رغم الشهرة العالمية الواسعة التي نالها مصطلح «الإبراهيمية» فإن ذلك لم يزد الأمر إلا غموضًا والتباسًا وكأنه يحمل محتوى يخشى من وراءه الإفصاح عنه رغم سعيهم لترويجه في تناقض لا يمكن حله إلا بتتبع السياق الذي تُطرح فيه هذه الكلمة واستقراء أبعاد هذا المشروع الذي صار مرتبطًا بالمنطقة العربية وشعوبها وبخاصة الشعب الفلسطيني.

وتتنوع المسميات المرتبطة بالإبراهيمية فأحيانًا يتم وصفها بأنها ديانات وأحيانًا أخرى تُوصف بأنها دين واحد مُوحـِّد لشعوب المنطقة مع حشر إسرائيل بينهم، وحتى اليوم لا يوجد إعلان رسمي عن تلك الديانة المفترضة ولا عن تفاصيلها ومقدساتها التي يبدو أنها ما زالت في طور التشكل، بينما تتبناها مؤسسات دولية مختلفة تعمل تحت شعارات نشر السلام والتسامح وما إلى ذلك ولا يبدو مدى الاتفاق أو الاختلاف بينها، وبدأت تلك هذه الدعوة الهلامية تحل محل دعوات الحوار بين الأديان، وكأنها جاءت كخطوة تالية لها.

إعادة تشكيل الهوية

تتضمن هذه الدعوة من دون أدنى شك جهود لإعادة تشكيل هوية المنطقة وتمييع وتضييع القضية الفلسطينية بفك ارتباطها بالدين من طرف واحد؛ أي فك ارتباطها بالدين الإسلامي الذي تتضمن نصوصه الدينية عبارات تتحدث عن صفات اليهود الذميمة وتحض على جهادهم، وكلها آيات قرآنية لا يستطيع أحد التشكيك بحرف واحد منها ونزع القدسية عنه، فظل هذا من أمنع الحواجز أمام تقبل إسرائيل وزوال الحاجز النفسي بينها وبين شعوب المنطقة العربية، فالقادة الإسرائيليون يشتكون أنه رغم وجود سلام رسمي مع مصر مثلًا فما زال هذا السلام غير متقبل بالنسبة لمعظم أفراد المجتمع المصري، مع أن مستوى العداء تجاه إسرائيل في وسائل الإعلام المصرية قد انخفض إلى حد ما في السنوات الأخيرة.

وتعد الدكتورة هبة جمال الدين، عضو الهيئة العلمية في معهد التخطيط القومي والمجلس المصري للشؤون الخارجية، من أهم الباحثين الذين تحدثوا عن هذا الموضوع، وقد أكدت أن الإبراهيمية نشأت في الأساس من أجل القضية الفلسطينية، عبر إعادة قراءة النص الديني وتفسيره من جديد، وأن المشروع استعماري بامتياز يهدف لإخضاع شعوب المنطقة لإسرائيل، وفقًا لما ذكرته في كتابها «الدبلوماسية الروحية والمشترك الإبراهيمي المخطط الاستعماري للقرن الجديد».

وتشير إلى أنه في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما، أسست وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون عام 2013 لجنة مكونة من رجال الدين مع الدبلوماسيين بالمناصفة، وتنوعت اتجاهات الفريق الأول لتشمل أتباع مذاهب عديدة، بهدف التوصل إلى صيغة دينية تجمع معتنقي الأديان عليها بكتاب مقدس جديد يتم الاتفاق عليه وإنشاء دور عبادة جديدة، وأخذ أوباما يبشر في 2013 بالدين الإبراهيمي العالمي بعدما أجرى المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما مراجعات لنظرية «نهاية التاريخ» ليضيف إليها فكرة «صهر الأديان» في بوتقة واحدة.

وتحت شعارات نشر السلام وحل الخلافات التي لها صبغة دينية، بدأ البحث عن دعم القادة الروحيين، لا سيما من الصوفية العالمية لنشر الفكرة بين شعوب المنطقة، وكمثال على الخطوات العملية التي اتخذت في هذا الإطار أقدمت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين «الأونروا» التابعة للأمم المتحدة عام 2017 على تغيير مناهج الطلبة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة من وصفها للقدس كـ«عاصمة فلسطين» إلى «المدينة الإبراهيمية»!

وفي عهد إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، برز اسم «الإبراهيمية» خلال اتفاقيات التطبيع العربية مع إسرائيل، وكان وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، المقرب من إسرائيل يردد في خطابه الذي ألقاه في القاهرة: «نحن جميعاً أبناء إبراهيم: مسيحيون، ومسلمون، ويهود»، لكن إدارة الرئيس الحالي، جو بايدن، تجنبت استخدام هذا المسمى لعدم استفزاز شعوب المنطقة بمبادرة لم تكتسب بعد القبول والانتشار ولم يصبح لها أتباع من أبناء المنطقة يرفعون رايتها ويفتحون القلوب لها.

«لم نر هذا الوليد ولم نعرف ملامحه»

مؤخرًا، حذر فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، من الديانة الإبراهيمية التي تدعو إلى امتزاج المسيحية واليهودية والإسلام في دين واحد، وذوبان الفروق بينها، متهمًا هذه الدعوة بأنها تعمل على مُصادرة حرية الاعتقاد وحرية الإيمان، وهي أغلى ما يملكه البشر، عبر دعوة تشمل أضغاث الأحلام أضعافَ ما فيها من الإدراك الصحيح لحقائق الأمور، قائلًا: «لم نر هذا الوليد ولم نعرف ملامحه وقسماته»، محذرًا من صنع دين جديد «لا لون له ولا طعم ولا رائحة».

ومن الجانب المسيحي، أعلن القمص بنيامين المحرقي، الأستاذ بالكلية الإكليريكية بالأنبا رويس، أن الإبراهيمية معناها العودة إلى اليهودية، وبالتالي فلن تقبل المسيحية ذلك أو الإسلام، مؤكدًا أنها دعوة مسيّسة تحت مظهر خداع تسعى لاستغلال الدين.

فهذه الدعوة تهدف صراحة لتضييع تأثير الانتماء الديني عبر إدخال اليهودية ضمن المنظومة الدينية للشعوب العربية، وتم اختيار هذا المسمى لها وفقًا للسفير الأمريكى السابق في إسرائيل، ديفيد فريدمان، لأنه لا يوجد شخص يرمز إلى إمكانية الوحدة بين جميع هذه الديانات العظيمة الثلاث أفضل من إبراهيم لأنه كان أبًا لجميع الديانات الثلاث العظيمة؛ يُشار إليه باسم «أبراهام» لدى المسيحيين، و«إبراهيم» لدى المسلمين و«أبرام» عند اليهود.

وفي حين يرفع دعاة الفكرة شعارات براقة كالتسامح، فإنهم يعيدون صياغة الحقائق في رواياتهم المستحدثة فالخلاف بين المسلمين واليهود مثلًا منشؤه خلاف شخصي بسبب الغيرة بين زوجتي إبراهيم سارة وهاجر، فالأولى جدة اليهود، والثانية جاء من نسلها النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، وهكذا يتم عرض القضايا الدينية بمثل تلك الطريقة التي تتجاهل الأصول العقيدية والنصوص الدينية الثابتة؛ فالانتماء الديني لنبي الله إبراهيم، عليه السلام، تحديدًا كان محل جدل وخلاف بين المسلمين وأهل الكتاب في بداية الدعوة ونزلت آيات القرآن لتحسم هذا الخلاف لدى المسلمين منذ البداية (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ، هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ، مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (آل عمران 65:67) وهذا يهدم الأساس الذي قام عليه هذا المشروع.