قبل أشهر قليلة أجمع المحللون العسكريون أن الجيش الأوكراني جيش متهالك، وقواته في حالة يرثى لها. وهو نفس ما قاله فيكتور موزينكو، القائد الأعلى السابق للقوات المسلحة الأوكرانية، إذ قال إن جيش بلاده في حالة خراب، لكن حين أتى الاختبار المؤلم بالهجوم الروسي على أوكرانيا أثبت الجيش الأوكراني بسالته في المقاومة بغض النظر عن مدى تطور الأسلحة التي يحارب بها، فرغم الإمداد الغربي الكبير لأوكرانيا بالأسلحة والآليات العسكرية، فإن الحالة القتالية التي تتملك الشعب الأوكراني، المدني والعسكري، كان لها الفضل الأكبر في هذا الثبات المبهر.

فرغم أن روسيا دفعت بـ150 ألف مقاتل بري، وهو رقم أكبر مما فعل السوفييت في حرب الشيشان الأولى والثانية، لكن أثبت عموم الأوكرانيين أنهم قوة لا يُستهان بها، يرجع ذلك إلى ثقافة الحس الوطني والتطوع العسكري التي تنامت لدى عموم الأوكران. هؤلاء المتطوعون على الرغم من عدم جاهزيتهم الكاملة للقتال فإنهم ساعدوا على جعل الخط الأمامي للجبهة الأوكرانية متماسكًا ما منع المزيد من التقدم الروسي نحو العمق.

فقد قاموا بسلاسل بشرية وحواجز مرتجلة أبطأت من تقدم الروس، كذلك قام المزارعون الأوكران بسرقة بعض المعدات الروسية، والمعدات المعطلة كي يمنعوا الروس من إصلاحها. كما رفض موظفو المناطق التي سيطر عليها الروس الذهاب إلى أعمالهم ومحالهم فأدى غيابهم عن الأشغال العامة والسكك الحديدية إلى تعطيل حركة القوات الروسية، وحين اشتدت الحرب وبدأت القوات الروسية في التصرف بعنف مع هذه المقاومة لجأ الأوكران للعنف أيضًا.

فالمقاومة المدنية غير المنظمة هي المسئولة عن انفجار بسيارة مفخخة على يفجيني باليتسكي، حاكم المنطقة المنفصلة الموالية لروسيا، وفي تلك المدينة تحديدًا تقول التقارير إن المقاومة الشعبية قتلت 100 جندي روسي، وكشفت محادثات هاتفية مسربة شكوى للجنود الروس من أعمال تخريبية عديدة تطالهم في معسكراتهم، وفي مناطق أخرى قام السكان المحليون بوضع ملصقات لصور جنود روس يُطعنون كنوع من التخويف للجنود الباقيين.

الأوكرانيات يصنعن كوكتيل المولوتوف

وفي مناطق أخرى أُنشئت مواقع إلكترونية لتقديم النصائح حول استخدام الأسلحة، وشرح كيفية سرقة دبابة وتشغيلها، أو تعطيل مركبة مدرعة بوضع الأرز في خزان الوقود أو صنع زجاجة مولوتوف أو على الأقل كيف الاتصال بهواتف القواعد العسكرية الروسية وإزعاجهم، يؤكد الأهالي بذلك أنهم سوف يحولون حياة الروس إلى جحيم بكل الوسائل وبأبسط الأدوات المتاحة.

كما أنشأ نشطاء محليون قنوات على وسائل التواصل الاجتماعي تعرض صور المتعاونين الروس، ومعلومات عن أماكن وجودهم وأرقام هواتفهم، وفي مدن أخرى يعرض الأثرياء مكافآت مالية لمن يقتل مسئولًا روسيًا، تصل إلى 20 ألف دولار لمن يقتل رئيس مدينة أو شخصًا مهمًا مواليًا للكرملين. فمثلًا فاليري كوليشوف، مُدّون موال لروسيا، قتل بالرصاص في سيارته الشهر الماضي في مدينة خيرسون التي تعرض مكافأة 20 ألف دولار لمن يقتل أي موال لروسيا.

أما في مدينة ميليتوبول، ثالث أكبر المدن الأوكرانية التي استولت عليها روسيا، فإن المقاومة لم تسكت. فقد شارك الثوار المدنيون مع القوات الخاصة الأوكرانية في قتل 70 جنديًا روسيًا. كما شاركوا في تفجير جسر حيوي كان يُستخدم لإمداد الجيش الروسي. وأوقفوا قطارًا كان يحمل جنودًا وإمدادات للروس عبر تفجير خط السكة الحديد. كذلك انفجرت أعداد من القنابل اليدوية بجوار مبنى يستخدم كمقر للقوات الروسية.

سيدة الفحم مثال على ذلك، فتلك السيدة المجهولة لا يعرف أحد تفاصيل حياتها، إلا أنها تدهن وجهها بالفحم وتحمل بندقية قنص، وتنتشر لها مقاطع فيديو وهي تصطاد الجنود الروس، كما أن النساء الأوكرانيا انتشرت لهن مقاطع مصورة وهن يقمن بتعبئة زجاجات المولوتوف. فيعبئون السائل في زجاجات ويغلفونها بقطع قماش مبللة بالبنزين ليسهل اشتعالها، ويحكمون إغلاق الزجاجات بشريط لاصق. ويضعون الزجاجات في صناديق ويتربصن على الطرق بانتظار مرور رتل عسكري روسي أو دبابات روسية.

هربًا من وصمة العار

كما أسهمت النساء والأطفال في صناعة شباك التمويه لمساعدة جنودهم على التخفي من الروس، كما تقدمت مجموعات من النساء إلى الحدود البولندية تنتظر الجنود الوافدين من مناطق قتال مختلفة لمساعدتهم بتقديم الطعام، كما أظهرت الصور وقوف عدد من المدنيين أمام الدبابات الروسية لمنع تقدمها.

كل ذلك يحدث تحت تشجيع واقتداء بالقائد العام للقوات الأوكرانية الجنرال فاليري زالوجني. لم يكن الرجل معروفًا لأي فرد من المواطنين الأوكران حين تم تعيينه قبل عام من الآن، لكن حاليًا أصبح الرجل رمزًا للمقاومة ضد الروس، ففي عيد ميلاده التاسع والأربعين في يوليو/ تموز الماضي أرسل له الأوكرانيون برقيات تهنئة عبر وسائل التواصل لدعمه في قتاله ضد الروس.

الرجل استطاع استعادة ثقة الأوكرانيين أنفسهم في جيشهم، بعد المقاومة المبهرة التي أبدتها القوات في مواجهة التقدم الروسي، وبدأت القوات الأوكرانية نفسها في الانصياع لأوامره بشكل طوعي، رغم ضرورة طاعته كونه القائد الأعلى، لكن هناك العديد من الطرق التي يمكن للجنود طلب تغيير الأوامر من خلالها، لكن ثقتهم في الرجل جعلت تحركاتهم أسرع وتنفيذهم للأوامر أكثر احترافية. مجلة «التايمز» وضعت الرجل ضمن أكثر 100 شخصية نفوذًا في عام 2022 بجانب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.

زالوجني لخص ما يريده هو والأوكرانيون من تلك الحرب، أنه بغض النظر عن النتيجة يجب ألا تكون هذه الحرب وصمة عار في تاريخ أوكرانيا. يخدم الرجل في الجيش الأوكراني منذ 24 عامًا. وترقى في المناصب المختلفة من قائد فصيلة إلى قائد العمليات ضد الانفصاليين الموالين لروسيا في شرق أوكرانيا منذ عام 2014. ورئيس القوات البرية عام 2019، ثم قائدًا عامًا للقوات المسلحة في يوليو/ تموز 2021.

دمج المتطوعين

الرجل أتاح حرية قتالية أكبر لكتيبة آزوف التي صنفتها روسيا باعتبارها منظمة إرهابية. الكتيبة لعبت دورًا بارزًا في الحرب التي اندلعت في شرق أوكرانيا عام 2014 ضد الانفصاليين. وعادت للبزوغ مرة أخرى في الحرب الروسية الأوكرانية الحالية، الكتيبة شكلها في الأصل متطوعون، لكن لاحقًا تم دمجها في الحرس الوطني الأوكراني. ويبلغ تعدادها من 900 إلى 2500 مقاتل.

وتتبع الكتيبة حاليًا وزارة الداخلية وتعتبر الذراع العسكرية لها، وأول قائد لها كان أندريه بيلتسكي، وترك قيادتها بعد أن أصبح نائبًا في البرلمان من 2014 إلى 2019. الكتيبة لا تخفي أنها تضم عددًا من القوميين، أو المعروفين بالنازيين الجدد، لكن لا يبالي عموم الأوكرانيين بذلك، فالكتيبة في نظرهم كتيبة أبطال لأنها تقاوم الهجوم الروسي، لكن الحكومة الأوكرانية أكدت أن الكتيبة تخلصت من الأفكار القومية، ولم يعد لها علاقة بالسياسة بعد دمجها في القوات النظامية الرسمية.

وتعتمد الكتيبة في تمويل عملياتها بشكل أساسي على التبرعات من الأثرياء الأوكرانيين، وفي بعض الأحيان تتلقى تمويلًا من وزارة الداخلية. في عام 2015 قررت كندا والولايات المتحدة وقف دعم وتدريب تلك الكتيبة لعلاقاتها بالنازيين الجدد، لكن في العام التالي مباشرة رفعت الولايات المتحدة هذا الحظر، لكن استمرت السجالات داخل الكونجرس الأمريكي للمطالبة باعتبارها منظمة إرهابية دون أن يحدث ذلك صدى رسميًا في الكونجرس.

لكن في الحرب الأخيرة ظل أفراد الكتيبة محاصرين داخل أحد المصانع الأوكرانية من قبل القوات الروسية. ووفقًا للسلطات الروسية فإن 1000 فرد من الكتيبة استسلم في ذلك المصنع، ويواجهون خطر السجن لعشرين عامًا بسبب تهم القتل والإرهاب التي تواجههم أمام المحاكم الروسي.

كل تلك المقاومة تمثل عقبة غير متوقعة للقيصر الروسي. وتشكك، ولو قليلًا، في اليقين بأن أوكرانيا سوف تنهار سريعًا، فقد دخلت الحرب شهرها السادس. والأهم أنها كسرت التوقع الإعلامي الروسي بأن يتم الترحيب بقواتهم كقوات تحرر وطني، بل أثبتت التقارير الروسية أنه يتم معاملتهم كمحتلين، وعلى القيادة الروسية أن تتعايش مع هذا الواقع.