يقول قائل: أليست فكرة الإله تعطّل العلم وتغذي الجهل؟ لو اقتنع الإنسان بوجود إله عالم بكل شيء خالق لكل شيء فإنه لا يبحث عن السبب والعلة ويرجع كل شيء إلى إرادة الإله. وهذا منافٍ للعلم الذي يبحث عن العلة والسبب من كل شيء، وينبني على الاكتشاف والشغف بالمعرفة، لا على الإجابات الجاهزة المعلّبة. «إله الفجوات» كان ولا يزال الحل الذي يلجأ إليه المؤمنون لمواجهة جهلهم بالعلم أو لرغبتهم في الإبقاء على عقائدهم.

نقول: تخيل أنّ رجلًا ساذجًا من زمان غابر نظر لأول مرة في حياته إلى سيارة تتحرك. فقال لنفسه: لا بد أن عفريتًا ما قد سكن هذه السيارة فهو يحركها، وكلما رأى مصابيح السيارة تضيء أرجع ذلك إلى العفريت، وإذا رآها ترجع إلى الوراء، أو تصدر صوتًا، أو تتحرك المساحات لتغسل زجاجها الأمامي، فهو دائمًا ما يرد السبب إلى ذلك العفريت اللعين الذي يصنع الأعاجيب. وهنا نسأل: هل يمكن أن يتعلم هذا الإنسان عن تلك السيارة شيئًا؟ ألا يقف تصوره هذا حجر عثرة في طريق معرفته وإدراكه للأمور؟

نضرب مثالًا آخر.

تخيل رجلًا ساذجًا من زمان غابر قد دخل إلى أحد القصور في بعض أحياء القاهرة الراقية، فمد يده إلى صنبور المياه فوجد الماء ينزل منه فجأة. نزع يده وجرى فزعًا. ثم مد يده مرة أخرى ليرى نفس الحادثة. فأراد أن يرضي فضوله فظل يبحث ويفكك ما يراه أمامه ويتأمله ويتعلم كيف تجري الأمور في هذا البيت، حتى علم بعد تجربة وخطأ أن لهذا الماء روافع ترفعه، ومحابس تحبسه، وحسّاسات تشعر بيده إذ يحركها، حتى فهم الأمر كله، فزال عجبه. ثم ادعى دعوى عجيبة، قال: ليس لهذا البيت بانٍ بناه!

إن كلًّا من هذين الرجلين قد وقع في خطأ كبير ظاهر. أما الأول، فإنه استدعى أمرًا قد حجبه عن التعلم فلم يزل في الجهل، وأما الآخر فقد تعدّى بعلمه عن مجاله واستغنى ببعض العلم عن بعضه.

نقول: إن أخطاء كهذه تقع كثيرًا في صراعات فكرية وعلمية كبرى بين بعض العلماء التجريبيين وبعض المتدينين، منها تلك الفكرة المركزية في الصراعات الدائمة بين العلم والكنيسة في التاريخ المعاصر، وهي قضية إله الفجوات. وقد كان دأب من جهل هذه الحقائق والتبست عليهم أنهم كلما عجزوا عن تفسير ظاهرة، أحالوها للتفسير الغيبي، يقولون: إله الكون فعله هكذا، أو هذا من الملائكة أو الجن والشياطين، أو هي روح الإنسان الشريرة أو الخيِّرة حتى إن هذه المشكلة بقيت إلى أواخر عصور التنوير والنهضة الغربية.

وقد ادعى بعض الملحدين أن هذا كان سببًا لحجب العلماء عن فهم العالم وأسراره. يقول الملحد الشهير وعالم الفلك نيل دي جراس تايسن:

They [scientists of centuries past] call on God only from the lonely and precarious edge of incomprehension. Where they feel certain about their explanations, however, God gets hardly a mention.[1]
وترجمة كلامه بالعربية:
إن العلماء كانوا لا يلجئون إلى الله إلا عند العجز عن المعرفة وعدم الفهم! ولكنهم حيث علموا وجزموا، لا يكادون يذكرون الله!

وهذا الخطأ من جانب المؤمنين بالأديان قد تسبب في خطأ قبيح مضاد، حيث تطرف جمع من العلماء التجريبيين وادعوا أن العلم قد قضى على الإله، وأن مجرد فهمنا لحقائق الكون، وتفسيرنا للسبب القريب للظواهر الكونية، كافٍ للإلحاد، وهذا من غير بحث عميق، وبالتغافل عن أوجه أخرى تدل على افتقار الكون للإله، والتي لا تعتمد على هذه الحجة الضعيفة.

ونحن ندلو بدلونا في هذا المسألة، صيانة للدين عن جهل بعض الجاهلين، وصيانة لمقام العلم والإبداع الإنساني أن يقف أحد حجرة عثرة في طريقه بغير حق باسم الدين، فنقول:


أولًا: الله قد أقام الكون كله على قانون الأسباب

إن الله قد جعل لكل شيء قدرًا، وأقام الدنيا كلها على قانون الأسباب، أي على علاقات لا تتخلف بين مقدمات ونتائج، فالماء يروي، والنار تحرق، وقطع الرقبة يميت، ومن لا يحسن السباحة يناله الغرق ولو كان أعبد الناس وأقربهم من الله، العلاقة بين الطاقة والكتلة هي كما وصفها أينشتاين، وأجساد المؤمنين كأجساد الكافرين في اتباع قوانين الفيزياء، لها كتلة وحيز، ويستحيل وفق النظام الكوني أن تبلغ سرعة الضوء أو قريبًا منها، وهكذا في كل شيء.

نحن لا نفهم من قضية السببية – على نزاع علمي وفلسفي كبير فيها – سوى القدر المشترك بين الناس فيها، وهو أن حدثا يعقبه آخر دائمًا وأبدًا، وعلى هذا قام نظام الكون. وكان يمكن ألا يكون الأمر كذلك، فقد كان يمكن ألا تتبع نفس النتيجة نفس المقدمة في كل مرة. فقد كان يتصور – في العقل المجرد – أن يكون الكون بحيث إن الإنسان يجوع مرة فيأكل فيشبع، وفي مرة أخرى يجوع فيأكل فلا يشبع فينام فيشبع، ثم في مرة ثالثة يمشي فيشبع أو يتكلم فيشبع. كان يمكن أن يكون الكون بحيث لا تكون سرعة الضوء ثابتة في كل الــinertial frames، أو بغير أي قانون من القوانين الكونية التي اكتشفنا أن الكون يسير وفقها. كان من الممكن ألا يكون الأمر كذلك. لكننا قد علمنا من رؤيتنا للكون أنه قائم على علاقات سببية لا تتخلف. وليست هذه العلاقات في مجال القوانين الكونية فقط، بل إن الاجتماع البشري له سنن وقوانين كذلك تكشف عنها العلوم الاجتماعية.


ثانيًا: الأمور الغيبية لا تنفي العلاقات السببية الكونية

قد يسأل سائل: لو كان الأمر كما ادعيتم أن كل شيء يجري على وفق قانون الأسباب، فما بال الأديان تذكر لنا أمورًا غيبية وتجعلها سببًا للحوادث العادية الكونية؟ فالدين مثلًا يقول إن هناك ملكًا يسمى ملك الموت، وأن موت الإنسان إنما يحصل عندما ينزع هذا الملك روحه، والعلم طبعًا يذكر أسبابًا عادية كونية بيولوجية لظاهرة الموت.

نقول: إن تفسيرات الكون المشاهد وعلاقاته (أي عادة الله في خلقه) هذه نعرفها بمشاهدة وتكرار الأسباب العادية كما ذكرنا في مقالنا عن الأسباب العادية [2]، فقطع الرقبة مثلا سبب للموت. ولا يمنع ذلك أن يخلق الله تعالى عوالم غيبية لا نراها، وتقترن أحداث في هذا العالم الغيبي بأحداث في الكون المشاهد. فالله قد جعل في الكون أسبابًا للكون يمكننا أن نفهمها وأن ندركها، وقد خلق الله مخلوقات لا نراها ولا تدخل في حيز حواسنا الخمسة، وإنما نعرفها من جهة الوحي بعد إثبات وجود الله وصحة رسالته إلى البشر، وهذه العوالم الغيبية تقترن مع أحداث في الكون المشاهد. فملك الموت الموكّل بالإنسان يحضر لحظة الموت، وكما أن النتيجة وهي الموت تحصل على إثر سبب مادي عادي، فإنها كذلك تحصل على إثر أمر غيبي لا نراه، وهو نزع الروح التي وكّل بها ملك الموت.

والمميت حقيقة هو الله، خالق كل شيء، فهو الذي يحدث هذا الأمر سبحانه وتعالى، لا السبب المادي العادي من نحو توقف القلب ولا ملك الموت وقبضه الروح؛ إذ الكل أسباب عادية جعل الله الحوادث تحدث عندها لا بها.

وإنما يحصل الإشكال عند الخلط بين الأمور، أو الظن أن تلك الأمور الغيبية بديل عن الأسباب الدنيوية العادية، فيعتقد السذج أن النصر ينزل على المؤمنين بغير اتخاذ أسبابه، أو أن الله يميت الظالمين من غير توفر أسباب الموت لهم، أو غير ذلك. وهذا خطأ كبير. بل إننا لا نخلط بين الأمور ولا ندخل بعضها في بعض. فالأسباب العادية الكونية تكشف عنها العلوم التجريبية وأسباب العلم بها الحس والتجربة والبحث العلمي بها نفسر الواقع الكوني المشاهد وما فيه من علاقات عادية، والأسباب والحوادث الغيبية هي أمور في عالم الملكوت لا نراها ولا تدخل في حيز المشاهدة والتجريب، ومحل معرفتها هو الوحي الصادق.

فإن الضروري قبل أي نقاش أو بحث علمي هو تحرير محل البحث، فطالما كنا نبحث عن (عادة الله في خلقه في عالم المُلك المُدرك بالحواس)، أي عن الأسباب والقوانين الكونية، فينبغي الاقتصار على محل البحث، وهو المشاهد بالحواس.

ومن يتكلم عن الأمور الغيبية جوابًا على السؤال عن السبب العادي الكوني فإن مثله مثل من يُسأل: كيف أشغل التلفاز مثلًا، أو كيف أوقد الفرن؟ فيجيب: الله أعلم، الله خالق كل شيء.

فالجواب بهذا الجواب فيه حيدة عن محل السؤال، وخلط بين المباحث.


ثالثًا: قدرة الله حاضرة في كل موجود، والله خالق كل شيء، سواء فيما علمناه أو فيما جهلناه

قد ذكرنا في مقالة سابقة [3] أن سبب افتقار الكون إلى خالق ليس أنه بديع، أو أنه متناسق، أو أنه غائي teleological (بمعنى أن كل جزء من أجزائه خُلق لأداء غرض ما لا يتحقق هذا الغرض بدونه، فهناك نهاية مخصوصة معينة بشكل معين أو شيء نراه لا يكون إلا غاية)، أو أنه على هيئة مخصوصة معينة، بأن تكون هذه الهيئة جميلة، أو بديعة، أو منظمة تنظيمًا معينًا، أو متناسقة مع بعضها، أو معقدة، أو ساذجة، أو مركبة، أو بسيطة، أو مصممة على أي نوع من أنواع التصميم، أو أن الكون ملائم للحياة عليه أو غير ملائم.

فتوقف الكون على الإله ليس منوطًا بأي وصف من هذه الأوصاف، ولكنه مرتبط بحقيقة الكون الأنطولوجية، وهي مجرد كونه ممكن الوجود، أي يستوي وجوده وعدمه من جهة الحكم العقلي، وكان يمكن من حيث العقل المحض وجوده على صورة أخرى، أو عدم وجوده أصلًا. ولما كان الكون ممكنًا كان مفتقرًا إلى مرجح يرجح وجوده على عدمه، أي يحدثه.

فإن الكون لو كان مجرد صخرة صماء، لكان مفتقرًا إلى المكوِّن، لأن هذه الصخرة وجودها ممكن، واتصافها بمقدار معين ممكن، وجريانها على قوانين معينة ممكن، فاحتاجت من حيث العقل في ابتداء وجودها واستمراره إلى مخصص، بل لو كان الموجود من الكون ذرة واحدة فقط، فسيجري عليها نفس الكلام!

ونقول إن هذا الذي قلنا إنما قلناه لقيام الدليل العقلي عليه. ومن أراد الاستزادة من هذه المسألة فليقرأ مقالتنا عن وجه افتقار الكون إلى الله.[4]

فنحن لم نقل هذا لأننا لم نجد (سببًا فيزيائيًّا أو بيولوجيًّا أو كميائيًّا) بعد ما بحثنا، فقلنا: إذن لا بد أن يكون هناك سبب أوجد العالم. فليس بحثنا محاولة لسد جهلنا.

بل إننا نقول: لو فهمنا جميع أسرار الكون، وجميع ارتباطات أجزائه بعضها ببعض، وجميع ما يسري فيه من قوانين، لحكمنا أيضًا بأنه مفتقر للخالق الواجب الوجود؛ لأنه ممكن، وما قيل في الكون يقال في قوانين الكون التي هي من جملته، ويجوز بالنظر العقلي أن تكون على غير ما هي عليه [5]، فالعلم بها لا دلالة فيه أبدًا على استغناء الكون عن إله مدبر له مبقٍ، فضلًا عن أن يستغني عن موجد!

ونحن كذلك لم نقل: قد استقرأنا ما نراه ونعرفه من العالم، وبما أننا نرى أن كل شيء نشاهده له سبب، إذن لا بد أن يكون هناك سبب أوجد الكون. فلم نعتمد على الاستقراء. بل نظرنا إلى حقيقة الكون نظرًا عقليًّا، فرأيناه: واجب الافتقار لذاته وحقيقته إلى موجد مبقٍ.

وترجيح وجود ممكن الوجود إحداث له، فحقيقة الكون أنه مفتقر إلى إحداث، أي إيجاد بعد أن كان عدمًا، وكل حادث لا بد له من محدِث ليس بحادثٍ، وسيأتي ذلك بمزيد تفصيل في المقالات القادمة.

وعلى هذا كان اللجوء إلى أن هناك أمورًا معينة في الكون (هي نتيجة قوة خارقة، قوة غير طبيعية، super power, super natural)، في الجواب على أسئلة معينة فيها غموض أو نجهلها عن الطبيعة the natural world، كان هذا الجواب يستبطن أن بقية الموجودات والأمور ليست صنع قوة خارقة غير طبيعية، كأنها ليست في الحقيقة صنع الله! وإنما ذلك المجهول الغامض الصعب هو فعل الله، والباقي ممكن أن تفعله الطبيعة وحدها!

فبسبب هذا الخلط في المفاهيم اتجه البعض في الجواب على الملاحدة إلى البحث عن موجودات «ليست من صنع الطبيعة، يعني ليست مادية، بل من صنع الإله!»، «أو فيها تعقيد وصعوبة يستحيل على الطبيعة العمياء المادية إنتاجها، بل الله هو الذي أوجدها»، أي وكأن الطبيعة في الحقيقة يمكن أن تفعل شيئًا أصلًا، حتى نستثني منها أمورًا معينة! ثم كلما كشف العلم التجريبي عن السبب العادي المادي لهذه الأمور صرخ الملاحدة بأعلى صوتهم: قد تبين جهلكم، هذا ليس من صنع الله، بل الطبيعة! ثم يذهب ذلك الفريق الآخر للبحث عن شيء آخر ليس من صنع الطبيعة! وهكذا، في دوائر من الجهل تحصل من الطرفين في اعتقادنا.

ففريق يقول: الكون مادي وننظر في الطبيعة المادية، بذلك لا حاجة لإله (materialism and naturalism)، وكأن تفسير الكيفية mechanism يجيب عن أصل الوجود وأصل الإيجاد والإحداث للموجودات!

وفريق يقول: سلمنا أن الكون مادي والطبيعة مادية، لكن هناك أمورًا غير مادية موجودة هي الدليل على الإله! وكأن الكون المادي لا دلالة فيه على الإله، أو أنه يفعل شيئًا! (Nature cannot make certain things, only a supernatural being can).

وكلا الفريقين على خطأ وخلط كبير بين المباحث!

فإن الطبيعة والمادية وكل شيء في الكون – لا فقط أمور معينة – في الحقيقة لا تفعل شيئًا، فالفاعل هو الله، والكل مفتقر إلى موجِد مبقٍ،يوجدها ويخصصها على هذه الصورة، وتلك القوانين التي كان يمكن عقلًا ألا تكون عليها.

Origin!

تدور أحداث أحدث روايات الكاتب والروائي الأمريكي الشهير دان براون عن هذه القضية، عن عالم ملحد قد كشف كشفًا ظن أنه يدمّر الأديان كلها من أساسها، وبعد أحداث مشوقة ورموز تتكشف في ظل أحداث الرواية كما هي عادة هذا الكاتب الكبير، نصل في نهاية القصة أن ذلك الكشف العلمي الذي يدمّر الأديان في اعتقاد بطل الرواية ليس سوى نموذج حاسوبي computer model يثبت أن أصل الحياة (البروتين والــDNA الذي هو أصل الكائنات الحية) يمكن أن يتكون في الــprimordial soup وهي مرحلة مرت بها الأرض قبل بلايين السنين يمكن أن تنشأ البذرة الأولى للحياة في محيطات الأرض في ذلك الزمان! فالرواية يتجلى فيها الصراع بين الفريقين اللذين سبق ذكرهما.

والعجب ممن يظن أن كشفًا من هذا النوع يمكن أن ينفي أصل الأديان، لاسيما دين الإسلام، لأننا نعلم ونعتقد أن خلق الله تعالى يحصل على وفق أسباب كونية مشاهدة، علمناها أو جهلناها. فإن الإله في اعتقادنا قد أراد أن يجري الكون على وفق أسباب مطردة يمكن فهمها. نحن لا نؤمن بإله المطر أو إله الريح كما كان الشأن في العقائد البالية. بل نؤمن بالله العزيز القدير، المتعالي على الزمان والمكان، الذي ليس كمثله شيء، وهو القيوم على هذا النظام الكوني، ولولاه لما وجد موجود، ولا سار على نظام معلوم، تعالى وتقدس عن مشابهة المخلوقات. وليست القوانين الكونية سوى أمور انتزاعية يستنبطها العقل من جريان الكون على نظام معين، ويستطيع بها التنبؤ بأمور مستقبلية، وهي ليست تفسيرًا عن المقتضى العقلي المنطقي لوجود الموجودات ابتداء، وجريانها على وفق هذا القانون، الذي هو خلق الله وإيجاده للأثر عند المؤثر، لا مؤثر في الكون ولا فاعل إلا هو سبحانه.


رابعًا: الإله لم يترك الكون حتى يتدخل فيه

ويتبين مما قلناه أن الكون مفتقر إلى الإله افتقارًا ذاتيًّا دائمًا، وأن الإله ليس قوة كونية فاعلة في الكون كالشمس والمطر، بل هو القيوم على ما في الكون من قوانين وأسباب، بل ليست القوى الكونية والقوانين الكونية سوى أمور سبقت في علم الله، أراد الله أن يجري خلقه على وفقها. فالإله لم يترك الكون أصلًا ولا لحظة حتى يتدخل فيه، وحتى يُقال (هل هذا الشيء من صنع المادة أو القوانين، أم من صنع الله). بل الكون كله قائم بإقامة الله له، مفتقر إليه بالضرورة.

فالصواب ألا نجعل الغيبيات مستودع جهلنا، لأن حضور الحق سبحانه وتعالى ضروري لكل موجود، لا ما جهلنا سببه فقط. وإن معرفتنا بالسبب الكوني مفيد في فهمنا للكون وحسن تعاملنا معه وإدراكنا لعظمته وتفصيله، وعدم ذلك هو معاندة لنظام الله تعالى في كونه، وستجري علينا سنة الله فيمن كان جاهلًا بالأشياء على ما هي عليه.

فمن ثم لا حاجة لنا لكي نثبت أمرًا دينيًّا، أو نثبت وجود الله واحتياج الكون إلى خالق رازق مدبر، أن نفترض وأن نوجب أن يكون الله قد خلق مخلوقات «مجردة عن المادة» بحيث تتفاعل مع المادة، من ضمن (النظام الـمـُلكي الدنيوي السببي العادي).

هذا، ونقول: إن البحث عن حدوث العالم وإمكانه لا فرق فيه أن يكون ذلك العالم ماديًّا، أو غير مادي أصلًا! يعني لو ثبت أن الكون كله مادي، أو كله غير مادي، فسيبقى السؤال: فهل هو أزلي أم لا؟ هل هو واجب الوجود على صورته تلك أم أنه ممكن الوجود؟ ولو كان حادثًا مسبوقًا بعدم فهو مفتقر بالضرورة إلى محدث، ولو كان ممكن الوجود فهو محتاج بالقطع إلى مرجح.

وإنه لو انحصرت الموجودات الدنيوية في أمور مادية لما كان ذلك مُضعفًا الاستدلال بها على وجود الله، والاستدلال على وجود افتقارها واحتياجها لإله!

ثم هناك فرق عظيم بين أن ندعي أن هذا الكون ليس فيه سوى مادة جسمية، وبين أن ندعي أنه لا يمكن أن يوجد مطلقًا سوى المادي الجسمي materialism. فغاية ما يمكن إثباته أن كل ما نراه ونشاهده ويتفاعل في الكون مادي، ولا وجه أبدًا للقفز من هذه المقدمة إلى نتيجة: لا يوجد موجود مطلقًا، أو يستحيل وجود مطلقًا إلا وهو موجود مادي!

فإن مجرد كوننا لا نشاهد في الكون إلا الأمور المادية المتحيزة وصفاتها لا يعني استحالة وجود موجود ليس ماديًّا. هذا قفز في مسألة ليست من العلم التجريبي أصلًا، ولكن ينبغي النظر في الأدلة العقلية والسمعية لمعرفة جواب هذا السؤال، ومن يقفز ويقول: العلم التجريبي أثبت هذا، فهذا كلام غير صحيح ولا وجه له، وهو كلام من لا يفهم العلم التجريبي أو مغرور جاهل، وسنتناول هذه القضية بمزيد تفصيل في الكلام على وجود الله وصفاته تعالى.

ولكننا مع ذلك نقول إننا يمكن أن نكتفي في تفسير الحوادث الكونية بالأسباب الكونية المشاهدة الخاضعة للتجربة. ولا يعني ذلك أننا ننفي أو نثبت وجود موجودات غير مادية تتفاعل في الكون. فالكلام حول الملائكة مثلًا، أو الكلام حول الشيطان: ما حقيقته، وكيف يوسوس للإنسان، وكيف يؤثر عليه، والكلام على ملك الموت وقبضه لروح الإنسان، فإننا نقول عن كل ذلك: هذه أمور عرفناها من جهة الوحي، ونصدقها تبعًا لتصديقنا في صحة هذا الوحي ونسبته إلى الله عز وجل، ونقتصر في أوصافها على ما قاله الوحي ولا نتعدى في الكلام عليها وتوصيفها بما لم يرد فيه الشرع، فنبحث عن السبب الـمـُلكي الـمُدرك بالحس، كلما عرفنا سببًا عاديًا، انتقلنا إلى غيره من الأسباب العادية، ولا نخلط البحث بين جهات الأسباب.

ونقول كذلك إن الله تعالى هو خالق كل شيء، وإن الله سبحانه وتعالى يخلق الأثر عند وجود السبب الكوني، وقد يقترن مع هذا الأثر أمر آخر في عوالم غيبية لا نشاهدها. فالله سبحانه وتعالى يميت الإنسان إذا قطعت رقبته مثلًا، فهذا الأثر (الموت) قد جعله الله عقب السبب الكوني (قطع الرقبة مثلًا)، وقد يصاحب تلك المقدمة الكونية مقدمة أخرى غيبية، وهي حضور ملك الموت وقبضه للروح. وكذلك في وسوسة الشيطان فالله سبحانه وتعالى يجري الخاطر بخلقه سبحانه وتعالى على نفس الإنسان مصاحبًا لأمر كوني ما وقد يصاحبه أمر غيبي كوسوسة الشيطان مثلًا.

فنحن ينبغي ألا نضع حواجز في طريق البحث العلمي، ومجال البحث العلمي التجريبي هو في الأمور الكونية المشاهدة الخاضعة للتجربة، فيجب اقتصار الباحث العلمي على الأسباب الكونية المشاهدة. أما أن يتعدى العالم التجريبي فينفي وجود ما لا يراه ويجربه مطلقًا، فهذا تعدٍ منه على غير مجاله.

ونحن لنا جولات في مقالات سابقة، وأخرى في مقالات ستأتي، نبين فيها وجود الله تعالى ووجه استدلالنا عليه سبحانه، من غير أن نعتمد البتة على فجوة معرفية أو أمر لم يكتشف العلم سببه المادي فنرده إلى الله.

وها هو نيوتن، وهو من أعظم العلماء في التاريخ وأكثرهم أثرًا في مسيرة البشر العلمية، يبين من جهة نظر فلسفية للكون المشاهد – وهذا يدل على إدراكه لجهات نظر فلسفية، هي مختلفة عن جهات نظر العلم التجريبي، خلافًا للكثير من المعاصرين اليوم – وجه دلالة الاختلاف الذي نراه في العالم والتنوع، ويستدل به على استحالة نشأة التعدد والاختلاف عن علة (وهي المؤثر الكوني الطبيعي غير المختار كالطبيعة مثلًا)، بل لا بد من فاعل مختار، وتفاصيل ذلك ونقاشاته ووجه الاستحالة تفصيلًا كلها مباحث فلسفية مشهورة. يقول:

Blind metaphysical necessity, which is certainly the same always and every where, could produce no variety of things. All that diversity of natural things which we find suited to different times and places could arise from nothing but the ideas and will of a Being, necessarily existing.[6]

وهذا فرانسيس بيكون، من أعظم العلماء التجريبيين والمؤسسين لنظرية البحث العلمي التجريبي the scientific method، يتكلم على جهات نظر أعمق من جهات النظر والركون إلى الأسباب الدنيوية:

إنه صحيح أن القليل من الفلسفة تدفع عقل الرجل إلى الإلحاد، ولكن العمق في الفلسفة يدفع عقل الرجل إلى الدين، فإنه حين ينظر عقل الرجل إلى الأسباب الثانوية المبعثرة، فإنه أحيانًا قد يركن إليها ولا يتعداها، ولكنه لما ينظر إلى مجموع سلسلة الأسباب، وهي مترابطة مع بعضها، فإن ذلك لا بد أن يحتاج لأن يطير به عقله إلى نظام إلهي، والألوهية.
It is true, that a little philosophy inclineth man’s mind to atheism; but depth in philosophy bringeth men’s minds about to religion. For while the mind of man looketh upon second causes scattered, it may sometimes rest in them, and go no further; but when it beholdeth the chain of them, confederate and linked together, it must needs fly to Providence and Deity.[7]

فحاصل ما ذكرناه أن بعض العلماء التجريبيين قد قالوا إن التفسير الغيبي لم يوصل البشرية إلى معرفة حقيقة الكون وكيف يعمل، ولما بدأت البشرية في ترك هذه التفسيرات والبحث عن التفسير المادي الحقيقي عن طريق العلم التجريبي بدأنا نصل إلى حقائق، وأن ذلك يقتضي ألا نبحث إلا في الأسباب المادية المؤثرة الحقيقية، لأن الكون كله مادة، ولا فعل أو تأثير لغير المادة، بل قفز البعض إلى أنه لا موجود إلا المادة!

ونحن نقول إن لكل سبب دنيوي مسبب دنيوي مُلكي، وإن الإحالة على الغيبي في الأسباب الدنيوية خطأ كبير، وإن الله قد أقام الكون على قانون الأسباب، وعلى علاقات مطردة بين المقدمات وبين النتائج، وإننا في مقام البحث عن الأسباب العادية المُلكية يجب أن نحصر البحث في ذلك، لا نُجيب عن كيف يعمل التلفاز بأن الله تعالى خالق كل شيء، وأن افتقار الكون إلى الإله ليس مبنيًا على جهل بعض العلاقات السببية التي في الكون، بل الإله توجبه الضرورة العقلية فيما نعلمه من الأسباب وفيما نجهله، لأننا نظرنا في الكون فوجدنا فيه خصائص – كالتغير والإمكان – تقتضي عقلًا استناده في الوجود إلى خالق متصف بالأزلية ووجوب الوجود.


[1] Death By Black Hole, p. 353.

[2] فليراجع مقالنا عن الأسباب والموجود.[3] فليراجع القارئ الكريم مقالنا عن احتياج الكون للإله، ومقالنا عن فكرة النقطة الزرقاء الباهتة.[4] للمزيد في هذا وما بعده يُنظر مقال احتياج الكون للإله من هذه السلسلة.[5] وسيأتي في المقالات القادمة المخصصة في الاستدلال على وجود الله مزيد تفصيل، وفي الكلام على صفات الإله، وعن مفهوم الإله، ما يوضح أكثر قضية أن الإله يستحيل أن يكون من الكون الممكن، ولا من قوانينه!وأيضًا أن مفوم الإله الحق، ليس ذلك المفهوم المشوه عن الإله عند الكثير من فلاسفة الغرب، الذي هو موجود جسم يشبه المخلوقات في الذات والصفات، فمن ثم أنكروه لاستحالته! فوجود أقرب شيء يعقلونه هو اتخاذ قوانين الكون، ممكنة الوجود إلهًا!

[6] Isaac Newton, The Principia: Mathematical Principles of Natural Philosophy.

[7] Bacon, Francis. Essays, Civil and Moral. Vol. III, Part 1. The Harvard Classics. New York: P.F. Collier & Son, 1909–14; Bartleby.com, 2001.