بخيام بالية وبطون خاوية واجه اللاجئون السوريون أحد أعتى العواصف الثلجية التي اقتلعت خيامهم وفاقمت من مآسيهم، وهم الذين أووا إلى تلك الخيام فرارًا من الجحيم، فإذا بهم يلقون جحيمًا أخرى لا يملكون منها فرارًا؛ فبعد أن هربوا بحيواتهم من قصف الصواريخ والبراميل المتفجرة والسلاح الكيماوي على أيدي جيش النظام والروس، يجدون أنفسهم في عين العاصفة ولا يجدون نصيرًا.

وبين جنبات أخبية من القماش أو البلاستيك هبطت درجات الحرارة إلى عدة درجات تحت الصفر، لفظ عدد من الأطفال أنفاسهم الأخيرة من شدة التجمد بعدما عجز آباؤهم وأمهاتهم عن توفير الدفء لهؤلاء الصغار رغم محاولاتهم الحثيثة لإنقاذ فلذات أكبادهم، ولكن الواقع المؤلم كان أكبر من قدرات الأسر المكلومة التي ليس لها حول ولا قوة، وفقدت كل شيء في رحلة الهروب إلى مخيمات ما لبثت أن أصبحت قبورًا لأطفالها.

وحاول البعض جمع الحطب أو أي مواد لإشعال النار فيها طلبًا لقليل من الدفء أو حتى إشعال النار في بعض متعلقاتهم القليلة كالملابس القديمة وقطع البلاستيك، لكن المؤسف أن البعض منهم توفوا خنقًا أو حرقًا جراء تلك المحاولات أيضًا، مع غياب مادة المازوت التي تستخدم للتدفئة، وحتى عندما جمع البعض الأخشاب المتناثرة أو قطعوا أغصان الشجر اجتاحت المياه أراضي المخيمات لتتلف ما بداخلها فقد تعاقب عليهم انهمار المطر والرياح الشديدة والثلوج المتساقطة في أحد أسوأ الكوارث الإنسانية التي شردت الآلاف في العراء.

 وأعلنت فرق «منسقو استجابة سوريا» انتهاء العمر الافتراضي لأكثر من تسعين بالمائة من المخيمات في شمال غرب سوريا، وانهيار المئات منها بشكل كامل، وكذلك تضرر الكثير منها، وقطع وصول مواد الإغاثة إلى عشرات المخيمات بسبب ظروف الطقس السيئ فتعذر وصول المواد الغذائية ومياه الشرب إلى السكان المحاصرين بالثلوج رغم نجاح مجموعات الدفاع المدني السوري (تعرف أيضًا باسم الخوذ البيضاء وهي تابعة للمعارضة) في الوصول إلى بعض المناطق لاحقًا وكسح الثلوج عن الطرقات ومن فوق الخيام منعًا لسقوطها.

وتجدر الإشارة إلى أن ما حدث لم يكن مفاجئًا، بل كانت الأرصاد تتنبأ بمثل هذا الطقس السيئ، لكن نقص الإمدادات والانخفاض الحاد في مواد الإغاثة أعاق اتخاذ إجراءات استباقية لمنع الكارثة، فإمكانات الفصائل السورية في الشمال تبدو محدودة مقارنة بهذا التحدي، والمنظمات الإنسانية الدولية أيضًا تشكو منذ فترة من قلة ما بيدها من مخصصات لمنطقة شمال غرب سوريا.

وأرسلت جهات خيرية تركية مساعدات إلى المنطقة وبعثت الأمم المتحدة 70 شاحنة محملة بمساعدات إنسانية من خلال معبر «باب الهوى» الحدودي مع تركيا لتوزيعها على المحتاجين في مدينة إدلب وريفها.

«هبة» و«ياسمين»

أطلق علماء الأرصاد الجوية على العاصفة اسم «هبة»، واشتهرت الموجة التالية التي بدأت منذ يوم الأربعاء باسم «ياسمين»، ولم تقتصر على الأراضي السورية، بل شملت دول المنطقة وفيها لبنان والأردن اللتان يقطن بهما أعداد كبيرة ممن شردتهم الحرب السورية؛ فلبنان يضم حوالي مليون ونصف مليون، من ضمنهم مئات الآلاف يعيشون في الخيام في مناطق عشوائية، وبعض المخيمات لا يُسمح للاجئ السوري بمغادرتها إلا بتصريح أمني من السلطات اللبنانية، وقد فاقمت العاصفة من مآسيهم بالتزامن مع انهيار اقتصادي ومعيشي غير مسبوق في لبنان، انعكس بشدة على اللاجئين فتعرض العديد منهم للطرد من منازلهم بسبب عدم قدرتهم على دفع الإيجارات.

وفي الأردن يعيش ما يزيد عن 672 ألف لاجئ سوري، بحسب مفوضية الأمم المتحدة لشئون اللاجئين، بينما تشير عمـَّان إلى وجود 1.3 مليون لاجئ سوري على أراضيها لم يسجل نحو نصفهم في مفوضية اللاجئين.

ويصل عدد اللاجئين الذين يعيشون في البلدان المجاورة بصفة عامة إلى 5.6 مليون، يشكل الأطفال ما يقرب من نصف إجمالي هذا العدد فضلًا عن الأرامل وذوي الإعاقة والمسنين، يعاني معظمهم من البطالة وكثير من أطفالهم تسربوا من التعليم.

وبسبب سوء الأوضاع المعيشية في أرض اللجوء عاد بعضهم إلى بلدهم لكنهم تعرضوا للاعتقال والاختفاء والتعذيب والاغتصاب على أيدي قوات النظام السوري بحسب تقرير لمنظمة العفو الدولية صدر في يوليو/تموز الماضي بعنوان «أنت ذاهب إلى الموت»، حذر من العودة إلى سوريا في الوقت الراهن.

المساعدات وحدها ليست حلًّا

يأتي هذا عقب موجة عنيفة من القصف الجوي لسلاح الطيران الروسي استهدفت مناطق المعارضة في شمال غرب سوريا أدت لقطع خدمات أساسية عن مئات الآلاف منهم بعد تدمير المرافق الحيوية لديهم.

كما حاولت روسيا مرارًا قطع شريان المساعدات الإنسانية التي تشرف عليها الأمم المتحدة عبر «باب الهوى» الحدودي مع تركيا إلى محافظة إدلب؛ لأنها ما زالت خارجة عن سيطرة الرئيس بشار الأسد، ويعتبرها نظامه انتهاكًا لسيادته، ويريد التحكم في تلك المساعدات واستعادة سيطرته على مناطق المعارضة.

وأشارت موسكو في كانون الأول/ديسمبر الماضي إلى عزمها منع تجديد فترة السماح بتلك المساعدات في موعدها المحدد في 10 كانون الثاني/يناير الجاري، لكنها عادت وسمحت بمرورها في تراجع بدا أنه جاء بسبب تفاهمات مع واشنطن التي خففت وطأة بعض عقوباتها على نظام الأسد مؤخرًا.

ومن المنتظر أن ينتهي هذا التفويض الأممي المؤقت بإدخال المساعدات الإنسانية بعد ستة أشهر مما يفتح المجال أمام موسكو لوقف تدفقها عبر الحدود، الأمر الذي «سيكون له عواقب مدمِّرة» حال حدوثه، وفق تعبير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس.

لكن حتى لو تم حل أزمة المساعدات وتوفيرها بأضعاف ما يحتاجه اللاجئون فإن هذا لا يمثل أكثر من قضية فرعية آنية، بينما يظل أصل المشكلة قائمًا وهو تهجير الملايين من البشر من بيوتهم فضلًا عما أصابهم من آلام فردية لا تتسع صفحات آلاف الكتب لحكايتها، ففي داخل كل خيمة، أو بالأحرى داخل كل شخص منهم، قصة طويلة مليئة بالفصول المؤلمة، وجدت حالات نادرة منها سبيلها إلى وسائل الإعلام؛ كحالة الطفلة أمينة إسماعيل التي أُجريت لها 40 عملية جراحية لعلاج حروق تسببت بها قذيفة واحدة لم تشفَ من آثارها حتى اليوم، أو منذر النزال الذي بترت ساقه بسبب القصف واشتهرت صورته وهو يحمل طفله المولود بلا أطراف بسبب استنشاق أمه غازات سامة أطلقتها قوات النظام، وفازت صورتهما بجائزة أفضل لقطة لعام 2021 في إحدى المسابقات الدولية.