قبل عشر سنوات من الآن لم يكن أحد يعرف الكثير عن شي جي بينج. المعلومة الأبرز كانت أنه ابن أحد زعماء البلاد الثوريين. لكن هذا النسب وحده كان كافيًا ليجد الرجل لنفسه مكانًا بين الكبار في الحزب الشيوعي الصيني. واستمر ترقيه في المناصب داخل الحزب مستفيدًا من الدعم الذي يتلقاه من عائلته، والأهم من شهرته وسط الحزب بأنه الرجل الذي يستطيع التوصل لحلول وسط مع الجميع. فقد كانت أبرز جملة تتكرر على لسان من يُسأل عن سر دعمه لـشي في السنوات الأولى، أنه الرجل الذي يمكنه خلق تسوية ترضي الكل.

الآن، بعد عشر سنوات كاملة، اختلفت الصورة كثيرًا، وبات شي جي بينج هو الرجل الذي لا ينازعه أحد على السلطة. وصار إمبراطورًا يحكم بسلطة مطلقة. محاولة فهم السر، أو الأسباب، وراء هذا التحول تحتاج قفزة ضخمة للخلف. ماو تسي تونج، مؤسس الدولة الشيوعية الصينية، قال ذات مرة إن السلطة السياسية تنمو من ماسورة البندقية.

ببساطة شديدة لخص الرجل الأمر، ووضع القاعدة لمن يريد أن يُحكم سيطرته على السلطة. فإذا عدنا للبنادق في زمن ماو تسي لوجدنا أنها كانت البنادق المزودة بسكاكين في مقدمتها. إذًا فالسيطرة يجب أن تكون على البندقية، والسكينة أيضًا.

ماو نفسه بعد تأسيس الصين الشعبية عام 1949 عمل جاهدًا على أن يضمن شيئًا أساسيًا واحدًا. أن الحزب وحده هو من يسيطر على جيش التحرير الصيني. فمنذ تلك اللحظة صار رئيس الحزب الشيوعي هو رئيس اللجنة العسكرية المركزية. ما يعني أن الدولة نفسها لا علاقة لها بالجيش، الحزب وقائده هما المتحكمان في البنادق كلها. لذا ففي اللحظة التي تولى فيها شي جي الحكم، وجّه عصاه أولًا للجيش، واستأصل كل المعارضين لشخصه أو لسياسته، وسحق كل من يُحتمل أن يصبحوا معارضين له في يوم من الأيام.

تفتيت الجيش لكيانات صغرى

لم يكتف الرجل بإخراج من لا يعجبه من العمل الفعلي داخل الجيش، بل استهدفهم حتى بعد التقاعد. عام 2015 وُجهت اتهامات لنائب اللجنة العسكرية المركزية، شو كايهو، واتهامات مماثلة لجنرال مؤثر في اللجنة يُدعى جو بوشيونج، بالفساد. رغم خروجهما من الصورة الرسمية فإن استهداف شي لهما ساعده في تقليص نفوذها لأقل درجة داخل الجيش. كما أن استهداف الاسمين الكبيرين كان بمثابة إعلان للجميع أنه لا أحد محصن من بطش الزعيم مهما كان موقعه.

لم يرد الرجل الاكتفاء بمجرد الرهان على ولاء القادة الذين يلونه في مناصب الجيش. بل عكف على الوصول لأفضل شكل للجيش يمنع وجود تكتل كبير من الجنود تحت قيادة فرد واحد. ففي عام 2015 كذلك قرر شي جي إعادة هيكلة الجيش بالكامل. ألغى التقسيم التقليدي للجيش الذي كان مقسمًا إلى 4 أقسام، شئون الأفراد والسياسات والشئون اللوجيستية والتسليح. بدلًا من تلك الكيانات الأربعة الكبرى قسمّها إلى 15 كيانًا صغيرًا.

كما كان النظام القديم يفرض الهرمية، فلا بد أن يمر قرار اللجنة المركزية بالقيادة المباشرة للجنود كي يستجيب الجندي. لكن الرجل عدّل ذلك ليصبح من حق اللجنة المركزية توجيه الأوامر مباشرة لأي فرد في أي جهة. كما أن التقارير التي كانت تُرفع من قاعدة الهرم، مثل تقارير الرقابة المالية، كان لا بد أن تصل للجنة المركزية عبر الأعلى فالأعلى، لكن بتعديلات شي جي باتت التقارير تُرفع إليه مباشرة دون المرور بأي وسيط.

كعادة الدول الشيوعية تظل الدعاية جزءًا مهمًا من برنامجها. فلا تتوقف الجرائد الرسمية للدولة والجيش عن نشر مقالات، آخرها كان في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2022، تؤكد فيها أن الولاء هو للجنة المركزية وللسيد تشي. تهدف اللجنة من تلك المقالات إلى تحييد أي شعور بالولاء قد ينمو في نفس الجنود تجاه قائد ما، أو تجاه بعضهم البعض، فكل فرد يُحتمل أن يصبح معارضًا في لحظة ما.

وطالما أن الولاء للسيد تشي، فإن الجيش منوط به تنفيذ كل الأوامر التي تخدم بقاءه في السلطة. وعلى الأفراد أن يبلغوا عن أي نشاط قد يهدد تلك الحقيقة.

لا قواعد إلا بقاءه

نعود للبندقية والسكين. فإذا كان الجيش هو البندقية، فمن يمكن أن يكون السكين. ثاني أقوى جهاز في الصين بعد الجيش هو جهاز الأمن الداخلي. يؤكد تلك الحقيقة أنه من أوائل ما قام به الرجل في فترة حكمه الأولى هو اعتقال رئيس جهاز الأمن المحلي بنفس تهمة اعتقال جنرالات الجيش، الفساد. زو يونج كانج، الرئيس المُعتقل، كانت تربطه علاقات قوية للغاية برجل آخر يُدعى بُو شي لاي، هذا الأخير هو ابن أحد الزعماء الثوريين الذي كان غريمًا كبيرًا للسيد تشي.

لذا خاف شي أن تكون علاقات زو يونج هي الباب الذي تأتيه منه ريح المعارضة. الملاحظ أن صدمة التحقيق مع زو يونج كانت ضخمة إعلاميًا وسياسيًا. ففي الصين ثمة قاعدة عرفية غير مكتوبة بأن أعضاء اللجنة السياسية الدائمة في الحزب الشيوعي، أكبر هيئة لصنع القرار والأعلى نفوذًا في البلاد، يمكن أن يُعزلوا لكن لا يُسمح بمحاكمتهم جنائيًا أو تطبيق عقوبات جنائية عليهم كأنهم أفراد عاديون.

لكن بكسره تلك القاعدة أكد شي للجميع أنه لا يلتزم إلا بقاعدة واحدة، وهي بقاؤه في السلطة. وأنه سوف يبسط نفوذه مهما كلفه الأمر. لهذا يقول العديد من المحللين الصينيين إنه حتى القادة الذين دعموا صعود شي للسلطة تفاجئوا من سرعة القرارات التي أخذها الرجل لإحكام قبضته على السلطة. وكان مرعبًا بالنسبة لهم وصوله للقبضة الحديدية على الحزب والبلاد في فترة قصيرة وسط ذهول المؤيدين قبل المعارضين.

ففي العشر سنوات التي كان الرجل فيها على رأس السلطة حققت أجهزة مكافحة الفساد مع قرابة 5 ملايين شخص. ثم حين فرغ الرجل من معارضيه ركز في عامي 2020 و2021 على التخلص من الأقوياء الذين ساعدوه على اعتلاء السلطة. وبات كل ما يحيط بالرجل هو مناصب ثانوية، وأشخاص ضعفاء كان هو من رفعهم في المناصب ومنحهم ترقيات وظيفية لم يكونوا يتوقعونها. وأصبحت دائرة صنع القرار كلها أصدقاء درسوا معه سابقًا، أو عملوا تحت إمرته في وظائف سابقة، أو لهم صلات عائلية معه.

عبادة الرجل

لقد استطاع شي جي أن يجعل من نفسه كيانًا متجاوزًا لجسده المادي. ففي عام 2018 أضيف مادة في الدستور الصيني تنص على ضرورة اتباع أفكار شي جي بينج بخصوص الاشتراكية ذات السمات الصينية لتقود الصين نحو عهد جديد. بتلك الفقرة البسيطة استطاع شي أن يُرسخ إرثه في الخيال الصيني كقيمة وطنية، ورجل من التاريخ تصادف أن الصينين الحاليين يعيشون تحت إمرته وفي عهده.

لقد منح نفسه، ومنح الصين كذلك، الشعور الذي عاشه رجل واحد فقط على مدار تاريخ الصين الحديث، ماو تسي تونج. فلم يُربط أي اسم لأي سلف لشي جي بفكرة أو نظرية. فما يقوله الرجل في نظرياته، أو مضمون كلامه الموجود في الدستور، ليس مهمًا. لكن المهم حقًا هو الفكرة ذاتها، وتأكيد سلطته ونفوذه على الصين، عسكريًا وسياسيًا وثقافيًا.

الرجل لا يريد الحكم المُطلق فحسب، بل يريد أن يصير معبود الشعب. وواحدة من الأباطرة الذين يقدسهم الصينيون. فمثلًا أطلقت العديد من الجامعات الصينية المرموقة اسم تشي جي بينج على العديد من مراكز الدراسات والأبحاث. وفي أغسطس/ آب 2022 أعلنت وزارة التعليم الصينية عن خطة لتضمين أفكار الرجل ضمن المناهج الدراسية. وقبل ذلك بعامين شهدت الهواتف المحمولة وجود تطبيق يُدعى تعلم من شي، ويحتوي على ألعاب ومعلومات حول عقيدة شي وحياته وأفكاره.

بعد كل ذلك ربما ليس من المنصف حصر أسباب نفوذ الرجل في التحكم العسكري فحسب، أو الديكتاتورية ببساطة، بل لأن الرجل أعاد إحياء شخصية ماو تسي تونج أمام أعين الشعب، وحين كان ماو يتخذ موقفًا ضد أي شيء مهما كان تافهًا أو بسيطًا كان الجميع يتخذ جانب ماو دون التساؤل حتى حول لماذا فعل ماو ما فعل، وهو ما يتكرر حاليًا مع تشي جي بينج.

الشعب الصيني يدعمه

كما أن الرجل يقود الصين بصورة ناجحة، طبقًا للطريقة التي يرى بها الصينيون العالم وموقعهم فيه. فقد حرص الرجل على التوسع في التسليح، وتقوية الجيش الصيني دون الاعتماد على التقنيّات الغربية. كما يصطدم بشكل جريء مع المجتمع الدولي فيما يتعلق بجزيرة تايوان دون أن يتخذ المجتمع الدولي موقفًا حقيقيًا من تهديداته، ما يجعله منتصرًا حتى الآن في تلك المعركة.

ويتعهد الرجل أمام الشعب أنه سيضاعف الاقتصاد الصيني بحلول عام 2035، ما يعني أنه يحتاج للنمو بنسبة 5% سنويًا. وهو أمر صعب لكن بوادره تتحق، ما يجعل العديد من الصينين يرون أن الثمن الذي يدفعونه من حريتهم الشخصية وتدخل الحكومة في مراقبة حياتهم ثمن معقول لما يحققه الرجل من نهضة. لذا فالرهان على التململ الشعبي من الرجل يبدو رهانًا خاطئًا حتى هذه اللحظة.

فالرجل قد قاد الصين نحو مسار شمولي بالتأكيد، بل حوّلها من شمولية جماعية إلى شمولية فردية، لكنه في نفس الوقت قادها في مسار طموح وناجح. قد يكون العامل المزعج للسياسيين الصينيين هو أن الرجل يرسخ العودة لحكم الفرد الواحد، وأن القيادة الجماعية قد وّلت منذ وصل شي جي بينج إلى السلطة. لكن قد يمثل الأمر مشكلة مع من يخلفه، لكن الغالبية تتفق أن على شي جي أن يستمر في منصبه طالما أراد كي يُكمل ما بدأه من إنجازات تتعاظم في عيون الصينيين كل يوم حين يرون النفوذ الصيني المتنامي خارجيًا.

فمعظم الصينيين لا يرون في بقاء شي جي بينج في السلطة حبًا فرديًا من قبله للسلطة، بل يرون وجوده لأسباب قومية يؤمن بها الرجل ويدافع عنها مهما كلفه الأمر من تعب ومشقة. فهو في الخيال الصيني زعيم حكيم قادر على العبور بالصين في الأوقات الصعبة. والأهم أنه الرجل القادر على المرور ببلده بسلام من أزمة انتقال القطبية، ومواجهة الطموح الأمريكي الراغب في تقليص دور الصين العالمي. لذا فمن لا يراه كأنه ماو جديد، فعلى الأقل يراه سائرًا مخلصًا على خطى ماو لكن بطريقة عصرية.