ما بين مشهدٍ لغرقى سواء أطفال أو نساء يتناثرون على الشواطئ التركية واليونانية يعبّرون عن حلم وأمل في حياة أفضل في رحاب القارة العجوز، ومشهد آخر لاعتداءات وتجاوزات وأسلاك شائكة وحراس حدود يمنعون المتبقي منهم على قيد الحياة الأمل والطموح لدخول تلك البلاد، نجد العديد من قضايا العنف بين اللاجئين المختلفين في مراكز اللاجئين في ألمانيا وغيرها من البلدان الأوروبية أو نقل للخبرة المحملة بالكثير من التناقضات إلى المجتمع الأوروبي وآخرها حالة الاعتداء الجماعي على السيدات في كولن بألمانيا ومقاطعات أخرى.

بالإضافة لذلك نجد تهديد تلك الموجة من اللاجئين أعمال السكان الأصليين وتهديدهم الاقتصادي لقابليتهم القيام بأدنى الأعمال دون مقابل موازٍ للسكان الأصليين، بالإضافة لحصولهم على أموال للرعاية كدعم للبطالة وغيره مما يراه السكان الأصليون اقتطاعًا مُجحفًا من ضرائبهم لأعمال بذلوا فيها جل أوقاتهم لأناس لا يقدّرونها، ثم قائمة الأعمال الإرهابية الأخيرة في باريس وبروكسل التي قامت بها «داعش» فرسّخت صورة الإسلام المتطرف الذي أفسح المجال لداعمي اليمين المتطرف للفظ المهاجرين خارج أوروبا لنشأتهم وسط بيئةٍ عدائية تختلف مع القيم الأوروبية.

يقع الاتحاد ومؤسساته في معضلة، بين خوف مواطنيه على مستقبل اقتصادهم وأمنهم ومبادئ إنسانية نشأ الاتحاد نفسه على أساسٍ منها.

تقع المؤسسات الأوروبية ودول الاتحاد ما بين معضلة كبرى؛ فمن جانب تريد الحفاظ على المبادئ الإنسانية التي تم تأسيس الاتحاد عليها ومنها دعم حقوق اللاجئين وحمايتهم، بالإضافة إلى أن هؤلاء الأفراد يمثلون تدفقًا للقوى العاملة التي تريدها لتغطية العجز في عدد السكان وارتفاع أعمارهم بالنسبة للمطلوب في أسواق العمل، وعلى الجانب الآخر الاتجاه نحو المزيد من الأمننة وإغلاق الحدود وإعادة النظر فى سياسات اللجوء والهجرة؛ للحد من تدفق المهاجرين والتحقق من خلفياتهم الفكرية وغيره لحماية سيادة دول الاتحاد وحماية حريات أفرادها داخل الاتحاد .


اللاجئون: مصدر جديد للخلاف الأوروبي

قبيل العام 2015 كان التعامل الأوروبي مع الهجرة وتدفق اللاجئين يتبلور حول أربعة محاور أقرّها المجلس الأوروبي في 2012، لتدعيم الهجرة الشرعية المنتقاة التي تجذب الأيادي العاملة الماهرة، وتحجيم الهجرة غير الشرعية، وهي خلق مرونة في نظام اللجوء وتفعيل وتقوية الوكالة الأوروبية لمراقبة الحدود «فرونتكس» لتقوم بأعمال أكبر في مراقبة الحدود، وكذلك تعظيم عائد الهجرة الشرعية بمنح المهاجرين فرص عمل جيدة وتسهيلات معيشية بشكلٍ أكبر، وأخيرًا تسهيل الهجرة الشرعية والتنقلات للعمال داخل الاتحاد بشكل أكبر .

مابين سياسة انتقاء المهاجرين التي كانت متَّبعة وموجة اللجوء الأخيرة، يقع الاتحاد في أزمة مباغتة تستعمل في صراعٍ سياسي داخلي بين اليمين واليسار الأوروبي؛ تجعل من سياسة توزيع اللاجئين أمرًا متعثّرًا.

إلا أنه بعد تزايد موجة الهجرة بعد ثورات الربيع العربي المتعثرة من سوريا وصراعاته، بدأت الخلافات بين دول الاتحاد: الدول على خط المواجهة؛ كإيطاليا، واليونان، وقبرص، ومالطا، وإسبانيا، التي طالبت باقي الدول بتحمل عبء استقبال اللاجئين وتوزيعهم على بعضهم، وبين الدول الأبعد جغرافيًّا عن نطاق الهجرة كبريطانيا وفرنسا التي أعلنت عن تقديمها للمساعدات وعدم قبولها التوزيع، فبدأ التذمر من الجانبين، فعلى سبيل المثال المعاملة القاسية والترحيل والاعتقال للمهاجرين غير الشرعيين في إيطاليا مع منحهم تأشيرة شينغن للتنقل بين دول الاتحاد التي على إثرها رفضت فرنسا استقبال إلا ذوي الجوازات السليمة، وصرح الجانب الإيطالي أنه لن يتحول إلى سجن لللاجئين السياسيين، ولوّح بالخروج من الاتحاد الأوروبي وهو نفس موقف دول المواجهة.


اللاجئون داخل دائرة العنف

تشير الوكالة الأوروبية لإدارة التعاون العملياتي في الحدود الخارجية للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي «فرونتكس» في بيان «أن العدد الإجمالي للمهاجرين الذين عبروا الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي في الأشهر التسعة الأولى من سنة 2015 تجاوز 710 آلاف، وكانت الجزر اليونانية في بحر ايجه الأكثر تضررًا بفعل ضغط هجرة كثيف، والعدد تزايد وما زال يتزايد كل يوم عن اليوم الذي يسبقه في ظاهرة لجوءٍ لم تشهدها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.

فلقد تضاعفت أعداد اللاجئين الذين يسعون لحياة أفضل، والذين أتوا هربًا من نظم سلطوية كما في سوريا والعراق، أو هربًا من تنظيمات كتنظيم داعش، الذي ظل يلاحقهم حتى بعد أن هربوا منه عن طريق التفجيرات الفرنسية الأخيرة التي سميت ب ( 11\9 فرنسا)، والتي أدت لمقتل 180 على الأقل وفق النائب العام في باريس، وفقًا لآخر الإحصاءات.

في المقابل فقد رفعت حالة الطوارئ في فرنسا، وتم وقف استقبال الأفراد غير المسجلين بالاتحاد الأوروبي، وإعلان الحداد العام لمدة ثلاثة أيام، وأعلن هولاند، الرئيس الفرنسي، مسئولية داعش عن سلسلة التفجيرات الأخيرة على إثر فيديو تهديدي من قبل داعش عن عاقبة التدخلات الفرنسية في سوريا قبل تلك الأحداث ومد حالة الطوارئ لثلاثة أشهر على إثر تلك التفجيرات، والتي اشتد على إثرها التأييد لأحزاب اليمين المتطرف التي تنشر المخاوف من الأجانب والإسلام والإرهاب في فرنسا، والنمسا، والدانمارك، والسويد، وهولندا.

كما استغل المعارضون، لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، الأزمة لدعم المطالبة بالتصويت للانسحاب منه في استفتاء من المقرر إجراؤه منتصف 2016، بالإضافة لتصاعد حوادث الكراهية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، والتي تضاعفت على مدار العام الماضي أكثر من مرة، بنسبة زيادة 300% بعد أحداث باريس. فخلال عام 2015، لوحظت زيادة كبيرة في الهجمات ضد العرب والمسلمين، حيث تم تسجيل 230 اعتداءً بين قتل وحرق وضرب وطرد، وأصبح مشهد حرق المصاحف والجوامع مشهدًا متكرّرًا في العديد من الشوارع والمناطق الفرنسية.

أما في بريطانيا فقد تزايد معدل حوادث الكراهية والاعتداء على المسلمين أربعة أضعاف، واعتبر عام 2015 الأسوء على المسلمين في المملكة المتحدة، بالإضافة إلى أن حركة «بيغديا» في ألمانيا قامت باحتجاجات واسعة ضد الإسلام والمهاجرين، حيث شارك نحو 100 ألف شخص في تظاهرات كارهة للإسلام والمهاجرين، وحشدت الحركة نحو 25 ألف متظاهر في شوارع دريسدن وحدها، وآلاف آخرون شاركوا في تظاهرة مماثلة في كولون. وتخلل تظاهرة دريسدن مقتل مهاجر إرتيري، وهو أحد 20 مهاجراً من طالبي اللجوء يقطنون في نزل بالمدينة. وكانت حركة «بيديغا»، وهي اختصار لشعار «أوروبيون وطنيون مناهضون لأسلمة الغرب»، بدأت أولى مظاهراتها في منتصف أكتوبر 2015 في مدينة دريسدن على وجه التحديد، وبمشاركة 200 شخص فقط، وتلعب الآن دورًا كبيرًا جدًّا في زيادة جرائم كراهية الإسلام في أوروبا كلها وليست ألمانيا فقط.

تضغط أزمة اللجوء بشدة على دول شرق وجنوب المتوسط التي تعاني من أزمات اقتصادية وتباطؤ شديد في النمو؛ ما يزيد من حوادث العنف والكراهية في هذه البلدان.

أيضا فإن أزمة اللجوء وعملية ربطها بتصاعد الإرهاب فتحت الباب لتباين وجهات النظر بين مؤسسات الاتحاد الأوروبي إذ تعتبرها المفوضية الأوروبية – تحت رئاسة جان كلود يونكر – تحديًا إنسانيًا على المدى البعيد لدمج اللاجئين في المجتمع الأوروبي. وعلى النقيض فإن رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك، رئيس وزراء بولندا السابق الذي يرأس القمم الأوروبية، يصف موجة المهاجرين بأنها تهديد يجب القضاء عليه أو احتواؤه لا سيما من خلال دفع أموال لتركيا لإبقاء اللاجئين السوريين على أراضيها.

لذا فإن الوضع الحالي للاجئين يقع بين دائرة من العنف والهروب منه للعنف المضاد في مجتمعات أمامها الكثير لتبذله لدمج هؤلاء اللاجئين في النسيج الأوروبى لتأهيلهم لتقبل قيمهم وتجاوزهم لانتماءاتهم العرقية والدينية الضيقة على الجانبين الأوروبي وجانب اللاجئين.


في البدء كانت السياسة

اعتمد الاتحاد الأوروبي على مجموعة من الآليات للتعامل مع أزمة اللجوء وتنامي الإرهاب والعنف وتتم تلك المواجهة على عدة جوانب، فإلى جانب سياسة الحصص لتوزيع اللاجئين على دول الاتحاد، تسعى المفوضية الأوروبية لتمويل بلدان أوروبا الأمامية، إيطاليا واليونان، لاستقبال اللاجئين في المرحلة الأولى، وإنشاء نظام لفرزهم وتوزيعهم منها إلى بلدان الداخل الأوروبي، ومعالجة (العيوب) في قوانين الهجرة المعمول بها حالياً.

بدأ ذلك في اليونان التي تعتمد على تمويل الاتحاد الأوروبى بشكل كبير لإدارة الهجرة والسيطرة على الحدود وتسيير نظام اللجوء فيها من خلال صندوق اللجوء والهجرة والاندماج الذي تم إنشاؤه في 2014، والمقرر أن يحصل على ما يقرب من نصف مليار دولار من الاتحاد الأوروبي من عام 2014 إلى عام 2020 من الاتحاد الأوروبي، بالإضافة للاتفاق على أن تستقبل الدول الأعضاء في الاتحاد 40 ألفًا من طالبي اللجوء من إيطاليا واليونان في الوقت الحالي.

وثانيًا، بدأ الاتفاق مع الدول المجاورة لسوريا، أولهم تركيا، عن طريق الاتفاق الذي أبرمته تركيا مع الاتحاد على حصولها على 3 مليار يورو مقابل تحسينها لوضع اللاجئين داخل البلاد، إلى جانب استئناف المحادثات بشأن عضويتها في الاتحاد الأوروبي، وإعفاء الأتراك من التأشيرة لدخول الاتحاد بدءًا من أكتوبر 2016، إلا أن المفوضية الأوروبية تعتبر ذلك الاتفاق مهمًّا وخطوة كبرى للسيطرة على تدفق اللاجئين؛ ولكن في الوقت ذاته تعبر عن عدم رضائها عن الجانب التركي وتطالبه بالمزيد من ضبط الحدود لتقليل أعداد اللاجئين وفقًا للاتفاق.

http://gty.im/482151973


الأمن يتغلب على السياسة

يسعى الاتحاد الأوروبي لتجفيف منابع الهجرة غير الشرعية من غير الدول المنكوبة بسبب الحرب والاضطهاد، فأطلق الاتحاد الأوروبي صندوقًا لأفريقيا برأسمال قدره 1.8 مليار يورو لمواجهة أزمة الهجرة ومساعدة الدول الأفريقية على مراقبة أفضل لحدودها ووقف التدفق الواسع للمهاجرين نحو أوروبا.

يستهدف الاتحاد الأوروبي من خلال تلك السياسة زيادة الإجراءات الأمنية والعسكرية كحل لمواجهة تدفق الهجرة وتفشي الإرهاب عن طريق القيام بعدة إجراءات:

أولها: اقتراح المفوضية الأوروبية مراقبة الحدود الأوروبية و السيطرة عليها بشكل كامل بواسطة إنشاء قوة لحرس الحدود توزع على حدود منطقة شنغن لحراسة الحدود البرية و البحرية الأوروبية و للحفاظ على مكتسب حرية التنقل داخل منطقة شنغن. هذا المشروع سيمنح صلاحيات التدخل لضبط الحدود الأوروبية الخارجية البرية والبحرية بالتنسيق مع السلطات الأمنية للدول الأعضاء، وكذلك دعم فرونتكس وزيادة تمويلها وإعداد أفرادها كحل آني للسيطرة على الحدود لحين إنشاء تلك القوات.

ثانيا: الحصول على موافقة الأمم المتحدة أنه يحق للسفن الحربية التابعة للاتحاد الأوروبي الترصد في المياه القريبة من السواحل الليبية للمراكب التي يستخدمها مهربو المهاجرين خارج الأُطر القانونية إلى أوروبا واستخدام القوة ضدها والاستيلاءَ عليها وتدميرها، وهذا ما أقرته الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.

ثالثا: تم الموافقة بداخل لجنة الحريات المدنية في البرلمان الأوروبي على مبدأ العمل بسجل البيانات الشخصية للمسافرين، والذي يقر بأن أي تحرك و تنقل للمسافرين جوًّا من وإلى و عبر دول الاتحاد الأوروبي سيصبح قريبًا مدونًا في سجل يوضع بتصرف الشرطة.

في التحليل الأخيرنجد أن الاتحاد الأوروبي يسعى لوضع سياسة للتعامل مع ما قبل موجة تدفق اللاجئين وهو السيطرة على تدفق الهجرة غير الشرعية بالإضافة لانتقاء المهاجرين والتدقيق في عملية فرزهم لتعظيم منافعه بشكل أكبر، فنجد أن الاتجاه يتبلور حول تصدير الأزمة بالأساس وليس السعي للاندماج والتعايش معها.

يأتي هذا في ظل خلافات عميقة قد تهدد سلامة الوحدة الأوروبية ما بين دول ترفض التحكم في سيادة حدودها الوطنية أو الالتزام بنظام الحصص الخاص بتوزيع المهاجرين، ودول أخرى تسعى لفرض المنظور الأمني في التعامل مع أزمة اللجوء وتربطها بالإرهاب متناسية الموجة العكسية من المقاتلين الأوروبيين في صفوف التنظيمات المسلحة الراديكالية في الشرق الأوسط، كلها عوامل تفرض تغييرًا شاملاً في السياسة الخارجية الأوروبية، وتعزيزًا أكثر لعمليات التغيير السلمي والتنمية الاقتصادية في المناطق المصدرة لأزمة اللجوء.