غضب

(وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ) (الأنبياء:87) لم يخبرنا القرآن كم لبث يونس يدعو قومه حتى يأس منهم وتركهم، ولكنه لا يليق بنبي له عزم أن ييأس من قومه بعد يوم أو يومين أو حتى بعد عام أو عامين، أظن أنه ظل يدعوهم فترة تليق بعزم نبي من الأنبياء، ولكنه في نهاية الأمر يأس وغضب وذهب، ولكن من أين له بهذا الغضب، ينشأ الغضب من فشل التواصل بين البشر، فالمتكلم لا يستطيع أن يوصِّل المعنى المراد إلى المستمع إما لخلل في الرسالة أو لخلل عند المستمع، فيفعل المستمع بعكس مراد المتكلم ويخلف توقعاته.

غضب يونس لأن رسالته لم تجد صداها المرجو عند قومه، وتعالى اللَّه أن يكون لخلل في الرسالة، ولكنه غضب لأنه توقع أن يؤمن الناس به وبرسالته، وما كان له أن يتوقع مثل هذا الأمر فما هو إلا رسول وما عليه إلا البلاغ أما التصديق فهو من أمر الله، هكذا غضب يونس على قومه وكأنه هو صاحب الرسالة لا مُبلِّغها، وكأنه توقع أن يؤمن الناس به كما يجب أن يؤمنوا برسالته.

عبدٌ آبق

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (الصافات:139،140) هكذا وصف القرآن الكريم فِعْل يونس بالإباق، فيونس هو عبدٌ لله وعلاقة العبدية تقتضي انتظار الأمر من السَّيد، فرحيل النبي عن قريته هو إيذان من الله بوقوع اللعنة والهلاك عليها بعدما كذَّب أهلها النبي وأمره الله بالخروج، أما رحيل يونس فكان دون أمر من الله وكأنه توقع الهلاك لقومه بعدما كذَّبوه وكأنه نسيان منه أن طبيعة علاقته بربه علاقة عبدية؛ علاقة استسلام وصبر لحكم الله(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ) (القلم:48).

ظلمات بعضها فوق بعض

(فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ* فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) (الصافات:141،142) ركب يونس الفلك المشحون راحلاً عن قومه دون وجهة محددة، فإذا بأحمال السفينة تثقلها فتكاد أن تغرق في موج البحر المتلاطم وظلماته، فاسْتَهَمَ القوم على من يقفز من السفينة لعل البقية تنجو، فوقعت القرعة على يونس فقفز إلى البحر فالتقمه الحوت، وبطن الحوت لو تصورنا أنفسنا فيه مكان ضاغط خانق مظلم ، داخل كائن يسبح في عمق بحر مظلم، مضغوط بجسم الحوت ومعمي بالظلام المركَّب فلا يدري أفي نهار هو أم في ليل، ينتقل دون إرادة منه في المجهول فلا يعلم عمقه ولا مكانه، يقضي وقته في اللازمان ويتحرك في اللامكان (فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (الأنبياء : 87)، فكانت رحلته هذه في ظلام اللامكان واللازمان، وحواسه جميعها تكاد تكون معطلة، بمثابه تنبيهه إلى النور الحق وإلى مكان دعوته الحق، فكان الظلام إيذاناً بتغيير منظوره الخاطئ القديم إلى مهمته الحقة التي كلفه الله بها فما رعاها حق رعايتها إلى أن أُدخِل في بطن الحوت، لم ينتبه إذن لما كان به من سعة في دنياه إلا في ضيق بطن الحوت، وأن صدره هو الذي ضاق بقومه فتركهم.

في بطن الحوت

(فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (الصافات: 143،144) أتساءل لم اختار الله يوم البعث كموعد لخروج يونس من بطن الحوت لو أنه لم يكن من المسبحين، ولم تكن فترة بقاءه هي فترة حياة جسده البشري في بطن الحوت؟، هل كان المقصد من الخروج من بطن الحوت أصلاً الخروج الجسدي أم الخروج المعنوي الفكري؟ تلك الفكرة التي لم تخرج إلا بدخول يونس إلى بطن الحوت، وتلك الرسالة التي لم تكتمل إلا بالمكوث في الظلمات؟ وكأنه لو لم يكن من المسبحين لبقي ذكره ولطمست رسالته في بطن الحوت إلى يوم القيامة لا يعلم بهم أحد!

شجرة من يقطين

(فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ) (الصافات: 145،146)، هكذا يخرجه الله من بطن الحوت إلى الساحل بعد أن يتذكر مهمته ورسالته، بعد أن يتذكَّر عبوديته لله عز وجل، فيخرج وقد تآكل جلده وشعره من حاله في بطن الحوت، فينبت الله عليه شجرة من نبات زاحف تغطي جسده السقيم العاري وتقيه ضياء الشمس حتى يستعيد عافيته، فهكذا تتداركه رحمة الله فيبقى مستلقياً تحت هذه الشجرة زمناً حتى يعيد جسده بناء نفسه، كما يعيد عقله بناء أفكاره بعد تلك الصدمة التي ألمَّت به، فيعود إلى قومه ويستكمل رسالته، فكما أن جسده السقيم احتاج إلى وقت كي يتعافى ويواجه ضياء الشمس، فإن روحه أيضاً كانت في حاجة إلى مثل ذلك الوقت كي تتعافي وتتحمل مسؤوليتها تجاه الحق مرة أخرى.

إني كنت من الظالمين

التسبيح في اللغة هو التنزيه وهو أيضاً يعني السرعة والخفة في الطاعة، ويعني الصلاة أيضاً، وعبادة التسبيح هي العبادة الوحيدة التي يؤديها جميع الخلائق من الحيوانات والنبات والجماد، ومن البشر مؤمنهم وكافرهم، فتلك العبادة لا يؤديها اللسان فقط بالذكر ولكن تؤديها الجوارح بالعمل وفق ما أراد لها الله، وتؤديها الجمادات بالسير وفق السنن التي سنَّها الله لها (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ۚ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ) (الاسراء :44).

ومثله ما جاء في قصة أصحاب الجنة الذين منعوا إخراج صدقة حصاد جنتهم كما كان يفعل أباهم فعاقبهم الله بهلاك جنتهم، فلما رأوها وقد هلكت ذكرهم أوسطهم بظلمهم فقال: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ*قالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ)، فالتسبيح عموما هو السير والحركة وفق مقتضى مراد الله في الخلائق، لذا يختلف التسبيح ويتنوع بين البشر مؤمنهم وكافرهم، وبين الجمادات وفق السنن التي وضعها الله فيها، وحينما ترك يونس مهمته وعزَّت عليه نفسه فغضب وهجر قومه فقد كفَّ عن تسبيحه الذي تعبده الله به ووضعه فيه، وحينما ابتلاه الله بظلمة الحوت تذكر تسبيحه لله وتذكر ظلمه لنفسه بهجره لواجبه الذي استرعاه الله فيه، فيقدم يونس في دعائه التسبيح دليلاً على تذكره المهمة ثم يتبعه بالاعتراف بظلمه لنفسه ولقومه بغضبه منهم وهجره لهم في دعائه في الظلمات ( أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (الأنبياء:87).

فما بالنا نحن ويونس نبيه اصطفاه الله على العالمين في زمنه وليس بيننا أحد مصطفى، وما بالنا نحن ويونس كان من المسبحين وليس فينا من أحد يُسبِّح تسبيح يونس، وما بالنا نحن أن ندرك أننا في ظلمات بطن حوت ليس كحوت يونس وليس فينا من لديه بصيرة نبي، بل ونُصِرُّ على ما في أنفسنا فنبقى وتبقى تصوراتنا حبيسة ظلمات بطن الحوت إلى يوم يبعثون، ثم ننبذ بعد ذلك مذمومين، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لولا أن نكون من المسبحين!