يوم 5 ديسمبر الحالي، كان الصحفي والطبيب «محمد أبو الغيط علي»، في نهاية رحلته الملهمة، ليعلن خبر وفاته، بعد معركة -حقيقة لا مجازًا- مع مرض السرطان، تاركًا خلفه عشرات المقالات والمدونات والتقارير الصحفية والتحقيقات ومحققًا جوائز مرموقة في مجاله، خاتمًا تركته، بكتابه «أنا قادم أيها الضوء»، الصادر عن دار الشروق ومن تحرير صديقه الكاتب والصحفي «أحمد سمير».

لا يكتب أبو الغيط سيرة ذاتية تقليدية يبدأ بها حياته وينتهي إلى ما انتهت إليه، بل يكتب رحلة مريض سرطان يريد أن يحافظ على حياته، وخلال تلك الرحلة يسجل تأملات تجربته، ليس كمريض ولكن كإنسان بدأت حياته في أسيوط ولا يريد لها أن تنتهي في لندن، ولكن..

تتقاطع تلك النقطة مع ما كتبته الأديبة الراحلة رضوى عاشور، في خليط بين مذكرات وسيرة ذاتية (أثقل من رضوى)، كما يتقاطع معه في نقطة أخرى، تجربتهما العلاجية مع ذات المرض، على اختلاف الآلام والتجارب وحتى العمر.

الضوء وفقط

في قصيدته «الضوء والجدار» كتب الشاعر الراحل أمل دنقل، «ربما ننفق كل العمر كي ننقب ثغرة! ليمر النور للأجيال مرة، ربما لو لم يكن هذا الجدار ما عرفنا قيمة الضوء الطليق!».

يلمّح الصحفي والطبيب إلى تلك القصيدة، دون أن يقتبس منها أو يتبناها، ولا يكتب عن الثورة بفعل حالم، كل ما أراده من الضوء لمن يقرأ أثرًا طيبًا وليس فعلًا ثوريًا يوقع شيئًا ويقيم آخر.

لا يصدّر الكتاب اقتباسات ملتهبة وشعارات رنانة، الكاتب نفسه ينفر منها كما روى، وإنما سرد هادئ ورقيق، بلغة بسيطة، يمكن القول إنها مجرد وسيط لعبور الأفكار إلى المتلقي بأوضح ما يكون، وبذلك ينتفي عنها وصف الكتابة الجمالية، مع التأكيد على أنها جميلة.

من كتب الشكر المتأخر للشيوعي المجهول أو عن الديمقراطية وفي نقد الشعبوية في مقالاته أو من استشهد في كتابه بما يفيد ثقلها، ولم يهتم بعقيدة أو فكر من يقول بقدر ما اهتم بما قال، واستطاع أن يصنع جمهورًا مختلف الأطياف والألوان، سيظل يكتب لهم حتى آخر كلمة.

ما فعله محمد في كتابه الأخير، هو فعله طوال حياته، فعل العادي، كما يكتب مقال رأي أو مسودة تحقيق استقصائي، لغة يومية عادية تصل لقارئه، حتى أنه كما اعتاد ربط اليوميات بأحداث، والأحداث بناء على معلومات وحقائق.

يمكنني هنا اختزال الصحافة الاستقصائية، بأنها إعادة الصحافة إلى أصلها الأول، تقديم معلومات لمن لا يعرفونها أو من خُفيت عنهم، هكذا بكل بساطة، هكذا أزعم أن كاتبنا فعل، رؤيته الشخصية أو تحليله العميق ولا شروحاته كانت الهدف من الكتابة ولكن ما هو معلوم وحقيقي، وكل يضع الإضاءة في مكانها من حياته وفهمه وتوجهه، لذلك لن تجده يتفلسف في البحث في ما وراء الحياة، أو ما بعد الموت، يكفي أن نحصر الكلام فيما يحدث.

ومع كل هذا، فإن الكتابة لم تخل من عاطفة إنسانية، ستلمس مسحة الحزن في كلماته، اليأس الإنساني، وستجد الكلمات تجري أملًا عندما يكتب عن بداية كل نوع علاجي جديد، عاطفة غير شاحنة، تقول يكفي أن تلازم العقلانية إنسانيتنا، التي تملؤها المشاعر لكن لا تسيطر عليها، ولا تحدد مصير إنسان أو حتى أمة.

الضوء الأفقي

ربما كانت هزيمتنا حتمية، ولكن الفوضى الحالية التي تجتاح العالم سيتمخض عنها عاجلًا أم آجلًا عالم جديد، عالم سيحكمه ويديره بالطبع المنتصرون، ولكن لن يقيد الأقوياء، ويصيغ هوامش الحرية والعدل، ويحدد مساحات الجمال وإمكانات العيش المشترك إلا ضعفاء تمسكوا بالانتصار للمعنى، حتى بعد الهزيمة.
من مقال علاء عبد الفتاح المنشور في مارس/آذار 2017

يمكن مقاربة هذا الكلام مع ما كتبه محمد أبو الغيط، ورسالته، في أن الضوء لا يمكن أن يكون رأسيًا فقط، التغيير للأفضل، لا ينحسر في الثورة فقط، لا مجال لتغيير جذري ولكن تراكمي.

في مقاله «شكر متأخر للشيوعي المجهول»، يطرح أبو الغيط، أنه وكما كانت الاحتجاجات لها أثرها الممتد، لتحسين أوضاع العمال، فإنه يؤكد الفكرة ذاتها في كتابه، عندما يثني على دور سيدة المجتمع الأمريكي ماري لاسكر، التي توفي زوجها بالسرطان، وجهودها في دعم علاج مرض السرطان، وبعد ضغوطات واسعة نجحت الحملة وتأسست جمعية السرطان الأمريكية، بتمويل ضخم واستمرارها على أولويات الحكومات باعتبارها ورقة انتخابية.

«أثر الفراشة الذي لا يزول»، سيكون القيمة التي يتناولها، في أن أي فعل إيجابي هو في حد ذاته تغيير، وأن كل شخص يحسن حياته وحياة المحيطين بها بكل ما يستطيع، هو تراكم لهذا التغيير، وبالتالي فإن النجاة وإن كانت فعلًا فرديًا ولكنها مرتبطة ارتباطًا عميقًا بالعام.

لذا فإن محمد في أوج محنته وعندما تنتهي آمال الشفاء، علميًا، سيستمر في محاولة جعل حياته الباقية «أفضل» بكل ما هو ممكن وكما اتفق، حتى إنه سيسهم في تجارب أنواع جديدة من العلاجات لحالته، كأمل محدود لكنه في الأصل فعلًا إيجابيًا للتغيير يخدم البشرية، حتى لتجده يواصل رواية قصته حتى حتى قبل أيام قليلة من رحيله.

من مبدأ «ستنتهي حياتي؟ إذًا لأجعل حياة غيري أفضل»، انطلق محمد في الكتابة، وإليها انتهى، وبين العام والذاتي تنقل، لينهي قصته عند الخاص، فنجد آخر أمنياته أن ينتهي الظلم الواقع على والد زوجته، الدكتور السيد حسن شهاب، ويتم إطلاق سراجه بعد تسع سنوات من السجن، وألا تفقد زوجته والدها كما فقدت والدتها وزوجها في عامين، ثم يكتب رسالة شديدة العذوبة لوالديه، راسمًا خلفية الإنسان الذي وصل إليه وعمقه، قبل أن يوجه رسالته الأخيرة إلى ابنه يحيى، لكن مع حرصه أن تكون الدائمة، يعود إليها كلما احتاج دعمه أو سماع صوته، وإن كان غير كاف فعزاؤه في أن ما كان، هو كل ممكن.