لا شك أن أزمة فيروس كورونا التي يمر بها العالم حاليًا ستغير وجه الكوكب، وستشهد السياسات العالمية تغيرات وتحولات في مختلف المجالات، ولكن من المؤكد أن مكانة البحث العلمي ستختلف كثيرًا عما سبق، حتى في تلك الدول التي أهملت هذا القطاع لعقود.

تشير التقديرات إلى عدم تجاوز الإنفاق على البحث العلمي نسبة 0.5% من الناتج القومي الإجمالي لأيّ من الدول العربية، مقارنة بنحو 3.5% لألمانيا و2.9% لأمريكا و3% لليابان و4.7% لإسرائيل، مع انخفاض مساهمة القطاع الخاص في تمويل البحث العلمي إلى 3% فقط، مُقارنة بما يصل أحيانًا لنسب 60 و70% في الدول المتقدمة؛ ما تجلّى أثره في انخفاض الإنتاجية البحثية، بحيث بلغت متوسط 0.2 بحث فقط للباحث العربي مقابل متوسط 1.5 بحث للباحث في الدول المذكورة.[1]

وبالمُجمل بلغ نصيب الفرد في البحث العلمي في الدول العربية 14.7 دولارًا، ما يقل عن متوسط الدول النامية البالغ 58.5 دولارًا، والمتوسط العالمي البالغ 170 دولارًا، ويقل بكثير جدًا عن الدول المتقدمة البالغ 710 دولارًا، وإسرائيل البالغ 1272.8 دولارًا.[2]

نتج عن هذا الوضع معاناة أغلب المؤسسات البحثية العربية من ضعف الموارد المالية؛ بحكم الطبيعة الاقتصادية الخاصة لمُنتجها، من صغر حجم السوق ومحدودية العوائد المباشرة وطبيعتها كسلعة عامة لا يطلبها المستهلك الفرد، خاصة مع تخلف الدول العربية كدول عالم ثالث فقيرة محدودة التقدم الإنتاجي والدافعية التجديدية، ما يزيد بشكل خاص كلما ضعفت الرابطة بين المنتجات البحثية والتطبيقات الإنتاجية، كما هو الحال في بحوث العلوم الأساسية، والعلوم الاجتماعية والإنسانيات.

يفرض هذا الوضع اجتهادًا خاصًا من المؤسسات البحثية للتوفيق بين طبيعة منتجها الخاصة وحاجات استدامته الإستراتيجية، خاصة إذا ما أرادت الحفاظ على استقلاليتها الضرورية لجودة ومصداقية منتجها ذاته؛ ما يعني الحاجة للبحث في كافة الآليات الممكنة لتعزيز قدرتها على التمويل الذاتي للجانب الأكبر من موازناتها، أو نصفها على الأقل.

إشكالات سوق البحث العلمي

من منظور اقتصادي، تتميّز السلعة البحثية وسوقها بسمات خاصة، فهي سلعة «كفاية» لا سلعة «عين»، أي أقرب لسلعة عامة لا سلعة استهلاك فردي، ما يتجلى خصوصًا في أن منافعها غير شخصية؛ ما يعطي لسوقها سمات خاصة تنتهي لقلة مستهلكيه ومحدوديتهم كمّيًا وكيفيًا، فضلاً عن اقتصارهم على المؤسسات نوعيًا، وهو الطابع الذي يزداد كلما قلت التطبيقات المباشرة للمنتج البحثي؛ لهذا يصعب حتى من وجهة نظر المجتمع الاعتماد بشكل كامل على السوق الحرة في تمويل ما يحتاجه من بحث علمي؛ إذ «عندما يتخذ الأفراد القرارات بشأن كمية التعليم التي يريدون الحصول عليها أو كمية البحوث والتطوير التي يبتغونها، فإنهم يوازنون بين التكاليف الحدية والمنافع الحدية الخاصة بهم؛ وبذلك فإنهم لا يعون المنافع الخارجية/الاجتماعية لها»؛ فلا يخصّصون له ما يكفي من موارد.[3]

ولهذا غالبًا ما ترتبط المؤسسات البحثية بالشركات والحكومات، لكون الأخيرة مستهلكي منتجاتها وخدماتها الأساسيين، ما يجعله سوق احتكار مشترين في الواقع (أي سوق يحظى فيه المشترون بأفضلية على البائعين)، ما يضعف الموقف التفاوضي والقدرة التسويقية والتمويلية للمؤسسات البحثية، كما يقيّد نطاق اختياراتها ويعقّد مشكلة تمويلها الذاتي إذا ما أرادت الحفاظ على استقلاليتها، الضرورية لجودة منتجها ذاته.

ويزيد الوضع تعقيدًا ما يتسم به الاستثمار في البحث العلمي من مخاطر عالية، تضعف جاذبيته للقطاع الخاص عمومًا، حيث يتسم، حتى في التطبيقي المباشر منه، بارتفاع نسبة التكاليف الغارقة، أي العاجلة التي لا يمكن استعادتها بعد دفعها، وارتفاع نسبة عدم التأكد بشكل أكبر بكثير من غيره من الاستثمارات، وتأخر العوائد بما يعني طول فترة استرداد رأس المال، وذلك فضلاً عن أخطاء الاختيار واختلال الأولويات والمخاطر الأخلاقية… إلخ، خاصة في مجالات البحوث الاجتماعية.[4]

ولا شك أن وضع التخلّف الاقتصادي عمومًا، والصناعي خصوصًا، يزيد من صعوبة الوضع في المنطقة العربية؛ فالصناعة المتطورة هي رافعة الاستكشاف العلمي والتطبيق التكنولوجي الأساسي في المجتمع الرأسمالي، وهو ما تفتقده الدول العربية مُجتمعة، وفي مسح لأسباب عدم اهتمام الصناعة بالارتباط بالبحث العلمي وتمويله في سوريا ولبنان، وحيث لا يختلف الوضع كثيرًا عن بقية الدول العربية، وُجد أن الأسباب الأساسية هي:[5]

  1. ضعف تنافسية الأسواق الصناعية.
  2. صغر أحجام الصناعات، ومن ثم ضعف مواردها.
  3. نمط الإدارة الشخصي التقليدي، غير المؤسسي، ارتباطًا بالطابع القزمي لمعظم المؤسسات الصناعية، فضلاً عن الطابع العائلي المسيطر على حوالي 95% من المؤسسات الصغيرة في العالم العربي، والذي يأتي ضمن أزمة غياب المنظم الرأسمالي الكلاسيكي أو ما بات يُعرف حديثًا بمفهوم رائد الأعمال، خاصة في الصناعة المحدودة بمنتجات محلية محدودة القيمة المُضافة وتنتمي لنهاية سلاسل القيمة العالمية، مثل النسيج والملابس.[6]

وبالعودة للسلعة وسوقها، عادة ما يجري تصنيف المُنتجات البحثية، والبحث العلمي عمومًا، لثلاثة أنواع، هي:[7]

  1. البحث العلمي الأساسي: وهو البحث النظري الاستكشافي المعني بسد الفجوات المعرفية بغض النظر عن تطبيقاتها العملية وعوائدها الاقتصادية، وهو ما يمثل الإنتاج المعرفي الأكثر إستراتيجية، ويُعادل إنتاجيًا «التصنيع الثقيل» في الصناعة.
  2. البحث العلمي التطبيقي: وهو البحث المُوجه لتحويل نتائج النوع السابق من البحث لتطبيقات مباشرة وحلول لمشكلات قائمة في المدى المتوسط، في صورة أفكار مُنتجات وخدمات جديدة، ويُعادل المُنتجات «عالية التقنية» في الصناعة.
  3. البحث والتطوير: وهو الشكل الأكثر مباشرة وعينية من البحث التطبيقي، فيُعنَى بتحويل الحلول التطبيقية الخاصة لمنتجات مُحددة، ويستهدف العوائد الاقتصادية والأهداف الاجتماعية في المدى المنظور بشكل واضح لا لبس فيه، ويُعادل الإنتاج «الاستهلاكي الخفيف» في الصناعة.

ومن الواضح ارتباط كل نوع من البحث وبنفس الترتيب بحجم السوق، كما هو الحال في الصناعة وتطورها التاريخي، فالأسواق الصغيرة يمكنها أن تتحمّل بالكاد منتجات «البحث والتطوير»، فيما تستطيع الأسواق المتوسطة تمويل وجود «البحث العلمي التطبيقي» إلى جانبها، وتبقى الأسواق الكبيرة وحدها الأقدر على شمول الأنواع الثلاثة سويًا، كما يغلب الإنفاق عليها تنازليًا من الأبسط للأعقد، فنجد مثلاً أغلب الإنفاق البحثي في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1993م، كان على البحث والتطوير، ثم على البحث التطبيقي فالأساسي، بنسب 59% و25% و16% على التوالي.[8]

ولعل هذا أحد أسباب التبعية المعرفية والتكنولوجية في دول العالم الثالث بأسواقها الضيقة الصغيرة عمومًا، وفوائضها الاقتصادية الاجتماعية الضئيلة، العاجزة عن التجديد الاجتماعي المُوسّع علميًا وتكنولوجيًا، لنظمها الإنتاجية؛ ما يفرض قيودًا كبيرة على المؤسسات البحثية في هذه الدول، ويشير في الوقت ذاته للحدود والآفاق الموضوعية لعمل تلك المؤسسات عمومًا.

وهو ما تؤيده أوضاع البحث العلمي الراكدة، حتى أن توصيفًا منذ عقدين من الزمن لا يزال ساريًا دون تغيير تقريبًا، من غياب السياسات العلمية وعدم وجود دعم حقيقي للبحث العلمي، وهيمنة الدعم الحكومي، مع ضآلة مساهمة القطاع الصناعي، وغياب التعاون العربي-العربي، مع مساهمة مهمة للتمويل الأجنبي للبحوث، وفقر المكتبة العربية في مجال تطوير البحث العلمي.[9]

هيكلة الطلب والعرض لبناء آليات التمويل الذاتي

يفرض ما سبق تخطيطًا من المؤسسات البحثية العربية أولاً لتشكيلة منتجاتها البحثية بما يوافق احتياجات أسواقها المُستهدفة، مع تنويع تلك الأسواق لتقليل مخاطر ضعف الطلب وسيطرة الجهات المتعاملة معها على توجهاتها، وثانيًا توزيعًا كفؤًا لمواردها، بالشكل الذي يحقق أكبر تشكيلة منتجات بحثية وأوسع تأثير اجتماعي مع عوائد كافية لاستدامة النشاط، أي بصيغة أخرى محاولة هيكلة علاقتها مع الطلب والعرض في سوق تعاملها.

وهكذا فمن ناحيتي الطلب والعرض أو المُنتجات والموارد، يمكن أن تتبنّى المؤسسات البحثية الإستراتيجيات التالية:

  1. توسيع نطاق سوقها بتنويع منتجاتها واستهداف فئات مؤسسية أوسع، بمنتجات قريبة نوعيًا من منتجاتها، كأن تقدم مراكز الأبحاث الاقتصادية خدمات الاستشارات الاقتصادية ونشرات المتابعة الاستثمارية وما شابه بقوائم اشتراك ثابتة تتوسع باستمرار، أو إدماج خدمات التدريب والنشر المؤسسي ضمن المجالات القريبة من نشاطاتها… إلخ.
  2. إبرام اتفاقات نشر مشترك مع دور النشر لخفض تكاليف عملية النشر والاستفادة من وجودها السوقي، وربما تحقيق بعض المكاسب المشتركة.
  3. إبرام اتفاقات تعاون بحثي مع المراكز البحثية الأخرى والجامعات الكبرى لتسهيل الحصول على منح خارجية مشتركة لمشاريع بحثية في نطاقات اهتماماتها.
  4. زيادة نسبة الأبحاث التطبيقية مرتفعة الطلب في سوق البحث والإعلام ضمن نشاطات المؤسسة، اتساقًا مع ضعف السوق ونوعية استهلاكه الغالبة.
  5. إبرام اتفاقات ترجمة مع الجهات المعنية، كجزء من اهتمامات المؤسسة ولتحقيق العوائد السهلة والمستقرة نسبيًا.
  6. خفض التكاليف بإدماج أنشطة البحث والترجمة مع أنشطة التدريب، خاصًة لو تمّت ضمن اتفاقات تعاون مع باحثي الجامعات وطلبة الدراسات العليا المعنيين بتخصصات المؤسسات والراغبين في التدريب منخفض التكلفة مقابل المشاركة في الأعمال.
  7. خفض التكاليف بالاعتماد على ارتباطات العمل بالقطعة لا بالمرتبات الثابتة، ما يقلل التكاليف الثابتة من جهة، ويربط العوائد بالتكاليف برابطة توازنية مستقرة من جهة أخرى.
  8. تفعيل الآليات الإلكترونية الحديثة في النشر والإدارة توفيرًا للتكاليف في المشروعات محدودة الميزانيات.

وكما نرى، تتمحور الإستراتيجيات المُقترحة حول خفض التكاليف لزيادة العرض من جهة، وتوسيع السوق لزيادة الطلب من جهة أخرى، مع مراعاة نوعية السوق وإمكاناته من جهتي المنتجات والتكاليف على ما ذكرنا من إستراتيجيات على سبيل المثال لا الحصر.

خاتمة: الخطوط الأساسية لتنمية التمويل البحثي الذاتي

جُملة القول إن ما تحتاجه المؤسسات البحثية العربية لتنمية تمويلها الذاتي يتمحور في الأجلين القصير والمتوسط حول ثلاثة خطوط أساسية: أولها التواؤم مع احتياجات السوق قدر الإمكان لتوسيع دائرة طلبها ومستهلكي منتجاتها وخدماتها، وثانيها توسيع سوقها وخفض تكاليفها من خلال التعاون مع المؤسسات المماثلة، وثالثها تفعيل آليات العمل الحديثة إداريًا وتقنيًا لخفض التكاليف وزيادة الإنتاج.

أما في الأجل الطويل، فلا مفر من الحاجة لاقتصاد صناعي متقدم ودولة تنموية ترعاه، كمصادر إستراتيجية لتعبئة الفائض الاقتصادي الاجتماعي لحاجات التجديد الاجتماعي عمومًا، ولتمويل البحث العلمي الإستراتيجي الضروري لذلك التجديد خصوصًا.

المراجع
  1. عبد الباقي محمد عرفة سالم والسيد يحي محمد، “معوقات البحث العلمي في العالم العربي: دراسة تحليلية”، مجلة المعهد الدولي للدراسة والبحث-جسر، المعهد الدولي للدراسة والبحث، مجلد ٤، عدد 5، مايو 2018، ص 15.
  2. المصدر السابق، ص 14.
  3. موساوى زهية ومحمد خضرى، “مراكز البحث العلمي ومنظمات الأعمال: حلقة الوصل المفقودة لتحقيق التنمية الاقتصادية”، مجلة الاقتصاد والتنمية البشرية، جامعة لونيسي علي البليدة، العدد 1، يونيو ٢٠١٠، ص ص 9-10.
  4. Gerben Bakkera, “Money for nothing: How firms have financed R&D-projects since the Industrial Revolution”. Research Policy 42 (2013), p 1794-1797.
  5. Nabil Sukkar, “Forging Research Links Between Academia, Business and Industry in Syria and Lebanon”, in: J. Marx Go´mez et al. (eds.), Modernizing Academic Teaching and Research in Business and Economics, International Conference MATRE 2016, Beirut, Lebanon, Springer Proceedings in Business and Economics, Springer International Publishing AG, 2017, 183.
  6. Abdelkader Djeflat, “The Relevance of Science and Technology for the Arab Spring and the Key Role of the Knowledge Economy”, in: T. Andersson and A. Djeflat (eds.), The Real Issues of the Middle East and the Arab Spring.. Addressing Research, Innovation and Entrepreneurship, Innovation, Technology, and Knowledge Management Series, Springer Science+Business Media New York 2013, p 179.
  7. بكر بن عبدالله ابن بكر، “البحث العلمي وعوائده الاقتصادية”، الندوة الفكرية السادسة لرؤساء ومديري الجامعات للدول الأعضاء بمكتب التربية العربي لدول الخليج، مكتب التربية العربي لدول الخليج، مسقط، ١٩٩٦م، ، ص 32، 33.
  8. المصدر السابق، ص 55.
  9. سعد الدين أحمد عكاشة، “تمويل البحث العلمي في الوطن العربي وسبل تنميته”، المؤتمر السابع للوزراء المسئولين عن التعليم والبحث العلمي في الوطن العربي، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، الرياض، محرم/أبريل ١٩٩٩، ص 41.