«هذا وقد أعرب الحجاج عن خالص شُكرهم للمملكة العربية الرشيدية عمّا قدمَتْه لهم من خدمات طوال موسم الحج، داعين لخادم الحرمين جلالة الملك عبد الله بن محمد بن رشيد بدوام الصحة والعافية، والنصر على كل من عاداه».

ربما لم يكن مُستبعدًا أن نسمعَ مثل هذه العبارة وأكثر، فقط إن تزحزحت عجلة التاريخ قليلاً ولم تنصر آل سعود على الرشيديين خصومهم التاريخيين على حُكم الحجاز، والذين دانت لهم السيادة على معظم مساحة بلاد الحرمين لـ90 عامًا، كان السعوديون، وقتها، مجرد لقب يُطلق على منتسبين للعائلة لا على أبناء وطن بأكمله، مجرد لاجئين ومعارضين من المهجر لا حكام، حتى انقلبت الآية يومًا وتحوّل المعارضون إلى أمراء والأمراء إلى معارضين، وتحوّل علم البلاد من الأحمر (راية الرشديين) إلى الأخضر (راية السعوديين)، ومن حينها لم يتغير الوضع، فمن هُم آل رشيد؟ كيف حكموا موطن الرسول؟ ولماذا ذهب مُلكهم؟ وأين هُم الآن؟

ينتمي الرشيديون إلى آل جعفر أحد بطون «عبدة» من قبيلة شمّر المتفرعة من قبيلة طيء الشهيرة، استوطنوا منطقة حائل، وذاع صيتهم بفضل عبد الله بن علي بن رشيد (1250 – 1265 هـ/1834 – 1848 م)، والذي عمل والده جابيًا على الناس لجمع الزكاة في زمن الإمام سعود، فيما كان عمّه «جبر» أحد كتّاب الإمام سعود المعروفين، ورُوي عنه أن الأخير كان يثق به ثقة مُطلقة.

عُرف عن عبد الله الطموح والشجاعة، اللذان كانا سببًا في تأجيج طموحه السياسي، فكثر أنصاره وقويت شوكته بحائل، فكان الاصطدام الحتمي بأمراء المنطقة، حينها، من «آل علي»، على الرغم من صلة القرابة التي تجمع الطرفين ومصاهرته منهم، الأمر الذي دفعه للخروج بصحبة شقيقه عبيد من موطنه إلى العراق، حيث أقاما فيه لبضع سنوات، ومنه عادا لحائل قبل أن ينضما لقوات الإمام تركي آل سعود.

الحرب تحت راية آل سعود

يقول الدكتور عبد الله الصالح العثيمين في كتابه «نشأة إمارة آل رشيد»، إن عبد الله الرشيد قَدِمَ إلى الإمام تركي في الرياض ومعه من الصفات ما يشجع الحاكم على اكتسابه، وعنده من التجربة في بلدته وخارجها ما يؤهله لاحتلال منزلة رفيعة لديه، وسرعان ما أصبح من الأصدقاء المقربين لابنه فيصل بصفة خاصة، وتحالف كلاهما في جهود إعادة تأسيس الدولة السعودية الثانية، والثأر للأمير عبد الله والد الإمام تركي الأمير عبد الله، وصاحب المحاولة الأولى لإقامة الدولة السعودية، وعلى إثرها أسرته قوات إبراهيم باشا نجل والي مصر محمد علي، وتم إعدامه في استنبول 1234هـ.

وبينما كان فيصل يقوم بإحدى غزواته التوسعية جهة القطيف 1249هـ بصحبة عبد الله، علما بنبأ انقلاب ابن العم مشاري بن عبد الرحمن بن سعود على الإمام تركي، وأن الأول قتل الأخير وأُجبر سكان الرياض على مبايعته أميرًا، فارتدّ فيصل بجنوده فورًا إلى الرياض وضرب حولها حصارَا، تمخض عنه عملية اقتحام جريئة قادها الرشيد بنفسه لقصر الحاكم، حيث قتلوا ابن العم الغادر وعددًا كبيرًا من أتباعه، وأنهوا الانتفاضة في مهدها. الأمر الذي رسّخ مكانته لدى حاكم الرياض الجديد فيصل، وهيأه بعدها لإقصاء «آل علي» عن حكم حائل، وتقليد إمارتها لذراعه الحديدي عبدالله بن رشيد، وكان ذلك في أواخر 1250هـ، الخطوة التي اعتُبرت حجر الأساس لإقامة الدولة الرشيدية، التي بزغت من حائل وتمددت حتى كادت تحكم الحجاز بأكملها، وكان ذلك بمساعدة أتت بلا دعوة من مصر.

أمير حائل سعود بن عبدالعزيز الرشيد وهو طفل، ومن خلفه يقف أمير الحج المصري إبراهيم رفعت يرتدي البدلة

في العام 1251هـ بعث حاكم مصر محمد علي يطلب من الإمام فيصل تأدية إتاوة باهظة له، ما اعتبره المؤرخون توطئة لتسيير حملة عسكرية إلى بلاد الحجاز، وهو ما حدث، وفي العام التالي تحركت حملة بقيادة إسماعيل أغا وخورشيد باشا حققت انتصارات متلاحقة على الدولة السعودية الوليدة من نجد حتى العاصمة الرياض.

وعلى الرغم من محاولة المصريين إعادة «آل علي» لحكم حائل مرة أخرى، إلا أن هذا الأمر لم يستمر أكثر من عام واحد، بعد أن أدرك عبد الله بن الرشيد بذكائه وجوب تحالفه مع القوة الجديدة بالصحراء فوفد على خورشيد باشا في المدينة المنورة، ومن خلفه ألف بعير هدية يعلن بها ولاءه لـ«ولي النعم» القاطن بالقاهرة، واتفقا على أن يزود الرشيد الجيش المصري بأكبر عدد ممكن من الإبل يحتاجه في حربه، ولو تطلب ذلك سرقتها من القبائل، على أن يُعاد من جديد حاكمًا لحائل، وهو ما تم.

وفي رمضان من عام 1254هـ استسلم فيصل لخورشيد، قبل أن يُبعث الأول أسيرًا إلى القاهرة، وبعدها بعامين عادت كافة القوة العسكرية المصرية وزعيمها خورشيد باشا تاركة أميرً ضعيفًا من آل سعود مواليًا لمصر وهو خالد بن سعود، والذي لم يكن يتمتع بأي قبول من القبائل ولا من أهل الحجاز، فخلت الساحة تمامًا لابن الرشيد، ولمدة 10 أعوام كاملة بقي أميرًا بلا منازع على المنطقة، زاد فيها رسوخ الإمارة يومًا بعد، وازدادت مساحتها سنة بعد أخرى، حتى بلغت أقصى اتساع لها في عهد الابن محمد بن عبدالله الرشيد فشملت نجد والرياض وتيماء وخيبر وبلغ مشارف حلب ودمشق، واتسع نفوذه حتى حاذى الخليج وجبال حوران.

قتال آل سعود

تقول مضاوي الرشيد في كتابها «تاريخ العربية السعودية بين القديم والحديث»، إنه بعد وفاة فيصل أصبح نجله عبدالله (1865 – 1871) حاكمًا على الرياض، مُلك لم يمر بلا منغصات بسبب الصراع الضاري الذي أشعله إخوته غير الأشقاء سعود ومحمد وعبدالرحمن على الزعامة، وفي 1875م توفي سعود تاركًا استكمال بقية الصراع لمن بقي حيًا من إخوته، وفي 1877 ناشد عبدالله حاكم حائل محمد بن رشيد لمساعدته على إنهاء هذه المعضلة، فاغتنم الأخير هذه الفرصة وزحف على الرياض، ونصّب عليها حاكمًا مواليًا له عمل على تصفية مَن بقي من آل سعود بالعاصمة، وبعدها عيّن الرشيد عبدالرحمن على الرياض بعد أن ضمن تبعيته له، لكنه حاول استعادة سطوته مستعينًا ببعض القبائل التي ظلت على ولائها لآل سعود، فحدثت بينهما واقعة «مليدة» عام 1891م والتي حقق فيها الرشيديون انتصارًا حاسمًا وعادوا للاستيلاء على الرياض واقتيد السعوديين رهائن إلى حائل، فيما هرب عبدالرحمن بأهله إلى الكويت حيث استضافه الشيخ مبارك الصباح صاحب العلاقات السيئة مع آل الرشيد، معلنًا نهاية الدولة السعودية الثانية.

لم يختر المنفيون السعوديون اللجوء للكويت جزافًا، وإنما كان اختيارًا سليمًا ودقيقًا بسبب سوء العلاقة بين الطرفين، فابن رشيد كان يحلم بضم الكويت لتوفير منفذ بحري لإمارته، بدعمٍ من العثمانيين الذين انزعجوا بشدة من الحلف الوثيق بين الشيخ مبارك الصباح أمير الكويت وبين الحكومة البريطانية، الذي أسفر عن معاهدة حماية حوّلت الكويت إلى ما يشبه محمية بريطانية في قلب صحراء العرب.

وتضيف مضاوي: بقيت السيطرة المطلقة لأبناء الرشيد على حكم البلاد حتى عام 1902، حين عاد عبدالعزيز نجل عبدالرحمن من منفاه بالكويت، وقتل الحاكم الرشيدي على الرياض، وأعلن نفسه أميرًا عليها من جديد، فكان هذا الانبعاث الثالث والأخير للدولة السعودية بالقرن العشرين.

بعدها خاض الطرفان حربًا بالوكالة عن قوتين عظمتين حينها، فمثّل آل الرشيد ما تبقى من أنياب الإمبراطورية العثمانية العجوز بالمنطقة، فيما تحالف السعوديون مع القوات الإنجليزية التي فطنت لأهمية المنطقة أخيرًا، وحقق عبد العزيز انتصارات متلاحقة فبعدما استرد الرياض 1319 هـ/1901 م ونُودي من فوق برجها له: أن الحكم لله ثم لعبد العزيز بن سعود، استولى على بقية نجد والأفلاج 1321 هـ/1904 م، ثم القصيم حيث قتل أميرهم عبد العزيز بن متعب، واستطاع القضاء عليهم قضاءً نهائيًا بعدما تمكن من الاستيلاء على معقلهم الرئيس حائل سنة 1340 هـ/1921 م، فطويت صفحة مُلك آل رشيد إلى الأبد، وكان آخر حكامها هو محمد بن طلال بن نايف بن طلال بن عبد الله المؤسس، وهي بشرى كبيرة قرر عبدالعزيز أن يبرق بها إلى «جناب الأكرم ذو المكارم العلية والشيم المرضية حضرة صاحب السعادة الميجر جي. بي. مور قنصل الدولة الفخيمة البريطانية العظيمى بالكويت، دامت معاليه آمين»، يخطره فيها بأنه عائد إلى الرياض ومعه «عائلة الرشيد كلها بمحارمها». رسالة بقيت محفوظة بأصلها وعرضها سعود السبعاني في كتابه «صنائع الإنجليز».

صورة أصلية من رسالة الملك عبدالعزيز للقنصل الإنجليزي

لماذا انتهى حُكم آل رشيد؟

يقول الدكتور محمد عبد الله السلمان في مقالٍ بمجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، إن الناس عانوا بشدة في أواخر حكم الرشيد، وبالذات في عهد عبد العزيز بن متعب الذي كان معروفًا بالظلم والقسوة، معتبرًا أن سياساته خلخلت الوحدة الحجازية التي فرضها جدّه الأول عبد الله، فسادت الفتن والقلاقل المنطقة، كما اعتادت القبائل نهب قوافل التجارة وساءت الأحوال نتيجة «عدم توفر السلطة المركزية القوية العادلة»، ومع وفاته زاد الأمر سوءًا بسبب بروز الخلاف بين الورثة وتصارعهم فيما بينهم وقتلهم لبعضهم البعض،  الأمر الذي هيأ التربة الخصبة لعودة آل سعود من جديد للسُلطة بسهولة.

أين هُم الآن؟

أُطلق اسم عبد الله بن رشيد على أحد الشوارع الرئيسية في مدينة الرياض، ولم يكن هذا هو الأمر الذي خلّد تردد اسمهم حديثًا، ففي الـ25 من مارس من العام 1975م قتل الأمير فيصل بن مساعد بن عبد العزيز آل سعود على عمه الملك فيصل، وهو يستقبل وزير النفط الكويتى عبد المطلب الكاظمي في مكتبة بالديوان الملكي وأرداه قتيلًا، ولقد كثرت وتباينت الأسباب التي دفعت القاتل لمثل هذه الفعلة، منها بعض الهمس الإعلامي الذي لم يرتقِ ليكون تهمة رسمية، أرجع السبب لصلة القرابة التي جمعت بين الأمير وآل الرشيد من جهة والدته، وأن هذا الاغتيال ثأرًا منهم على ما فعله أجداد الملك قديمًا بإسقاط حُكمهم.

في الداخل سطع اسم رجل الأعمال عبد الله الرشيد بعدما نجح في توطين استثمارات مترامية الأطراف في مجالات التكنولوجيا والإنشاءات والهندسة بثروة قدرتها مجلة «أربيان بيزنس» بـ4 مليارات دولار جعلت يحتل المرتبة الـ30 في قائمة أغنياء المملكة، وفي يونيو العام 2018م أقدمت فتياته الثلاثة على أمر غير مسبوق، وتصدّرت صورهن بدون حجاب غلاف مجلة VOGUE العالمية بعد أشهر معدودة من ظهور الأميرة هيفاء بنت عبد الله آل سعود عليها.

وفي خضمّ الغلط الذي أثير بشأن إعادة مصر ملكية جزيرتي تيران وصنافير للسعودية أواخر 2016، استدعى الإعلامي المصري يوسف الحسيني اسم آل رشيد نكاية في آل سعود فكتب عبر حسابه على «تويتر»: «تيران وصنافير مصرية، وستظل مصرية ولن نتركها، حتى لو أعدنا تركيع الدرعية وأعدنا آل رشيد للحكم».

أيضًا، على مدار السنوات العشرة الأخيرة شكّلت واحدة من أحفاد عبد الله بن الرشيد صداعًا حقيقًا في رأس حكام السعودية، هي مضاوي الرشيد عالمة الأنثروبولجيا في جامعة لندن، والتي دائمًا ما تظهر في وسائل الإعلام العالمية وتنتقد آل سعود، وتعلن رغبتها في إنهاء حكمهم علنًا، وغالبًا ما تتخذ من صفحاتها الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي منابر لتشجيع أي حركة تمرد أو معارضة لحكمهم.

وفي مايو من العام 2018م عاد اسم «آل رشيد» للتردد على الساحة من جديد بعدما سلّمت الكويت الشاعر المعارض نواف الرشيد الذي يحمل الجنسيتين السعودية والقطرية، بعد أن وفد إليها لحضور ندوة شعرية، وهو ابن شاعر آخر هو طلال الرشيد الذي قُتل في ظروف غامضة بالجزائر أواخر عام 2003، لم يتردد البعض في إرجاع فِعلها لآل سعود. كان أبرزهم سعود القحطاني المستشار السابق في الديوان الملكي السعودي، الذي كتب عبر حسابه على «تويتر» تدوينة تلمّح لنفس المعنى، قبل أن يحذفها.

وسائل الإعلام الكويتية الرسمية أكدت أن نواف «مطلوب أمنيًا» للرياض، وأن التسليم جاء بموجب اتفاقية أمنية بين الدولتين، ما يعيد للأذهان التحالف التاريخي بين الطرفين على آل رشيد، والذي يبدو أنه لا يزال فعالاً حتى الآن، فيما علّقت الدكتورة مضاوي على الأمر قائلة: «إن اسم عائلته لا يزال مصدر قلق لآل سعود».