي.

الجهاد: الفريضة الغائبة

يعد كتاب «الفريضة الغائبة» مرجعا تنظيريًا للسلفية الجهادية، فهو النص المؤسس لتنظيم الجهاد (1979م). ويعتبر الكتاب أول استلهام لفتوى التتر عند ابن تيمية وتكفير الحاكم ووجوب قتاله وأن مواجهة العدو القريب أولى من مواجهة العدو البعيد، وأيضا لانتصاره للخيار الجهادي بخلاف الدعوات الإسلامية الأخرى التي اتخذت من الديمقراطية السلمية أو الجمعيات الدعوية منهجًا.

اعتمد عبد السلام فرج على فتاوى عديدة لابن تيمية مثل فتوى ماردين، التي نقلها من كتب ابن تيمية، وتخص البلد التي كانت تخضع لحكم الإسلام ثم تولى عليها أناس أقاموا حكم الكفر. فقد وضع جنكيز خان كتاب الياسق الذي كان بمثابة دستور يحتوي مجموعة من القوانين، فاعتبر أن عمل حكام ماردين (التتار) الذين انتقلوا حديثًا للإسلام -على المذهب الشيعي- بذلك الكتاب تقديمًا له على كتاب الله، وهو كفر صريح عند ابن تيمية والسلفية الجهادية؛ لأنه قانون وضعي ولا يستند إلى ما أنزل الله، ووجب قتال المخالف لشرع الله. كان ذلك من تداعيات اتفاقية كامب ديفيد واعتبار السادات خارجًا عن شرع الله معتمدًا على قوانين وضعية وموالٍ لغير المسلمين مما يوجب قتاله واغتياله (1981م).

كذلك تناول فرج مفهومًا يعرف بالتترُّس، وهو ما يعد التأسيس الجهادي للعمليات الانتحارية. فوفقًا له، يمكن قتل المسلمين -سواء المكرهين في جيش العدو أو المتترس بهم- في تلك العمليات، أو في الحرب ضد الكفار الخارجين عن الدين، معتبرًا إياهم شهداء لخدمة دين الإسلام، مستندًا إلى فتوى ابن تيمية بوجوب قتال التتار حتى لو كان بينهم مسلمًا مكره على ذلك، فأينما وجدوا وجب قتالهم.

الجامع: دستور الجماعات جهادية

في وقت من الأوقات، كان يعتبر عبد القادر بن عبد العزيز مؤلف كتاب الجامع -الذي يعد دستور جماعة الجهاد المصرية- مفتي المجاهدين حول العالم. وقد خطَّأ عبد القادر الشيخ ابن تيمية في قضية إعذاره بالجهل أو العجز عن تطبيق شرع الله، حيث يرى أنه لا يوجد عذر مقبول وأن من لا يطبق حاكمية الله وشرعه كافر، مخالفًا بذلك المبدأ الصريح لابن تيمية: لا نكفَّر أحدًا من أهل القبلة. يبرر عبد القادر دعوته للخروج على الحاكم بأننا لم نعد بصدد حكَّام مسلمون أصلًا منذ تطبيق القوانين الوضعية التي بدأها محمد علي باشا.

أما بالنسبة إلى قضية دار الإسلام ودار الكفر، فقد ابتكر ابن تيمية نوعًا ثالثًا تم رفضه من عبد القادر؛ حيث يقول بوجود ما يسمى بالدَّار المركَّبة، وهي ليست بدار كفر أو إسلام، وإنما بها هؤلاء وهؤلاء، ويعامل المسلم فيها بما يستحق. أما عبد القادر فينفي ذلك ويقول بأن السلف اتفقوا على أن الدار إما دار كفر أو دار إسلام.

مراجعات السلفية الجهادية

تعددت موجات مراجعات الجماعات الجهادية، ولم تخرج كلها في وقت واحد أو من مكان واحد، فالجماعة الإسلامية في مصر تراجعت عام 1997م، أي قبل عقد من مراجعات قادة تنظيم الجهاد (2007م). وقد كان ابن تيمية مرجعًا رئيسيًا اعتمدت عليه تلك الجماعات في مراجعاتها -كما في تأسيسها- مما يوضح أزمة منهج اتّخاذ الفتاوى الزمنية كمبدأ عام دون تحليلها.

كانت تلك المراجعات محاولة للنقد الذاتي للمشاكل التأسيسية، مثل: رفض قراءة النصوص والفتاوى بشكل تاريخي، وعدم الاعتراف بفقه الاختلاف وأحادية الرؤية. وكانت سمات تلك المراجعات الرئيسية: اعتماد فقه النتائج والمآلات، وذلك بتحليل ما نتج وترتبت عليه عمليات الجهاد، رفض الصدام المسلَّح مع الأنظمة الحاكمة.

كانت تلك الجماعات مدفوعة بالرغبة في العودة للحق بعد تبين الخطأ، كما فعل السلف من قبلهم؛ فقد كانت آرائهم مجرد اجتهادات بشرية غير مقدسة ولا يجب العمل بها بهذا الشكل، مما أدى بتلك الجماعات بعد خروجها من السجن إلى رفض الخروج على الحاكم، والمشاركة في العملية السياسية، والتعاطي مع قضايا داخل الدولة القومية لم تكن داخل دائرة مناقشاتها من قبل مثل المواطنة والحريات.

مراجعات الجماعة الإسلامية

اعتمدت مراجعات الجماعة الإسلامية في مصر على محاور ثلاثة: تصحيح مفاهيم الحاكمية والتكفير والجهاد، ونقد أفكار تنظيم القاعدة ورفض أعماله المسلحة، وتصحيح أحكام الدار المستخلصة من فتوى التتار عند ابن تيمية، ورفض إسقاط تلك الفتوى على بلاد المسلمين اليوم، فالزمان مختلف وحكَّام المسلمين اليوم ليسوا التتار الذين أفتى ضدهم ابن تيمية، بعدما صاروا لا يرون البطلان شرطًا في التشريعات البشرية، ناقدين بذلك مفهوم الحاكمية. وقد اتهمتهم القاعدة بكتابة تلك المراجعات تخاذلًا وكراهة في تكدير صفو الأمن.

مراجعات مفتي المجاهدين

كتب عبد القادر بن عبد العزيز، الشهير بالدكتور فضل، مؤلف كتاب الجامع، مراجعاته في وثيقة أسماها بالترشيد، لكن باسمه الحقيقي: سيد إمام، طبيب مصري من محافظة بني سويف. رد عليه الظواهري برسالة التبرئة لإظهار أخطائه واتهامه بالتراجع بعد السجن، مدعيًا أن القاعدين لا يجوز لهم الفتوى في قضايا المجاهدين، كما نزع عنه لقب مفتي المجاهدين. وجاء ذلك بعد ترحيل سيد إمام من اليمن إلى مصر عام 2004م وخروجه من السجن عام 2007م.

وتأتي أهمية الدكتور فضل من مؤلفاته الأولى لا مراجعاته، فمراجعاته لم تكن كلية، بينما اعتبرت كتبه الأولى التي خطَّأ فيها ابن تيمية من الأدبيات المؤسسة لتنظيم القاعدة. أما مراجعاته فكانت لها دوافعها، مثل: الرغبة في تصحيح مخالفات العنف المسلح وما ترتب عليه من سفك دماء كثيرة برئية وذلك بسبب التوسع في مسألة التترس واستسهال توسيع دائرة القتل. وأيضًا التأكيد على كونه ناقل علم وليس بعالم أو مفتي حتى يؤخذ منه، ورفض استخدام كتبه في التبرير لعمليات القتل وتجنيد الأفراد.

لم تمر تلك المراجعات بسلام، فلم يكن لشخص مكانةً في جماعة الجهاد مثلما كان لسيد إمام نفسه، فحتى حين رد عليه الظواهري لم ينكر علمه الذي كتب به كتبه الأولى، وعلَّق على تغيير آرائه بأنه يجب أخذ كلام المجاهد قبل سجنه وعدم الاعتداد بكلامه بعد سجنه إن خالفه. وتسببت تلك المراجعة والرد عليها في انشقاق بين جماعة الجهاد وأميرها سيد إمام وبين القاعدة التي من أهم منظريها سيد إمام نفسه، مما كان له تأثير سلبي كبير على القاعدة؛ حتى أن عدد التائبين قد تخطى الثلاثين ألفًا من جماعة الجهاد نصفهم من الجماعة الإسلامية. فلم يستطع الظواهري منع تلك التراجعات؛ لأنه كان يعتمد في تنظيره الأول على كتابات سيد إمام، فبعد تراجعه عنها لم تعد لها نفس القوة التنظيرية السابقة.

أما سيد إمام نفسه، فقبل المراجعات كانت له فتاوى تأسيسية، اعتبرت دستورًا للجماعات الجهادية، منها: جواز الانتفاع بالمال الحرام وأموال الكفار في الجهاد، والتحريض على عدم دفع الضرائب، وعدم وجوب إذن الوالدين قبل الجهاد. ورغم ذلك التأثير الكبير، فقد استمر النظر إلى مراجعاته باعتبارها مراجعات جزئية، فهو لم يصحح ما أسس له وإنما قال إنها آراء شخصية ولا يلزم أحدًا بها، وما يزال يرى كفر من يحكم بالقوانين الوضعية دون شريعة الله، وكذا يرى وجوب الجهاد وإن رفض التعجل فيه مثلما تفعل الجماعات الجهادية.

سيد إمام وابن تيمية

تراجع إمام عن مسألة رفض الإعذار التي أشرنا إليها سابقًا، واتبع منهج ابن تيمية في العذر بالجهل أو عدم الفهم، وحاول تصحيح مفهوم الجهاد وأنه ليس قتالًا فقط، فكل أساليب الجهاد متاحة، حسب قول ابن تيمية، مثل الجهاد بالنفس والمال واللسان واحتمال الأذى وعقد الصلح والمعاهدات.

لكن تراجع إمام الأهم كان في مسألة أحكام الديار، حيث تراجع وأكد على مفهوم الدار المركَّبة بسبب التغيرات الزمنية، فلم تعد هناك دار إسلام بمعناها القديم، فيبطل إذًا استعماله، بل إنه يؤكِّد على أن دار الكفر إذا دخلها مسلم أصبحت آمنة ولا يجوز مهاجمتها وفي ذلك إبطال لمفهوم التترس الذي كان يسمح بقتل الكافرين حتى وإن كان بينهم مسلمين لغرض خدمة الدين، وقد رفض سيد إمام تفجيرات القاعدة بناء على تلك القاعدة، ورفض قتل المدنيين حتى من المخالفين مذهبيًا مثل الشيعة.

 نقاط في فلسفة الجهاد عند ابن تيمية

عرَّف ابن تيمية الجهاد على أنه «بذل الوسع، والقدرة على حصول محبوب الحق، ودفع ما يكرهه الحق. فهو إذن وسيلة لا غاية في ذاته». ومن شروط الجهاد عن ابن تيمية:

  1. القدرة والاستطاعة، وهي ما استند عليها سيد إمام في مراجعاته.
  2. الكفاءة وعدم العجز، والتي كانت سببًا في إحداث إنشقاق في تنظيم الجهاد بسبب خلافهم على ولاية الكفيف أو السجين.
  3. إذن ولي الأمر، وهو بذلك يؤطِّر الجهاد تحت راية الدولة وبقرار الحاكم.
  4. إذن الوالدين والدائن في الجهاد، أما في حالة الجهاد دفاعًا لا يتطلب ذلك.

أما عن ملامح فقه الجهاد عند ابن تيمية، فنذكر منها:

  1. نقد مقولة انتصار الإسلام بالقتال، فالإسلام دين بدأ بالدعوة والبيان ثم القتال.
  2. الجهاد من الأحكام التكليفية التي شرّعت مرحليًا، وبذلك يؤسس على أنه غاية لمرحلة ما والأصل هي الدعوة.
  3. البدء في الجهاد مشروط بالمصالح والموازنات، معتمدًا على فقه المآلات.
  4. رفض تمثيل بجثث الكفار، لأن المقصود من قتلهم كفُّ شرهم وليس بعد الموت إيذاء، ولا حتى حرق.
  5. أن يكون القصاص عن حق وليس عدوانًا.
  6. لم يرفض ابن تيمية عقد الصلح والمعاهدات مع المشركين بل جوز للحاكم المسلم المبادرة إن كان الصلح خيرًا للأمة.

يتضح مما سبق، أن ابن تيمية لم يُقرأ بشكل جيد من قبل أتباعه وأعدائه، أما أعدائه فيمكن تفهُّم موقفهم حتى وإن نسبوه للإرهاب، فهم في النهاية يستندون إلى تنظيرات أتباعه، الذين يدعون اتباع منهجه، دون أن يحسنوا قراءته، ولا فهم ظرفية حالة ابن تيمية من ناحية الزمان والقضايا التي اشتغل بها.