يهتم كل أبٍ وأم بالصحة الجسدية لأطفالهم، ويتابعون بشغفٍ مراحل نموهم الحركية واللغوية، وزيادة قراءات أوزانهم وأطوالهم، وكذلك مقارنة بنية أجسام أطفالهم بنظرائهم من الأطفال الآخرين. لكن قد لا يلتفت كثير من الآباء إلى الصحة النفسية بنفس هذا القدر من الاهتمام الواجب.

تخبرنا منظمة الصحة العالمية أن ما يقارب 10% من الأطفال حول العالم يعانون من اضطرابات نفسية أو ذهنية، وأن ما يقارب نصف تلك الحالات تحدث قبل سن 14 عامًا. ويُقدَّر بعض الباحثين أن مرض الاكتئاب يصيب ما بينَ 3% و5% من الأطفال، ورغم ذلك فإنه في معظم الحالات لا يُكتَشف مُبكَِرًا، وإن اكتُشِفَ، فلا يتلقى الطفل العلاج المناسب في الوقت المناسب. وفي الولايات المتحدة الأمريكية، يعاني على الأقل 5 ملايين طفل من اضطراباتٍ نفسية مؤثرة.

وإذا كان واجبًا على الآباء الاهتمام بتغذية أطفالهم، وتوفير كافة مستلزمات الحياة المادية لهم حسب الطاقة، فإن عليهم من باب أوْلى، حماية الأطفال من الاضطرابات النفسية بتغذيتهم معنويًا، وزيادة مناعتِهم النفسية ضد أمراض العصر مثل القلق والاكتئاب واضطرابات القلق والعدوانية. وهذا ما سنساعدُهم فيه في السطور التالية عبر عدة وصايا موجزة وقابلة للتطبيق لدى الغالبية العظمى على اختلاف الظروف والمشارب.

ولكن قبل الولوج إلى الوصايا الخاصة بالأطفال، أريدُ أن نُذكّر أنفسنا بأن فاقد الشيء لا يعطيه. وبالتالي فحفاظُ الوالديْن على صحتيهما النفسية والذهنية، وعلاقتهما البينية العاطفية السوية، هي المبدأ والمنتهى. وبالتالي، فإذا أوجبْنا على أنفسنا كآباء أن نبتغيَ حياةً نفسية مستقرة لأطفالنا، فالأولوية هي ألا ننسى نصيبنا من العمل على ذلك لأنفسنا، وأن نُحسنَ إلى أنفسنا، لنستطيعَ الإحسان إلى أبنائنا، فالدراسات العلمية تؤكد أن احتمالات إصابة الأطفال بالاضطرابات النفسية تزداد كثيرًا في حالة كان أحد الوالديْن مصابًا بمرضٍ نفسي، حيث تصل احتمالية إصابة طفلٍ بالاكتئاب إلى 25% إذا كان أحد والديْه مصابًا بالاكتئاب، وتتضاعفَ إذا كان كليْهما مصابيْن.

كما يجب أن نُذكّر أنفسَنا مِرارًا وتكرارًا بأنَّنا بشر ضعفاء، وأن شمعتنا تحترق لتُنيرَ أنفسنا ولتبعَث فينا الدفء أولًا، قبل أن تحترق من أجل أطفالنا والآخرين. ومن الضروري أن نُحسِن تنظيم حياتنا بشكلٍ يجنبنا الإرهاق النفسي والجسدي الشديد، حتى يتوافر لنا الفائض الكافي لتربية أطفالنا بشكلٍ إيجابي، لا يستدعي كثيرًا من الصراخ والضرب، اللذيْن يدمران سواء الأطفال النفسي ومناعتهم الذهنية.

اقرأ: متلازمة التعب المزمن: كيف نتغلَّب على مرض العصر.

وفيما يخص الوصايا الآتية، فلنتذكر قاعدة أن ما لا يُدرَكْ كلُّه، لا يُترَك جلُّه، وأزيد عليها، أو بعضه. فلنطبق منها ما استطعنا، ولنتجب تمامًا جلد الذات في حالة وجود التقصير، لأن هذا غير مُجدٍ على الإطلاق.

1. قضاء وقت جيد

قضاء وقتٍ متميز كمًّا وكيفًا مع الطفل هو فرض عين من أجل تحصينه نفسيًا وعاطفيًا ضد مختلف أنواع الاضطرابات النفسية واختلالات الشخصية. وحبَّذا إن امتلأ هذا الوقت بالكثير من المرح والتباسط الذي يمنح الطفل الكثير من الثقة في نفسه، ويستحسن إغلاق الهاتف خلال تلك الأوقات لتكون خالصةً للطفل من دون الانشغالات والمُشتّتات.

ويمكن إدماج الطفل في مشاغلنا اليومية، بجعله بشكلٍ وديٍّ يشاركنا ويساعدنا في بعض المهام المنزلية البسيطة، مثل كنس الغرف أو غسل الصحون أو ترتيب الأسرة… إلخ.

كذلك، بادِر بسؤال الطفل عن أحداث يومه، وعن مشاعره، وكنْ معه أكثر الوقت مُستمعًا قبل أن تكون متكلمًا وناصحًا.

2. حب غير مشروط

لكي يصيح الطفل سويًا، ومحصَّنا من الاضطراب النفسي والعاطفي، يجب أن يشعر أن والديْه يُحبَّانه دون قيدٍ أو شرط، فتجنَّب قدر الاستطاعة أسلوب الابتزاز بالحب الذي يقع فيه أكثرنا (افعل كذا لكي أحبك، لا تفعل كذا لتكون حبيبي… إلخ).

ويجب أن تُعبّر عن مشاعرك تجاه الطفل بوضوح، وبذلك باللسان، وباللمسات الحانية، وبالأحضان الدافئة، وكل هذا سيبُثُّ في روحه الثقة والأمان، وتعزيز الصحة النفسية والذهنية.

3. لا تُعنف الطفل قدر المستطاع

لكي يكتسب الطفل الثقة في نفسه، وشجاعة الاعتراف بالأخطاء، وكلاهما من القيم التي تحافظ على السواء النفسي له، فيجب على الوالدين والمربين تجنب التعنيف الشديد، والزجر الشديد، لا سيما في العلن أمام الآخرين، حتى لا يشعر بالخجل الشديد الذي يجعله عاجزًا عن التعبير عن نفسه وأفعاله ومشاعره.

4. امتدح طفلك

يميلُ كثيرٌ من الآباء إلى انتقاد أفعال أطفالهم التي يرونها سلبية طوال اليوم، بينما قد لا يلتفتون من الأساس إلى أي بوادر إيجابية يقدِّمها الطفل، وهذا يُفقِد الطفل الثقة في أنفسهم، ويهدد متانة علاقته بوالديه، بل قد يجعل بعض الأطفال يصرون على السلوكيات والأفعال الخطأ، لأنها الضمانة الوحيدة لكي يلتفتَ إليهم الوالدان ويتفاعلان معهم ولو سلبًا.

احرص على أن تكيلَ لطفلِك الثناء على أي فعلٍ حميد مهمًا كان بسيطًا، كأن يعيد جمع ألعابه في الصندوق، أو أن ينهيَ طبق طعامه، أو أن يغسل يديه بعد العودة من الخارج… إلخ. وحاول أن تُصحح أفعالَه بشكلٍ غير مباشر بأن يقتدي بما تفعله أنت، أو بالطريق المباشر ولكن بلهجة ودية، منخفضة الصوت، هادئة النبرة، تشع بالود.

5. الرياضة

ممارسة الرياضة بشكل منتظم لا تحافظ على صحة الطفل الجسدية فحسب، إنما تلعب دورًا رئيسًا في تقوية الصحة النفسية، وتعزيز ثقة الطفل بنفسه، لا سيما إن أعانه الوالدان على احتراف وإتقان لعبةٍ ما، دون ضغطٍ نفسي شديد عليه من أجل الإنجاز الرياضي.

6. لا تُكابر ولا تكذب ولا تُقارِن

لا تتردد أن تعتذر إلى طفلك إن ارتكبتَ خطأ بحقه، فالمكابرة في ذلك تهزُّ ثقته بنفسه، وتؤثر سلبًا على نظرته للكون. ولا تكذب على الطفل أو تخبره بمعلوماتٍ غير دقيقة في أي فرعٍ من فروع الحياة، لأنه سيكبر يومًا، ويكتشف خطأ بعض تلك الأكاذيب، مما يهز كثيرًا ثقته في نفسه.

كذلك لا تُقارِن الطفل بفلان أو علان من أطفال العائلة والمعارف، فهذا يهز السويَّة النفسية، ويفسد علاقة الطفل بك وبمن تُقارنه به، كما يُفقده المساحة الاجتماعية الآمنة التي تُشعره بالثقة والأمان.

7. تدريبه على الاستقلالية

الهشاشة النفسية من أبرز عوامل الخطر المسبِّبة للإصابة بالعديد من الاضطرابات النفسية. والحرص الزائد على الطفل، والذي يحرمه من خوض العديد من التجارب الحياتية المهمة، أو التفاعل الإيجابي مع الآخرين، يزيد من تلك الهشاشة النفسية، التي تجعله أقل مناعةً أمام الصدمات النفسية والتجارب السلبية، مما يوقعه في الاضطرابات النفسية بشكلٍ أخطر.

احرص على أن تترك للطفل مساحة خاصة ليحاول التصرف بمسئولية معتمدًا على نفسه، ليكتسب المزيد من الثقة والقوة النفسية.

8. حماية الطفل من الأحداث المروعة

تعرُض الطفل في حياته المبكرة لبعض الصدمات الشديدة، من أبرز عوامل الخطر للإصابة بمختلف أنواع الاضطرابات النفسية والسلوكية. ولذا، فالواجب الأول للوالدين هو حماية الأطفال بكل ما أوتوا من طاقة من التعرض لاعتداء جنسي أو جسدي، أو صدمةٍ عاطفية شديدة، كانفصال الوالدين من دون سلاسة، أو الهجرة القسرية إلى مكانٍ بعيد مغاير لما اعتاده الطفل… إلخ.

9. تدريبه على نمط حياة صحي

من واجب الوالدين تجاه الطفل، تعويده على النوم المبكر ولفترةٍ كافية، فالنوم الصحي لا يعيد النشاط البدني فحسب، إنما يحافظ على الصحة الذهنية والنفسية. وكذلك هناك بعض الأدلة العلمية المتراكمة على أن الأكل الصحي الذي يحافظ على وزنٍ مثالي، يلعب دورًا مهمًا في تعزيز الصحة النفسية وتجنب الاضطرابات النفسي.

10. تجارب متميزة بصحبة الطفل

اصطحب الطفل- على سبيل المثال- في أسفارٍ داخلية أو خارجية متميزة، وأعِنهُ على صناعة ذكرياتٍ متميزة، يستدفئ بها في أوقات الإحباط التي لا شكَّ سيمر ببعضها.

11. الاكتشاف المبكر لعلامات الخطر الدالة على وجود الاضطرابات النفسية

كما نحفظ جميعًا عن ظهر قلب عبارة أن «الوقاية خيرٌ من العلاج»، فإننا أيضًا نعرف أن الاكتشاف المُبكر لأي مشكلة، يُسهّل حلَّها بأقل قدرٍ ممكن من المضاعفات. يذكر د. دافيد فاسلر، أستاذ الطب النفسي للأطفال في جامعة فيرمونت الأمريكية، أن الاكتشاف المبكر لمرض الاكتئاب في الأطفال وصغار المراهقين، يجعل علاجه أسهل كثيرًا، بينما التأخر في ذلك، يُفاقِم الحالة ومضاعفاتها، لأن الاكتئاب تراكمي، وكلُّ نوبةٍ من الاكتئاب تجعلُ التي تليها أشد وأخطر.

وفي حالة ملاحظة بعض علامات الخطر التالية على الطفل، فيجب على الوالدين استشارة متخصص في الطب النفسي والسلوكي للأطفال ليفعل ما يلزم:

  • الشعور بالحزن الشديد بشكلٍ شبه متواصل لأسبوعين فأكثر.
  • إيذاء النفس أو الآخرين بشكلٍ متعمد.
  • تغيرات كبيرة في السلوكيات أو العادات الغذائية زيادةً أو نقصًا في فترة زمنية قصيرة.
  • تدهور مفاجيء في الأداء الدراسي مقارنةً بالمعتاد.
  • الابتعاد عن التفاعلات الاجتماعية والميل إلى العُزلة معظم الوقت.
  • شكوى متكررة من أعراض جسمانية غير مُفسَّرة طبيًا، مثل آلام البطن أو الصداع… إلخ.
  • أرق شديد أو اضطرابات في النوم.
  • الإصابة بكوابيس متكررة أثناء النوم.
  • نوبات متكررة من الغضب الشديد.