في عام 1953م، أرسل «جيمس إيخلبر جر»، الخبير في الأنظمة العسكرية بالدول النامية بوزارة الخارجية الأمريكية، تقريرًا إلى النظام المصري الحاكم بعد ثورة يوليو، نُشر هذا التقرير لاحقًا في كتاب لعبة الأمم المعروف، عام 1969م. فيما يلي عرضٌ وتلخيص لأهم المقتطفات الواردة فيه.


قواعد أولية للسُلطة

– إن القوة تمثل جوهر الحكم، فالحكم ليس إجراءات عامة أو إصدار أحكام قضائية؛ ولكنه اضطلاع بهذه الإجراءات وتنفيذ لتلك الأحكام.

– يمكن المحافظة على السلطة من خلال استخدام قوة إجراءات القمع والحسم، أو من خلال قوة رضى الأمة بالنظام وتأييد المواطنين له، وفي الواقع تستخدم جميع الأنظمة خليطا من القوتين، وبقدر ما تتمكن من فرض الاستقرار من خلال اعتماد أقل على إجراءات القمع، بقدر ما يكون النظام أكثر رسوخا.

– عندما تضع الحكومة الصعوبات في طريق إحدى الفئات فإنها تصبح مرتعا خصبا لنمو الشعور المعادي للنظام داخل أفرادها، وبالمقابل فإن أي تحسن في الوضع الاقتصادي لإحدى الفئات نتيجة تدابير حكومية فإن تلك الفئة تنتقل تلقائيا من صف المعارضة إلى المولاة .


من الثورة إلى الدولة؛ طريقان متوازيان

على الثورة التي تريد أن تتحول لنظام مستقر أن تعمل بشكل متواز في طريقين:

1- إيجاد حلول لكل المشكلات السياسية والاجتماعية التي اقتضت قيام الثورة.

2- تطوير نظام دستوري جديد يحافظ على مكتسبات الثورة دون خوف من عودة النظام السابق.


أخطار في مواجهة حكم الثورة

أما أبرز الأخطار التي تواجه الثورة فتتمثل في:

– هؤلاء الذين لهم مصالح ضخمة في وجود نظام الحكم القديم.

– السياسيين الانتهازيين الذين يحاولون الاستفادة من الاضطرابات الناتجة عن الوضع الثوري.

– الساسة الذين يحاولون سرقة الثورة وتسخيرها لتحقيق أهدافهم.

وهذه الأخطار قد تتسبب كل منها – أو هي مجتمعة- في تحقق إحدى الأخطار التالية:

1. وقوع انقلاب عسكري نتيجة ارتباط بين عناصر في الجيش وقوى الأمن وبين بعض الجماعات الموجودة بالداخل.

2. وقوع انقلاب عسكري نتيجة ارتباط بين عناصر في الجيش وقوى الأمن وبين قوى سياسية في الخارج.

3. تسلل عناصر مناوئة لأهداف حكومة الثورة وقدرتها على تحريف برنامج الثورة أو إتلافه.


دليل المبتدئين نحو حكومة ثورية

رغم أنه من الصعب العثور على نظرية محددة المعالم تساعد قادة الحكومات الثورية في معرفة الطريق الذي عليها سلوكه لتحقيق النجاح؛ إلا أن هناك نصائح عامة يجب التأكيد عليها:

– اللجوء إلى أساليب القمع والحسم أمر لابد منه خاصة في المرحلة الأولى للثورة، وذلك علنا ودون تحفظ.

– يجب أن لا يمثل الحصول على التأييد الشعبي أولوية لدى النظام الثوري، فهو أمر مؤقت وزائل، ولكن يجب العمل على تدشين سياسات الإصلاح والبناء والظهور بمظهر الحريص على مصالح الجماهير وليس مجرد إرضائها.

– إن التنظيمات الشعبية غير التابعة مباشرة لنظام الحكم لها أهمية خاصة أثناء مرحلة الانتقال من مرحلة الثورة إلى الشكل الدستوري للدولة.

– إن الشكل الدستوري الجديد يجب أن يعتمد مباشرة على قوة سياسة الثورة في الإصلاح والبناء.

– لابد للثورة من إلغاء بعض أو كل المؤسسات السياسة التي ثبت عدم قدرتها على حل المشكلات الملحة التي أدت لقيام الثورة، بحيث تقفد بعض الفئات والطبقات قوتها وتوضع في موقف حرج تضطر معها للدفاع عن نفسها أمام التيار الجارف للثورة.


المساومات جرثومة الثورات

إن لجوء الثوار في البداية إلى سياسات الإصلاح والبناء والاعتماد عليها بشكل كبير دون إجراءات الحسم، تمثل المرض الخبيث الذي تعاني منه الثورات، حيث يضطر قادة الثورة إلى سياسة الانجراف والمساومات، لأن الثورة لا تتمكن من إحكام قبضتها على أجهزة الدولة في بداية عهدها، ولأنها لا تملك منح ثقتها لأجهزة الأمن لشكها في كفاءة تلك الأجهزة ونفوذها، وستحاول قيادة الثورة أن تحافظ على السلطة من خلال كسب الشهرة الشعبية.

لكن سرعان ما تفقد سياسة المساومات فرصها كلما اتضح إفلاس الثورة وبان للعيان فشلها، وهنا تضطر حكومة الثورة للجوء إلى وسائل القمع، كما تضطر إلى تشكيل الأجهزة المنفذة له بسرعة وطيش، وهكذا تكون الثورة قد تفسخت وتحولت إلى نظام دكتاتوري. أما في حال فشل قيادة الثورة في تطوير أجهزة القمع بالسرعة المطلوبة فستجد نفسها مضطرة إلى الانتقال إلى نظام دستوري قبل استكمال بعض أو كل مقاوماته وهو أهون الشرين، وإذا جرت الرياح عكس ما تشتهية السفن فإن النظام الثوري بأكمله سيقع ضحية ثورة مضادة لا تبقي ولا تذر.

ويتضح من هذا كله أن سياسة الانجراف والمساومات هي حليفة الثورة المضادة والجرثومة الفتاكة في داخل جسم الثورة فعندما يتذكر المواطنون أن سياسة الحكومة الثورية لا تختلف عن سياسة حكومة العهد البائد فإنه يصبح مؤكدا أن يشجع المواطنون هؤلاء الذي يتطلعون إلى سحق الثورة دون رحمة.


قاعدة القمع والحسم

إن قاعدة القمع والحسم التي يجب على الحكومة الثورية أن تلجأ إليها عند الضرورة تتألف في هياكلها مما يلي:

1. الأنظمة والقوانين: والهدف منها إضفاء صفة غير الشرعي على كل النشاطات الهدامة الداعية إلى الشغب والفوضى في مواجهة إجراءات الثورة.

2. قوى الأمن الداخلي: يجب أن يتم إعطاء أولوية لضبط (إعادة هيكلة) قوى الأمن الداخلي على سائل أجهزة الدولة.

3. أجهزة المخابرات والمباحث: ويجب أن يتم السيطرة عليها لتمد رئيس الدولة بالمعلومات الهامة للقيام بإجراءات فعالة ضد الأخطار المحدقة بالثورة.

4. وسائل الدعاية والإعلام: من الخطأ اعتبارها سلاحا أساسيا لضمان أمن الثورة، ولكنها سلاح مساعد لاستمرار السلطة وبقاء النظام .. ويجب أن يتم استخدام وسائل الداعية لإعطاء تبرير مقنع لاستخدام القمع ضد من يريدون إفشال الثورة.

5. قوة عسكرية بكفاءة عالية أو الجيش: فمن الضروري السيطرة على مثل هذه القوات، فهي لا توفر حماية كافية للثورة ضد أعداءها فحسب، بل تزودها برصيد يؤمن حاجتها للاستقرار السياسي.


أخطار مرحلة الانتقال من الثوري إلى الدستوري

ورغم أنه يجب على زعماء الثورة أن يتطلعوا منذ اليوم الأول إلى تطوير الثورة وتحويلها إلى نظام دستوري (فالثورات المنبثقة من ضمائر الشعوب لا تنوي إطلاقا إقامة أنظمة دكتاتورية)، ولكن يجب الانتباه إلى طريقة الانتقال من العهد الثوري إلى العهد الدستوري .. كما يجب الحذر من عدد من الأخطار:

– الأحزاب السياسية القديمة سوف تنتعش ثانية، ولا يتستبعد أن تملك القدرة اللازمة لإعادة أعداء الثورة للسلطة، وذلك من خلال واجهات جديدة.

– قد يتمكن بعض أعداء الثورة السياسيين من السيطرة على حزب ثوري وذلك بسبب خبراتهم السياسية التي اكتسبوها في العد البائد.

– يجب على النظام الدستوري الجديد أن لا يتخذ شكلا يشجع ظهور عدة أحزاب متعادلة القوة، لأن وضعا كهذا لن ينتج عنه سوى عدم استقرار سياسي ، لوجود أحزاب بشعارات قديمة ولكنها في موقف قوي لإجبار غيرها على اتباع سياسة المساومات والحلول الوسطى، وبهذا يتحقق لها الانقضاض على منجزات الثورة.

ويمكن تفادي كل هذه الأخطار إذا أسست حكومة الثورة كيانا سياسيا واحدا يكون وريثا شرعيا للثورة، وله وحده الدور الحاسم في تسيير دفة الأمور. وللوصول إلى وضع نموذجي كهذا يتوجب على الحكومة الثورية أن تخلق منظمة شعبية تضم جماهير غفيرة تحمل أهداف الثورة، وتتدرج بدقة وانتظام لتصبح حزبا سياسيا يتولى أمور البلاد، ويخرج الكوادر القادرة على النهوض بها، وتكون هذه المنظمة هي قلب الثورة والمعبر عنها والحاصد لمكاسبها والحارس لأهدافها.

الدستور الجديد

وبالنسبة للدستور الجديد فيجب أن يتألف من مبادئ عريضة، مع ترك الجزئيات للقوانين العادية التي سيتم إقرارها في البرلمان الذي ستسيطر عليه بالطبع عناصر مؤيدة للثورة وليس للنظام القديم. كما يجب أن يفسح الدستور المجال لسلطة تنفيذية قوية تتمتع بشعبية واسعة نتيجة انتخابها من الأغلبية .

الثورة غير الشرعية

في النهاية يجب التنبيه على أنه لا يجب على النظام الثوري أن يكترث كثيرا لاعتبارات الشرعية والقانونية، لأن الثورة نفسها عمل غير قانوني ضد النظام الظالم وقوانينه التي اندلعت الثورة ضدها، فيجب عليه اتباع أساليب القوة والحسم في فرض أهداف الثورة بعيدا عن سياسات الانجراف والمساومات.