تناولنا في القسم الأول من هذا المقال معنى التجديد والإحياء الإسلامي وطبيعته من عدَّة زوايا، كما حاولنا إلقاء الضوء على بعض المعالم الرئيسة لوظيفة المُجدِّد في التجربة الإسلامية.

وباستصحاب ما سبق، يُمكن لنا تجريد أنماط حركات الإحياء والتجديد الإسلامي في القرون الثلاثة الأخيرة. ولن يكون من قبيل المبالغة التأريخ لدعوات الإحياء في القرون الأخيرة، بما قبل وما بعد السيد جمال الدين الأفغاني. وهذا لا يطوي بالضرورة كون السيّد رحمه الله هو الإحيائي أو الداعية الوحيد الذي أيقظت أصداء صوته الغافلين من ذراري المسلمين، ولكننا نذهب إلى أن السيّد قد لعِب دورًا مركزيًا في تشكيل طبيعة ووجهة وأولويات وآليات دعوات الإحياء والتجديد الإسلامي منذ أواخر القرن التاسع عشر، حتى عُدَّ من الإنصاف اعتبار جميع من تلوه عالةً عليه وعلى فهمه.

إذ ثم نمطان يُمكن تجريدهما من المسارات التاريخية للإحياء والتجديد الإسلامي ببعض الاستقراء البصير؛ أولهما نمط التجديد الكلامي للمقولات العقديّة النظرية، والذي كان يُثمِرُ فرقًا جديدةً وإعادة صياغة لعقائد الإسلام وأحكامه بما يُناسِب عصر «المُجدِّد»، وثانيهما نمط حركي اجتماعي كان يُعيد هو اﻵخر صياغة محتوى الإسلام ولكن من خلال التحقُّق الروحي بالتزكية الفردية التي تنعكِس على الحركة الاجتماعية، فتؤدي لاتساع نطاق المكابدات الفردية لتشمل قطاعًا أعرض من المجتمع الإنساني.

من أمثلة النمط الكلامي الأول ظهور فرق الأشاعرة والمعتزلة وبعض فرق الشيعة الإمامية، أما النمط الاجتماعي الثاني فتدخُل تحته أكثر حركات العلويين والخوارِج وبعض فرق الشيعة مثل الزيدية

ومن أمثلة النمط الكلامي الأول ظهور فرق الأشاعرة والمعتزلة وبعض فرق الشيعة الإمامية (قبل نظرية ولاية الفقيه)، أما النمط الاجتماعي الثاني فتدخُل تحته أكثر حركات العلويين والخوارِج وبعض فرق الشيعة مثل الزيدية. وذلك بالإضافة إلى نمطٍ ثالثٍ هجين يجمع بين النمطين بنسبٍ مختلفة، كما نجِد عند بعض أهل الحديث الأول وعند أئمة الفقه السُني الأربعة وبعض أفذاذ المتصوِّفة.

وعِندنا أن الفارِق الأهم بين النمطين هو كون الأول نمطٌ كلامي طفيليٌ يُعلِّق مشروعه التجديدي -إن جازت التسمية- في رقبة سُلطةٍ قائمة تُمكِّنُ له وتفرضه على الأمة من أعلى، بينما يولِّد النمط الثاني سُلطته السياسية الخاصة من خلال التفاعُل الاجتماعي حين يستِقر معرفيًا من خلال المكابدات الفردية التي تُعيد صياغة قواعِد الاجتماع الإنساني. وبعبارةٍ أخرى، فإن النمط الأول بنية فوقية يُمكن أن تتبناها أية سلطة/بنية تحتية تجِدها موافقة لهواها وملبية لمصالِحها (وهو النمط الأقرب لطريقة تشكُّل الأيديولوجيات الحداثية وتوظيفها)، بينما النمط الثاني بنية تحتية/حركة اجتماعية بالأساس تنطلِق من إبستمولوجيا «جديدة» تُسهِم بعد ذلك في بلورة مقولاتها التأويلية/التاريخية وتشكيل بنيتها الفوقية الخاصة من خلال جدلية الحركة والنظر (وهو النمط الأقرب لمثال تحقُّق الإسلام في أهل الصدر الأول).

أما الفارِق الثاني بين النمطين فهو أن النمط الأول تجسيدٌ نظري/لاهوتي للانهمام بفكرة الخلاص الفردي، رغم أن المقولات النظرية لا تُحقِّقُ خلاصًا فرديًا على الحقيقة وإن كانت توهِمُ بذلك؛ في حين نجِدُ النمط الثاني لا يقِف عند حد الخلاص الفردي والنقاء النظري الموهوم فحسب، بل يكادُ يشترِط (من خلال حركته) تعدي ذلك الخلاص إلى الإنسانية جمعاء. ولعل ثِقَل وتعقيد الطنطنات النظرية والسفسطات الكلامية للنمط الأول هو ما جعل من مقولاته «عقلنة» للتديُّن وترشيدًا له ولممارساته، ومن ثم تجفيفًا لروحه وتهميشًا لأية أبعادٍ «دينية» لا يُمكن قياسها منطقيًا؛ في حين يُسهِمُ الارتباط الجدلي شبه الدائم بين الحركة الاجتماعية والنظر في النمط الثاني، مع تعلُّق البصر بوجهة الحركة (وجه الله)؛ في اضطرام حرارة الجانب العرفاني في ذلك النمط، وهي الحرارة الصوفية التي تكاد تكون جزءًا لا يتجزأ منه، لتُعتبر ثالث الفروق بين النمطين. وتجدر بنا الإشارة إلى أن هذه التفرقة بإشارتها إلى مذاهب إسلامية بعينها إنما تستقرئ النمط الذي تبلور بنشأة تلك الفرق والذي قد لا ينسحِب بالضرورة على سائر تاريخها، خصوصًا مراحله المتأخرة؛ وإن كان يصلُح لقراءة أكثر هذا التاريخ وتُعزيز فهمه.

وانطلاقًا من هذه التفرِقة؛ فإننا نرى أن حركات الإحياء والتجديد الإسلامي في القرون الثلاثة الأخيرة تدخل جميعها تحت هذين النمطين مع استثناءات هامشية ولحظات نماذجية لا تُلغي القاعدة التي نحاوِل تجريدها. بل نرى أنه باستثناء الحركة الوهابية التي كانت فذة في تبنيها للنمط الأول آنذاك، فإن سائر الحركات التي تلتها كانت تنتمي إلى النمط الثاني بغير استثناء، وذلك حتى صعود نجم السيد جمال الدين الأفغاني، والذي يُمكن التأريخ بحركته على استقرار النمط الأول في روع المسلمين المحدَثين مع نهاية القرن التاسع عشر، إذ صارت كل الحركات بعده فردية نخبوية تنتمي للنمط الكلامي الأول، وإن كانت ذات بنية تنظيمية هرمية مُغلقة توهِمُ بالاضطلاع بدور اجتماعي.

يُمكن لنا القول إن حركات ما بعد الأفغاني هي حركات حداثية بصورةٍ ما، تحمِل الجذور المعرفية للنمط «التراثي» الأول وتستصحِبُ «حُجيته»، والتي سهَّلت مهمة دمجها في البنى الحداثية للدولة ما بعد الكولونيالية

وبعبارةٍ أخرى، يُمكن لنا القول إن حركات ما بعد الأفغاني هي حركات حداثية بصورةٍ ما، تحمِل الجذور المعرفية للنمط «التراثي» الأول وتستصحِبُ «حُجيته»، والتي سهَّلت مهمة دمجها في البنى الحداثية للدولة ما بعد الكولونيالية، في حين أن جمهرة الحركات التجديدية قبل الأفغاني -عدا الحركة الوهابية- هي حركات اجتماعية «تقليدية» (السنوسي في ليبيا، والمهدي في السودان، وعبد القادر في الجزائر، وعثمان بن فودي في غرب إفريقيا، وأحمد بن عرفان الشهيد في الهند، وشامل في القوقاز… إلخ) تنتمي للنمط الثاني في اطراد كاملٍ مع تقليدٍ حركي إسلامي يُضعِفُ مفعول المؤثرات الحداثية/الشركية، والتي كان تغلغلها واضحًا وكاملًا في الحركات التي تنتمي للنمط الأول (الإخوان المسلمين في الدول العربية، جماعة المودودي الإسلامية في شبه القارة الهندية، وسائر الأحزاب والتنظيمات الإسلامية التي نشأت على هامشهما أو كرد فعل عليهما؛ خصوصًا التجمُّعات السلفية).[1]

ولعل الاستثناءين الوحيدين في القرن العشرين من النمط الثاني هما محاولة سيد قطب الصوفية التي لم تكتمِل بحركةٍ اجتماعيةٍ بسبب محاصرتها مبكرًا، ناهيك عن طبيعة البيئة «الحداثية» التي كانت حاضنتها منذ البدء؛ والثورة الإسلامية في إيران التي نجحت في قبس الطاقة الروحية للإمام الخميني وتلاميذه المقربين، وبثها في الطليعة المؤمنة للحركة الاجتماعية والتي كانت تتحرَّك في عُزلةٍ شعورية شبه كامِلة عن البيئة الحداثية التي فرض بهلوي مظاهرها على إيران. وفي حين توقَّفت حركة قطب بعد إقراره في غير موضعٍ بضرورة كسر القفص التنظيمي المغلق لإطلاق سراح الدعوة لتسري في الاجتماع، فإن الثورة الإسلامية في إيران قد تطوَّرت ببطء من مقولاتٍ تجديدية وتأويلات أصولية يتمثَّلها صاحبها بتزكية نفسه (وهي المرحلة التي استشهد عندها قطب) إلى حركة اجتماعية يتعدَّى بها أثر مقولات المجدِّد واجتهاداته إلى غيره في حراك اجتماعي لا يعوق انسياحه أي انغلاق تنظيمي (بغض النظر عن المآل الدولتي لهذه الحركة).[2]

وصحيح أن هذين الاستثناءين يُثبتان الفعالية المذهِلة وشبه المطلقة للنمط الثاني من حركات الإحياء، في مواجهة التقيُّد الأيديولوجي للنمط الأول؛ سواء من خلال الطاقة الروحية التي بثَّها آية الله الخميني في تلاميذه ونضحت بها اللحظة الثورية النماذجية، أو من خلال الطاقة الروحية التي ما زالت كتابات سيد قُطب تتفجَّر بها في روع كل قارئ مكابِد لتُعيد تشكيل حركته؛ فإن مآل النمطين، مثلهما مثل كل أنماط المعرفة الإنسانية؛ إلى الانغلاق الحتمي، وهو ما حدث في إيران حين بدأ العدوان العراقي، وحدث في حالة قطب حين انتقل لرحاب مولاه وسُجنت آفاق نصوصه في جيل كأنه قُدَّ من التفريط والإفراط.


لقد اطردت الهيمنة المعرفية للنمط الأول طوال القرن العشرين، وأدت إلى بروز أكبر تحديات «الإحياء» أو «التجديد» الإسلامي المعاصِرة على الإطلاق؛ تحديات حداثية كان مصدرها الانغلاق الأيديولوجي على المقولات النظرية ومحاولة أسلمة مظاهر الشرك، وهي إثنينية صلبة تنحلٌّ آخر الأمر إلى واحدية مادية: سواء بدأت بالغرق في بناء طوبيا نظرية تفصيلية متوهَّمة عن الكون والإنسان، ومن ثم الانشغال بشكل «الحضارة» المبتغاة وكيفية أسلمة «التحديث» ومحاولة تنزيل الأوهام النظرية (والعلمية) اعتسافًا على الواقع؛ أو الولوغ الكامل في وحل الواقع اليومي سياسيًا واقتصاديًا حتى يُعيد ذلك الواقع المتردي تشكيل الرؤى والتصورات، ويصبح بذاته معيارًا للقيم.

إن ثمة فارق ضخم بين الشيخ مصطفى صبري مُتكلمًا يدور تأصيلًا مع ما يحسبه سلطة للإسلام تُنصب من أعلى هرم الملك الذي لا يجد في تراتبيته غضاضة، وبين الأستاذ النورسي صوفيًا يُدرك كيف تتولَّد سُلطة الإسلام من داخل المجتمع المسلم نفسه وليس من أسرة حاكمة أو من أحد طواغيتها. وقد فرَّ شيخ الإسلام مصطفى صبري حين أزيحت بنية وهرمية السلطة التي ألفها، مؤثرًا خلاصه الفردي؛ ليُنفِق ما بقي من عمره يكتب ما لن يُقرأ من السفسطات الكلامية الأيديولوجية. أما الشاب بديع الزمان النورسي فقد آثر البقاء والتعرُّض للسجن، والعمل على حفظ سُلطة الإسلام في النفوس؛ فحفظ بعض قواعد الاجتماع الإسلامي رغم شدة عداء السلطة الجديدة. إنهما نموذجان في الإصلاح تواترا طول تاريخنا؛ رص المقولات الجدلية أو إصلاح القلوب الإنسانية، وما أيسر الأولى إذ يضطلع بها كل مُتكلِّمٍ يُتقن الجدل، وما أشق الثانية إذ لا يُقبِل عليها إلا العلماء الذين هم ورثة الأنبياء.


[1]– راجع مقالاتنا على هذا الموقع، والمعنونة: «الإخوان المسلمون؛ جماعة أم جماعات»، و«السلفية وعلمنة التديُّن».[2]– للمزيد عن مآل الحركات الاجتماعية وكيفية تطورها؛ راجع مقالاتنا التالية على هذا الموقع (بنفس الترتيب): «بين النظام والثورة»، «صعود الدولة ونهاية الدعوة»، و«لماذا تُهزم الدول وتنتصر الحركات».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.