زيدان علّق على ما قاله «نويل لو جريه» ولكن لن أعلن ما قاله لنّا.

هكذا صرّح لاعب منتخب فرنسا السابق «كريستوف دوجاري»، في أعقاب التصريحات التي أطلقها رئيس الاتحاد الفرنسي السابق «نويل لو جريه» في حق زين الدين زيدان، بعد تمديد عقد ديدييه ديشامب كناخب وطني لفرنسا حتى عام 2026، وذلك رداً على الأخبار التي تناولت بأن زيدان كان مُرشحاً لتدريب الديوك بعد مونديال 2022.

وكان لو جريه قد صرّح قائلاً بأنه لم يتحدث أبداً مع زيدان حول تدريب منتخب فرنسا، وأنه حتى لو حدّثه زيدان هاتفياً لن يجيب، كما أنه لا يهتم إذا كان زيدان سيتولى تدريب منتخبات كالبرازيل أو البرتغال.

خلقت هذه التصريحات جدلاً كبيراً في الشارع الرياضي الفرنسي، بيد أن مدرب ريال مدريد السابق نأى بنفسه عن الرد بشكل علني على تصريحات لو جريه، وتجنّب الدخول في أي صراعات، ولكن ذلك لم يمنع أهم لاعب في منتخب فرنسا حالياً، كيليان مبابي، من الدفاع عنه، كما بادر ريال مدريد من جانبه وأصدر بياناً رسمياً استنكر فيه الهجوم غير المبرر من لو جريه على أحد أهم أساطير الكرة الفرنسية عبر تاريخها.

ولكن لماذا لم يرد زيدان على لو جريه، وهو الذي إذا تحدث سيستمع له الملايين، ربما هذا هو السؤال الذي يطرح نفسه بقوة، بخاصة وأننا نتحدث عن شخصية كروية مرموقة كلمتها ستكون مسموعة على نطاق واسع، وستلقى صدى كبير للغاية، حتى لو اكتفى فقط بالتغريد على حسابه على «تويتر» على سبيل المثال.

الشيء المؤكد أن فرنسا لديها تاريخ طويل من الإساءة للمهاجرين، ولكن لدى لاعبيها المهاجرين أيضاً تاريخ طويل من الاستحياء عن الرد أو اتخاذ مواقف كبرى، ربما لأنهم يدركون أن فرنسا وبرغم مساوئها ستمنحهم ما لن تقدر بلدانهم الأصلية على منحهم إياه، فيلتزمون الصمت للحفاظ على فرصهم من جهة، وكي لا يتم إقصاؤهم من المجتمع الذي بات لكثيرين منهم الملجأ الوحيد، في ظل استحالة عودة الكثير منهم إلى أراضي الأجداد.

«كاريمبو» و«الكاناك»

كريستيان كاريمبو، هو لاعب كرة قدم مثّل منتخب فرنسا في 53 مباراة دولية، وكان ضمن التشكيلة الفائزة بمونديال 1998 على الأراضي الفرنسية، حيث شارك كأساسي في أربع مباريات من أصل سبعة من بينهم ربع النهائي ونصف النهائي إضافة إلى المباراة النهائية، كما شارك مع فرنسا في الفوز بيورو 2000 في هولندا وبلجيكا، ولكن الوجه الآخر من قصته يعود لأصوله ولما تعرضت له عائلته على يد فرنسا.

كاريمبو تعود أصول أجداده إلى جرز تسمى «كاليدونيا الجديدة» في قبائل تدعى «الكاناك»، وهي قبائل استدعتها فرنسا عام 1931 للمشاركة في أحد مهرجاناتها للاحتفال بالفتوحات العالمية، حيث كانت تُنظِّم معرض تستعرض خلاله الدول التي قامت باستعمارها، وشاركت قبائل الكاناك آنذاك تحت مسمى «الكانيبال»، كما تم وضعهم بما يُسمى «حدائق الحيوان الإنسانية»، حيث كان الكانيبال يُوضعون في برك المياه مثل التماسيح.

بعد هذا التاريخ من الإهانات ربما قلت في قرارة نفسك بأن كاريمبو في طفولته ومراهقته عندما يسمع بقصص كتلك ربما لن يمثل فرنسا أبداً، ولكن لأنه يعرف بأن فرنسا ستمنحه فرصاً أفضل من كاليدونيا الجديدة سواء على مستوى مسيرته الدولية أو على مستوى التنقل بين الأندية، التزم الصمت واكتفى فقط بعدم ترديد النشيد الوطني الفرنسي قبل المباريات، وهو موقف ليس وحده منْ اتخذه تاريخياً، حيث هناك عديد من اللاعبين المهاجرين الذين لا يرددون نشيد المنتخبات التي يمثلونها.

موقف كاريمبو رغم إمكانية وصفه بالسلبي، ولكن ضمن له 53 مباراة بقميص البلد التي نأى بنفسه عن ترديد نشيدها، ولكنها لم تنأً بنفسها عن منحه لقب بطل العالم الذي سيلازمه حتى عندما يموت، إضافة إلى لقب اليورو، فضلاً عن منحها له فرصة تمثيل ناد هو الأعظم في العالم في نظر كثيرين وهو ريال مدريد، ليحقق بقميصه لقبين في دوري أبطال أوروبا، وهي أشياء ربما لم يكن حتى ليراها في منامه لو اختار اللعب لكاليدونيا الجديدة.

استثناءات أوروبية

تاريخياً احتفظ منصب المدير الفني لمنتخب فرنسا بشيء من الخصوصية، حيث سيطر عليه أصحاب الأصل الفرنسي، فقط مع وجود استثناءات قليلة للغاية، وكلها لأصحاب جنسيات أوروبية، وبالتحديد في ثلاث مناسبات فقط، حيث مُنح المنصب للإنجليزي سيد كيمبتون بين عامي 1934 و1936، وللإسباني خوسيه أريباس في مونديال 1966، والروماني ستيفان كوفاكس بين عامي 1973 و1975، وربما نعتبر ميشيل بلاتيني أيضاً استثناء لأصوله الإيطالية ولكنه يبقى أوروبياً في النهاية.

تقليد ربما أراد لو جريه أن يستمر على الأقل خلال فترة رئاسته للاتحاد الفرنسي التي شغلها منذ عام 2011، والمثير أن في عام توليه رئاسة الاتحاد كانت وزارة الرياضة تعزل المدير الفني للاتحاد «فرانسوا بلاكار» لأسباب مشابهة لتلك التي أطاحت بلو جريه مؤخراً، حيث أراد بلاكار فرض حصص تدريبية على أسس عرقية للحد من تواجد اللاعبين أصحاب الأصول العربية والأفريقية في منتخب فرنسا.

ومنذ ولوج لو جريه لأروقة الاتحاد الفرنسي كنائب رئيس بين عامي 2005 و2011، ثم كرئيس بين عامي 2011 و2023، لم يتول تدريب المنتخب سوى ثلاثة مدربين فقط، وهم: ريمون دومينيك، ولوران بلان، ثم ديدييه ديشامب المدرب الحالي، وهو ما يعكس ثقافة الرجل الإدارية الرافضة للتغيير بشكل عام، حيث تم الصبر على ريمون دومينيك رغم خروجه مبكراً من يورو 2008، ولم يخرج سوى بعد مشكلات عديدة في غرف الملابس في مونديال 2010. ربما لوران بلان الذي رحل سريعاً بعد مشاكل مع بعض اللاعبين في يورو 2012.

ثم أتى ديشامب الذي كسب حصانة كبيرة كونه قائد المنتخب الفائز بالمونديال واليورو بين عامي 1998 و2000، كما أكسبته إنجازاته كمدرب حصانة إضافية، حيث خاض نهائي يورو 2016 ومونديال 2022، فضلاً عن تتويجه بمونديال 2018.

وفي الماضي تم تجاهل أسماء مدربين كـ«أنطوان كومبواريه» و«جان تيجانا»، لأصولهما غير الأوروبية، حيث لم يتم ربطهم أبداً بتدريب المنتخب، وهو مصير يخشى المدافعون عن زيدان أن يلقاه، هو ومدرب آخر مثل «باتريك فييرا» على سبيل المثال، نظراً لأصولهم، حيث لم يستبعد لو جريه في وقت سابق من هذا العام إمكانية تولي «كريستوف جالتييه» تدريب الديوك حال عدم استمرار ديشامب، قبل أن يتوجه هذا الأخير لقيادة نادي باريس سان جيرمان، مما يعكس أفكار الرجل الذي كان يعطي الأولوية لمدرب كان مرتبط حينها بالفعل بعقد مع نيس، على مدرب متفرغ وهو زيدان، وربما أنت عرفت السبب الآن دون أن أخبرك به.

مصير أوزيل

على النقيض تماماً مما فعله كريستيان كاريمبو كان تصرف النجم الألماني مسعود أوزيل بعد خروجه رفقة منتخب بلاده من مونديال 2018 من الدور الأول، حيث رد اللاعب بقوة على هجوم الجماهير والصحافة الألمانية عليه بعد الخروج من كأس العالم، فصرّح قائلاً:

عندما نفوز فأنا ألماني وعندما نخسر فأنا مهاجر.

ودافع أوزيل -صاحب الأصول التركية- عن نفسه أمام موجة الانتقادات التي وُجهت له عندما التقى رئيس بلاد أبويه، رجب طيب أردوغان، حيث لم تلق صورته مع الرئيس التركي ترحاباً كبيراً بين الألمان. وبعد المونديال مباشرة ومع قوة الهجوم الذي كان عليه، أعلن اعتزاله اللعب دولياً بعد 92 مباراة حقق خلالها كأس العالم 2014 بقميص المانشافت.

وبعد هذا الموقف تم إقصاء أوزيل بشكل كبير من ألمانيا، حيث لم يحظ بفرصة إنهاء مسيرته بين أنديتها، وانتقل إلى تركيا بعد انتهاء مشواره مع أرسنال، فمثّل نادي فنربخشه، ثم نادي إسطنبول باشاك شاهير، الذي يلعب له حالياً، كما أنهت شركة «أديداس» الألمانية تعاقدها معه بعد موقفه ضد المجازر التي تُرتكب بحق مسلمي الإيغور، وهو ما أثار استياء نادي أرسنال الذي كان يدافع عن ألوانه حينها.

ذكاء معتاد

ربما تكون السطور السابقة قد أجابت لماذا اختار مدرب ريال مدريد السابق الصمت وعدم الرد على لو جريه، حيث اكتفى بالتعليق فقط في محادثة واتساب بينه وبين زملائه في مونديال 1998، الذي من بينهم دوجاري، الذي أبقى كلمات زيزو في طي الكتمان.

فزيدان الذي اشتهر طوال مسيرته بالذكاء كلاعب، اختار الاعتزال وهو في قمة مستواه، ثم كمدرب عرف كيف يدير نادياً من بين الأصعب في العالم ويقوده نحو البطولات، اختار الصمت في هذا الموقف لأنه إذا تحدث بصيغة هجومية لن يتم وصفه كرياضي يدافع عن حقه أمام لو جريه، بل سيتم وصفه كمهاجم يتحدى مواطن فرنسي أصلي، وحينها ستكون معركته خاسرة لا محالة، في حين أن صمته جلب له تعاطف العالم أجمع وأولهم الفرنسيين الذين لم يتوانوا في الدفاع عنه، بل وأسهموا في الإطاحة بلو جريه من منصبه لأجل عيون منْ حقّق لهم كأس العالم 1998 ويورو 2000.

صمت زيدان في هذا الموقف جعل انتباه العالم كله على تصريحات لو جريه فقط، التي كانت تدينه بشكل أو بأخر، وربما تمنى لو جريه في قرارة نفسه برد من زيدان حتى يتوزع الانتباه بشكل متبادل، وحين يتوزع الانتباه يمكنك أيضاً أن توزع الاتهامات، وهذا ما لم يحدث في هذه القصة.

صمت زيدان أطاح بلو جريه من منصبه ورشحه بعد ذلك لنفس المنصب، ولو ترشيحاً فخرياً، صمته أكسبه معركة لو فتح فمه بها لخرج بمكاسب أقل بكثير في مجتمع أوروبي يتصيد أي خطأ للمهاجرين، وهو ما لم يجدوه عند زيدان، وتجنّبه كاريمبو، وسقط أوزيل في فخه.