إذا سُئلت عن فيلم يعبر عن التسعينيات المصرية، وهي حقبة غامضة من تاريخ مصر لا تحمل غليان الأربعينيات ولا طموح الخمسينيات ولا توتر الستينيات ولا تحولات السبعينيات، فلن أتردد في اختيار «آيس كريم في جليم». أصدر صناع العمل، محمد المنسي قنديل ومدحت العدل وخيري بشارة، فيلمهم في 1992، كجيل من مثقفي اليسار والقومية العربية يسدلون الستار على ماضيهم مع أفول شمس الاتحاد السوفيتي وتغير العالم من حولهم في مصر وخارجها، لكن الفيلم لم يكن فيلمًا سوداويًّا كما يمكن توقع نوعية فيلم من هذا النوع، بل جاء متطلعًا إلى المستقبل.

تعد «رصيف نمرة خمسة» أيقونة الفيلم لأنها تبلور رسالته بوضوح. مناشدة مبدئية لـ «نادي باريس» أكبر دائني مصر آنذاك، ديون مشروطة بالولوج إلى عالم مُأمرَك تمامًا، عالم أصم لا تعجبه أهازيج التحرر الوطني والتنمية المستقلة ومجتمعاتنا الأصيلة، تلك الأهازيج التي طربت لها أجيال من الشباب العربي.

يا نادي باريس، تعالى وحاسبني
وجدول ديوني، عشانه وعشاني

ترصد الأغنية وتشجب تلك السياسات الاقتصادية التي شهدتها مصر منذ انفتاح السبعينيات، ثم تبرع في كشف آثارها على المجتمع الذي تستعر فيه الخلافات على أتفه الأسباب. محامٍ «قدير» يمارس براعته عبر مقاضاة صوت بائع البليلة المسكين، وواقعة سودة بسبب خلاف بين شخصين أو عائلتين، ثم أطفال تقتل الحاجة والعوز براءتهم في مجتمع لا يعرف سوى المصالح ولغة البيزنس. وتختتم الأغنية بحيرة رثائية.

ولا البحر باين، في آخره مراسي،
ولا حد راسي، منين الفرج؟!

«زرياب»، الماركسي اللينيني في زمن لا يعترف بماركس ولا لينين، يمثل الماضي وحمولته الجنائزية، «نور» محاولة صادقة ونبيلة لبعث الماضي في حاضر صلد لا يسمح بذلك، أما «سيف» فهو الطموح والمستقبل الأصيل والمبدع الذي يناور كل يوم، «زيكو» رمز الرأسمال الجشع والمبتذل.


«صناعة» السينما

كان يؤرقني منذ الصغر سؤال: كيف يمكن للفنان الذي ينفعل بكل هذا الصدق في أداء دور الثائر أن يكون في حياته رمزًا لنفاق السلطة؟ وكيف يمكن للفنان الذي يذرف دموعًا ساخنة على الفقراء وأحوالهم، وربما يبكينا معه، ويمجد الحياة البسيطة التي لا تحفل بجمع المال وإنما بالحفاظ على القيم، أن يكون وحشًا نهمًا للمال مستعدًّا لبيع كل شيء في سبيله؟

كان أول جواب عثرت عليه هو الطابع الفوردي لصناعة السينما الحديثة. في الفوردية، يصل اغتراب العامل عن عمله ذروته. في البداية، كان الحرفي مثلًا يصنع الساعة. كانت الساعة هنا ليست سلعة فحسب، بل قبل ذلك صنعة الحرفي، كأنه يخلقها خلقًا فيبذل فيها فنه ووقته وحياته، هو يشعر فعلًا أنها كذلك، إن تحطمها تحت قدم غافلة لا يختلف بالنسبة إليه عن تحطم قلبه. بعدما خلق فورد خط الإنتاج الفوردي، حيث يكون دور العامل لا يتعدى أن يضع عقربًا على أقصى تقدير على صفيحة ربما لم تنقش بها بعد علامات الساعة، لم يعد هذا العامل يشعر بعمله. عندما يرى هذا العامل الساعة التي كان ترسًا في إنتاجها، فإنه يراها لأول مرة ولا يحمل تجاهها أية مشاعر.

السينما كذلك، يؤدي فيها الفنان مجموعة مشاهد متباعدة، وهو لا يدرك موقع ذلك المشهد من الدراما مثلما يدركه المشاهد الذي يرى العمل في نسخته الأخيرة. إنه يرى العمل مجرد سيناريو يفتت الدراما إلى مشاهد، كأنه يختزل الساعة إلى عناصرها المكوِّنة لها، فلا يشعر تجاه عمله بأي شيء.

لاحقًا، كانت صدمتي بأن الفنان لا يدرك حتى كلامه في المشهد الذي يتحول بالنسبة لنا – نحن المشاهدين – إلى أيقونات. كان ذلك عندما سخر عمرو دياب من أغنيته «رصيف نمرة خمسة» في إحدى حفلاته واصفًا إياها ضمنيًّا بأنها كلام غير مفهوم. وكما قال الناقد محمد خير في روايته لتلك الواقعة، فإن ذلك يذكرنا بحديث عادل إمام عن أنه لم يندم على أي دور من أدواره مثلما ندم على دوره في «الحريف» (تحفة خان!) وبحديث آثار الحكيم عن دورها في «البحث عن سيد مرزوق» التي قالت إنها لم تفهمه. من الطبيعي لذلك أن يبقى عادل إمام أقرب إلى مرجان أحمد مرجان منه إلى فارس المحرومين.


بذور الخيانة

كتب جوليان بندا عام 1927 كتابه خالد الذكر «خيانة المثقفين»، من مكر التاريخ أن يكون واحد من الاستعمالات الباكرة جدًّا لمفهوم المثقف الذي خلقه إيميل زولا مرتبطًا بخيانته لما يحمله من أفكار وما يدافع عنه من قيم. لكن أحدًا إلى الآن لم يكتب عن خيانة الفنانين، ربما لأن خياناتهم أكثر من أن تحصى ولأن علاقتهم بالأدوار التي يؤدونها هي بحق علاقة محض زائفة، ذلك الزيف الذي أشعر به اليوم تجاه كل كلمة يغنيها عمرو دياب (لم يكن دياب يومًا من مطربيَّ المفضلين).

كان «آيس كريم في جليم» مع ذلك يحمل بذور الخيانة في رأيي، فالاحتفاء بنموذج الشاب الذي يحمل طموحًا فرديًّا، «يريد أن يعبر عن نفسه البسيطة فحسب» كما قال لنور في الزنزانة، ورفض دفع ثمن الكلام الذي اكتشفنا لاحقًا أنه لم يفهمه أصلًا، ورفض أن يغني كلام نور، كان بداية الطريق نحو التسوية النهائية بين «سيف» و«زيكو»، بل إلى أن يمثل زيكو مصير سيف. كما أن إعلان زرياب عن سقوط الأيديولوجيات والاكتفاء بحب الحياة والجمال هو تجلي الوعي الزائف بإمكانية حب الجمال وعيش الحياة بمعزل عن منظومات الهيمنة الاقتصادية، وعن القيم الإنسانية الكبرى، الحق والعدالة والخير، التي تدافع عنها الأيديولوجيات وتسعى إلى تجسيدها.

يحتاج المثقف ربما أن يوطِّن نفسه على الوحدة، على أن يُنسى تمامًا وينعزل في زاوية حين يتوجب عليه الاختيار بين تلك الزاوية أو أن تتحول أفكاره التي بذل عمره في تكوينها إلى سلعته التي يعتاش منها. إنه الفزع الذي يجب أن يظل نصب عين المثقف، أن يتحول إلى تاجر شنطة أفكار.

ليس من حقنا أن نفرض على الفنان مساراته، ولكن من حقنا بالتأكيد أن نغضب منه حين يمنعنا حتى من القدرة على الاستمتاع بفنه الزائف والانفعال به.