شهدت السنوات القليلة الماضية تصاعدًا كبيرًا في إجراء قسطرة الشرايين التاجية حول العالم، من أجل تشخيص وعلاج أمراض الشرايين التاجية المغذّية للقلب، لا سيما مضاعفاتها الطارئة مثل جلطات شرايين القلب الجزئية والكلية.

وتلك الطفرة في القسطرة القلبية ليست مُستَغربة بالنظر إلى الانتشار الكبير المُطَّرد للإصابة بأمراض شرايين القلب لدى شرائح عمرية مختلفة، نتيجة الزيادة المتصاعدة في عوامل الخطر المُسبَّبة لتلك الأمراض مثل التدخين والسكر وارتفاع الضغط واختلال دهون الدم وغياب النشاط البدني وزيادة أنماط الحياة الضاغطة عصبيًا وجسديًا… إلخ.

ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية، فأمراض شرايين القلب التاجية هي السبب الأبرز للوفاة عالميًا، حيث بلغ عدد ضحاياها عالميًا أكثر من 9 ملايين إنسان عام 2019، وهو أكثر من ضعف عدد وفيات وباء كورونا العالمي في أكثر من عامٍ ونصف. في الولايات المتحدة الأمريكية، صاحبة المنظومة الصحية الأقوى والأحدث عالميًا، تقتل أمراض شرايين القلب التاجية أكثر من 650 ألف أمريكي سنويًا، لتكون بذلك مسئولة وحدها عن ربع إجمالي الوفيات هناك، بينما تُقدَّر الخسائر المادية السنوية، من جرّاء تلك الأمراض ومضاعفاتها وفقدان إنتاجية العاملين بعد الإصابة، بنحو 220 مليار دولار.

أسهمت القسطرة القلبية التداخلية في شرايين القلب على مدار عقود في إنقاذ حياة مئات الآلاف من المصابين بجلطات الشرايين الحادة الكلية والجزئية، وكذلك في تخفيف أعراض منْ يعانون من قصور مزمن شديد في شرايين القلب. وفي السنوات الأخيرة شهدت مصر طفرةً كمية ونوعية في قسطرة الشرايين القلبية، ولا تخلو محافظة مصرية، أو مدينة كبيرة، من وجود مركزٍ واحدٍ على الأقل لقسطرة القلب الطارئة وغير الطارئة، لكن ما يزال ينقصنا كثير من الوعي الطبي والأخلاقي بتفاصيل هذا الإجراء الطبي الحيوي، ومتى يجب إجراؤه. وسنحاول في السطور التالية التركيز على أهم ما ينبغي معرفته في هذا الشأن.

ما قسطرة الشرايين القلبية؟

القلب هو أهم الأعضاء الحيوية بالجسم، لأنه لا حياة للبقية من دون المضخة التي تمدُّهم جميعًا بالدم الذي يحمل الأكسجين والمغذيات، والتي تموت خلايا أنسجتهم بدونها.

ومن البديهيّ أن القلب نفسه بحاجة لتغذيةٍ دموية لكي يقوم بوظيفته، ويتكفَّل له بهذا شرايينُ مخصوصة تُعرَف بالشرايين التاجية، وهي أول الشرايين انبثاقًا من الشريان الأورطي الضخم الذي يخرج من البطين الأيسر للقلب، ويغذي الجسم كاملًا بالدم.

تُسبِّب عوامل الخطر التي ذكرناها في المقدمة ما يُعرَف بـ «تصلب الشرايين» حيث تتراكم الدهون الضارة في جدار الشرايين، ومنها شرايين القلب، فتُسبِّب ضيق مجرى الدم، فتقل التغذية الدموية لعضلة القلب، لا سيَّما أثناء المجهود عندما يحتاج القلب إلى دمٍ أكثر. وهذا يُعرف بالقصور التاجي المزمن.

لكن في حالاتٍ أخرى، قد يحدث التهاب شديد أو ما يشبه الانفجار في إحدى المناطق المتصلبة بالشريان، فيحدث جرحٌ بجدار الشريان، يحتك به الدم، وتُستثار الصفائح الدموية، فتحدث الجلطة داخل الشريان، فتسد التغذية الدموية بشكلٍ كامل أو شبه كامل، ويكون لزامًا فتح هذا الشريان، وإلا بدأت أجزاء من عضلة القلب المحرومة من الدم في التلف.

والقسطرة القلبية، تتضمن أولًا الولوج إلى الدورة الدموية الشريانية عبر شريان طرفي، والأشهر الشريان الفخذي أو الشريان الكعبري في الساعد، ووضع ما يُعرَف بغلاف القسطرة sheath وهو أشبه بكانيولا كبيرة، عبرها تُدفع القساطر الأسطوانية المُصمَّمة بشكلٍ يناسب فتحات الشرايين التاجية من الأورطى، فتُصوِّر مسار الدم داخل تلك الشرايين عبر حقن صبغة خاصة. وبذلك نكون قد أتممنا القسطرة القلبية التشخيصية.

وفي حالة أظهرت القسطرة التشخيصية وجود ضيقٍ شديد أو تجلط، ننتقل إلى القسطرة العلاجية PCI، حيث تُستبدَل القساطر التشخيصية بقساطر أوسع مجهزة للتدخل العلاجي، ويُولَج عبرها إلى داخل الشريان ما يسمى بالسلك المُرشد، وهو أنواع عديدة بخصائص ومزايا مختلفة، ويكون بمثابة قضبان السكة الحديدية، وعليه تُدخَل باقي الأدوات المهمة مثل البالونات التي توسع الشرايين، وأخيرًا الدعامة التي تُوضع في الموضع التالف من الشريان لإزالة الانسداد بشكلٍ تام، وتقليل فرص تكرار حدوث التجلط.

اقرأ: مرض العصر: قلوبٌ شابة في مرمى الموت

متى يجب إجراء قسطرة الشرايين القلبية؟

يمكن تقسيم القسطرة القلبية من حيث وجوب إجرائها إلى نوعيْن: القسطرة الطارئة، وغير الطارئة. تكون القسطرة الطارئة في حالات جلطة الشرايين الحادة، لا سيما الجلطة الكاملة التي تسد أحد الشرايين بشكل تام، ويُستدَل عليها من وصف ألم الصدر الشديد الذي يعاني منه المريض، ومن تغييرات مُعينة في رسم القلب الكهربائي، أو في الموجات الصوتية على عضلة القلب، وكذلك من ارتفاع تركيز إنزيمات القلب العاجلة.

أمّا غير الطارئة، فعندما تعجز الأدوية المكثفة تحت إشراف الطبيب عن السيطرة على أعراض ومضاعفات القصور المزمن بالشرايين، فيكون الحل الأخير هو تصوير الشرايين بالقسطرة وعلاجها بالدعامات إن أمكن. إذ قد يكون القصور بالشرايين بالغ التعقيد يصعُب علاجه بالقسطرة والدعامات، ويكون لزامًا أخذ مشورة جرّاحي القلب لإجراء جراحة تركيب الوصلات الشريانية CABG لتخطي الأجزاء التالفة في الشريان.

اقرأ: كيف تُنقذ حياة مريض بجلطةٍ في القلب؟

كيف تُجرى قسطرة الشرايين القلبية؟

تجرى قسطرة الشرايين القلبية في غرفة عمليات خاصة تُعرَف بمعمل القسطرة cath lab، ملحق بها غرفة تحكم مزودة بشاشات تنقل صورة الشرايين وتسجلها.

تضم الغرفة سريرًا يسهل تحريكه بواسطة فني القسطرة صعودًا وهبوطًا، ويمينًا ويسارًا، وأنبوبة الأشعة الدوَّارة، القادرة على الدوران في مختلف الاتجاهات، وذلك لإتاحة تصوير شرايين القلب من كافة الزوايا، لإعطاء صورة أفضل عنها.

ويقومُ بعمل القسطرة طبيبٌ واحد، يعاونه بشكلٍ مباشر طبيب آخر ومُمرض. ويرتدي هؤلاء زي العمليات المُعقَّم، والقفازات المعقمة، لمنع انتقال أي عدوى. بينما يوجد في الغرفة عدد آخر من الممرضين للمساعدة في إعطاء المريض أدوية أثناء القسطرة، أو المشاركة في الإنعاش القلبي الرئوي إن تطلَّب الأمر ذلك… إلخ.

وعلى جميع الموجودين داخل غرفة القسطرة ارتداء بزة الحماية من الإشعاع المبطنة بمادة الرصاص (وتكون حوائط غرفة القسطرة مبطنة بالرصاص أيضًا لمنع خروج الإشعاع).

ويُطلَب من المريضِ الامتناع عن الطعام- وليس الشراب لأن المياه جيدة لتلافي مشاكل الصبغة- لـ4 ساعات فحسب قبل القسطرة. والزيادة في الصيام عن هذا ليست مطلوبة وقد تضر. وكذلك يُطلَب روتينيًا قبل القسطرة تحليل وظائف الكلى، وذلك لأن الصبغة المستخدمة في القسطرة قد تُسبِّب اعتلالًا كلويًا لا سيّما إذا كان هناك مرض مزمن في الكلى. وكذلك يُطلَب تحليل صورة الدم الكاملة لاستبعاد وجود أنيميا شديدة بالدم، وتحليل الفيروسات الكبدية والإيدز.

يُعقم مكان الدخول في جسم المريض جيدًا، والذي يكون إمّا أعلى الفخذ (المنطقة الأربية) للنفاذ إلى الشريان الفخذي، أو نهاية الساعد في حالة اختيار الشريان الكعبري. ولا يُخدَّر المريض في غالبية الحالات باستثناء المخدر الموضعي في منطقة النفاذ إلى الشرايين لتقليل إحساس الألم المحلي مع ثقب إبرة الدخول للجلد.

ولا تستغرق القسطرة التشخيصية في معظم الحالات سوى ربع ساعة أو أقل، إلا إذا كان المريض يعاني من عيب خلقي في مدخل الشريان يحتاج إلى قساطر خاصة. أمّا القسطرة العلاجية، فلا قواعد زمنية لها، فقد تستغرق دقائق قليلة في الحالات السلسة، أو تصل إلى ساعات طويلة لا سيَّما في حالات السدة المزمنة المتكلسة CTO بالشرايين،بخاصة تلك التي تستدعي تقنية الملاحة العكسية.

هل قسطرة الشرايين آمنة تمامًا أم لها مضاعفات صحية خطيرة؟

لا شك أن قسطرة الشرايين التاجية قد أحدثت نقلة هائلة في مجال علاج قصور الشرايين، وعصمت الملايين من الاضطرار لإجراء جراحات تركيب الوصلات الشريانية التي تتضمن في أكثرية الحالات شق عظم الصدر، وتوصيل الجسم بالمضخة القلبية الخارجية، وتعرض المريض لمخاطر جراحية لا يُستهانُ بها. لكن رغم ذلك، فالقسطرة لا تخلو من بعض المضاعفات، وإن كان معظمها قليل أو نادر الحدوث مثل:

  • نزيف وتجمع دموي في موضع الولوج إلى الشريان، مما قد يؤدي إلى الإصابة بأنيميا حادة في حالة النزيف الشديد.
  • اختلالات في ضربات القلب أثناء العمل داخل الشرايين قد تصل في بعض الحالات إلى توقف عضلة القلب والحاجة للإنعاش القلبي الرئوي CPR.
  • تشقُّق أو انثقاب جدار الشرايين التاجية أثناء العمل داخل الشريان، لا سيّما أثناء إمرار السلك المرشد أو نفخ البالونات المُوسِّعة ونفخ الدعامات. وقد يؤدي هذا إلى تسرب الدم إلى الغشاء التاموري المحيط بالقلب، وحدوث ما يُسمى الانصباب التاموري، والذي قد يسبب هبوطًا فوريًا في الدورة الدموية نتيجة اختناق عضلة القلب بالدماء المحيطة بها، مما يستدعي سحب تلك الدماء فورًا، بالتزامن مع سد الثقب الشرياني بنوعٍ خاص من الدعامات المُصمَتة.
  • الإصابة بجلطة بالمخ.
  • الاعتلال الكلوي نتيجة الصبغة CIN، لا سيَّما في وجود عوامل الخطر لذلك مثل ضعف عضلة القلب أو القصور الكلوي المزمن أو السكر المزمن… إلخ.

اقرأ: دليلك الشامل للتعامل مع حالات الطواريء الطبية الحرجة.

وفي هذا المقام لا بد أن نؤكد مرارًا وتكرارًا ضرورة عدم التساهل في اللجوء إلى القسطرة القلبية دون وجود دواعيها الطبية الحقيقية الطارئة وغير الطارئة، وهي معروفة ومُفصَّلة في المراجع الموثوقة (الأوروبية والأمريكية والبريطانية وغيرها)، ولا ينبغي بتاتًا تعريض المريض لتكلفةٍ صحية أو مادية دون وجود فائدة مرجوة لازمة تتناسب مع هذه التكلفة. ويجب على أطباء القلب بذل المزيد من الوقت في تحليل الحالة، وشرح التفاصيل للمريض، وعرض البدائل التشخيصية والعلاجية أمامه بأمانة، ليكون القرار الطبي دائمًا في صالح المريض أولًا وأخيرًا.

اقرأ: كيف أحافظ على صحة قلبي في زمن كورونا؟

بعد القسطرة

في الحالات غير الطارئة، يمكن للمريض مغادرة المستشفى في نفس اليوم، أو اليوم التالي على الأكثر، وفي حالة الدخول من الشريان الفخذي، يُطلَب من المريض الاستلقاء لساعات وتجنب ثني الفخذ، حتى لا يتسبب في حدوث تجمع دموي تحت الجلد أو نزيف داخل من مكان النفاذ إلى الشريان.

أمّا في الحالات الطارئة التي تضمَّنت تركيب الدعامات، يوضَع المريض تحت الملاحظة ليومين في المتوسط لضمان استقرار الحالة قبل الخروج، وقد تزيد المدة حسب تطور كل حالة.

ولا يعني تركيب الدعامات في الشرايين انتفاءَ الحاجة للعلاج الدوائي، فالدعامات مكملة للدواء وليست بديلة عنه، بل يُكثَّف العلاج الدوائي مع تركيب الدعامات، إذ يوصَف مثلًا دواءيْن من مضادات الصفائح الدموية في الشهور الأولى بعد التركيب (قد تصل إلى سنة أو أقل أو أكثر حسب الظروف الخاصة لكل حالة، والتوازن بين خطريْ النزيف والتجلط).

مفاهيم خطأ

1. تسليك الشرايين

في حالة إظهار القسطرة التشخيصية غياب أي ضيقٍ جوهري يستدعي تركيب الدعامات كما يتوقع المرضى، قد يخبر بعض الأطباء المريض أنه قام بتسليك الشرايين! ولا يوجد مثل هذا في الواقع، اللهم إلا في حالات طارئة محدودة عندما يكون الشريان مُكتظًّا بالجلطات، فنستخدم قسطرة شفط الجلطات، وحقن بعض مضادات التجلط الوريدية، وقد يُؤجَّل تركيب الدعامة لوقتٍ لاحق حتى لا تسدها الجلطات على الفور.

2. الدعامات الذكية مُوصَّلة بشريحة كمبيوتر

وصف «الدعامات الذكية» هو وصف تسويقي أكثر منه علميًا. قديمًا كانت الدعامات تسمى بالمعدنية، وتبيَّن بتراكم الخبرات والدراسات أنها قابلة للانسداد وللتجلط، فخضعت لسلاسل من التطوير في المعدن المستخدم، وتصميمه وجودته، ودقة التصنيع، ورقة الألياف المعدنية، ثم كان التطور الأبرز بظهور «الدعامات الدوائية» التي تُزَوَّد أثناء التصنيع بموادٍ كيميائية تقلل فرص انسداد الدعامات.

ثم ظهرت أجيال متتابعة من الدعامات الدوائية، من أبرزها وأفضلها الدعامات الحاصلة على مواقفة هيئة الدواء الأمريكية FDA، مثل: عائلة دعامات «Xience» و«Orsiro» و«resolute». وكل نوعٍ من الدعامات له مزايا خاصة، واستخدامات يتميز فيها، ويعرف تلك الفروق طبيب القسطرة التداخلية الحاذق. والدعامات الدوائية هي التي يُسميها البعض بالذكية.

3. عدد الدعامات يتناسب طرديًا مع خطورة وتعقيد الحالة

يعتقد معظم المرضى أن تركيب دعامتيْن معناه أن الحالة أخطر من تركيب دعامةٍ واحدة، وهذا ليس صحيحًا. فقد يحتاج مريض ما إلى تركيب عدة دعامات، لكن لا يستغرق الأمر جهدًا كبيرًا من الطبيب، أو وقتًا، لأن تركيب تلك الدعامات كان بشكلٍ مباشر لا يحتاج لتحضير كبير للشريان. بينما قد يستغرق تركيب دعامة واحدة وقتًا وجهدًا وتكلفة أكبر بكثير من أجل التجهيز المُسبَق الجيد لشريانٍ متكلَّس شديد الضيق بالتوسيع البالوني المتدرج والبالونات القاطعة، أو التفتيت الدوراني… إلخ.

كذلك قد يضطر الطبيب لاستخدام عدد من الدعامات على التوالي في حالة كان الضيق يحتل جزءًا كبيرًا من طول الشريان لا يمكن تغطيته بدعامةٍ واحدة فحسب.

ونجد أن موقع الدعامة في الشريان أهم في التعبير عن تعقيد الحالة، فدعامة في الجذع الرئيسي التاجي الأيسر المغذي لأكثر من ثلاثة أرباع القلب، أو في الجزء القريب من الشريان الأيسر الأمامي النازل LAD، أو أمام نقطة تفرع شريانٍ جانبي كبير وحيوي، أكثر أهمية، وأخطر في خطوات التركيب، والمضاعفات المحتملة، من عدد من الدعامات توضع مباشرة في الجزء الوسيط أو البعيد من الشرايين التاجية.