ما زلت عاجزًا عن إخراج ذلك المشهد من رأسي، مهما فعلت ومهما مرّ الوقت، يظل ذلك المشهد من مسلسل The Sopranos عالقاً في ذهني، بخاصة آخر جملة تفوّه بها البطل.

في بداية المشهد يجلس زعيم المافيا الإيطالية «توني سوبرانو» أمام طبيبته النفسية الدكتور «ميلفي». يمكننا أن نلاحظ بسهولة أن شيئاً ما يؤرقه، شيئاً ما يأكله، شيئاً ما يمنعه من النوم ليلاً.

يستهل كلامه مع الدكتورة ميلفي بأنه يشعر بالملل ولا يريد أن يأتي لحضور الجلسات النفسية مرة أخرى لأن العلاج النفسي مجرد مضيعة للوقت. تُنصت له الدكتورة ميلفي في صمت، هي الأخرى تعلم أن ما يقوله ما هو إلا تشتيت لنفسه عن حقيقة شعوره.

أنت وأنا ودكتور ميلفي نعلم أن زعيم المافيا الإيطالية لم يقل ما في جعبته بعد.

يتحرك باضطراب في كرسيه. ينظر حوله في قلق. يفرك يديه بعصبية، محاولاً إخفاء توتره. يحكي عن الفيلم الذي شاهده بالأمس، بطله براد بيته وبطلته شقراء، فيلم Seven. شاهده حتى وصل قرب النهاية ثم شعر أنه يضيع وقته ليس إلا. لماذا يكترث منْ هو القاتل ومنْ قتل؟ ما الفارق التي ستحدثه مثل هذه المعلومة في حياته؟ الأفلام مضيعة للوقت ومُشتِّتة للذهن، مجرد هراء ليس أكثر.

في أقل من دقيقتين، يذكر –للمرة الثانية- مسألة تضييع الوقت وتشتيت النفس. أنا وأنت نعلم أنها ليست صدفة.

يطفح به الكيل، يتأفف، سيقولها وليحدث ما يحدث، سيطلقها كالطلقة لتعكس شعوره وشعور الكثير تجاه الحياة بأسرها.

 يتساءل توني سوبرانو مثل أي شخص عاقل يحمل في رأسه قدرًا من الذكاء:

تذهب لإيطاليا، ترفع بعض الاثقال، تشاهد فيلمًا، كلها سلسلة من المشتتات حتى تموت… ما الغرض؟

الحياة كسلسلة من المشتتات

ماذا عن العلاقات العاطفية؟

كل ما تفعله هو أنك تحاول الجمع بين شخصين غريبين عن بعضهما تماماً، تجعلهما يتعرّفان على بعضهما البعض، يعرف كلُ منهما أسرار الآخر، يقتربان بشكل حميمي حتى يصيرا شخصاً واحداً بعد أن كانا غرباء.

ثم ماذا بعد؟

كل هذا ليعودا غريبين من جديد وكأن شيئاً لم يكن!

هل انتهى الأمر عند هذا الحد؟

بالطبع لا. تتفنن في تكرار الأمر مرة بعد مرة، وكلما فشلت، يتحول الحبيبان إلى غريبين، يبحث كل منهما عن غريبين آخرين ليتحولا من بعدها لحبيبين ثم غريبين مرة أخرى. وهكذا وهكذا يستمر الهراء حتى يجتمعا اثنان أخيراً ويقتربا حتى ليبدو كل شيء مثالياً، تلك هي العلاقة المثالية، تلك هي الزيجة الممتازة، هذان الشخصان هما منْ سينجحان في الاستمرار سوياً حتى يتقدما في العمر معاً، ثم ماذا؟

بعد كل هذه الرحلة وكل هذا العناء، بعد أن نجيا من مهلكات العلاقات العاطفية ومعكرات صفو الحب، فجأة يختفي أحدهما بعد أن يدركه الموت، ليترك الآخر وحيداً مرة أخرى، بل وغريباً عن كل شيء بعد أن رحل عنه الوحيد الذي لم يكن غريباً معه!

الأمر نفسه في العمل.

تبدأ مسارك الوظيفي في سن مبكرة، شاب تترك اللهو واللعب من أجل أن تُخصَّص وقتاً طويلاً وجزءاً كبيراً من حياتك من أجل ممارسة وظيفة لا تعلم عنها أي شيء. وبمرور الوقت تصبح أفضل في تلك الوظيفة، تحرز بعض التقدم، تكتسب بعض الخبرة بعد أن كنت جاهلاً وعديم النفع.

وبعد سنوات من ممارسة مهنتك، وبعد أن تصبح أفضل ما تستطيع بها، بل خبيراً في جعبته عشرات السنين من الخبرة، وأخيراً اصبحت جيداً في شيء ما، فجأة يحين وقت التقاعد وتجد نفسك مُجبراً على التوقف عن ممارسة الشيء الوحيد الذي تُجيده، المسار الوحيد الذي تعرفه حق المعرفة، الوظيفة التي أفنيت عمرك لتصير جيداً بها!

كل هذا من أجل ماذا؟ من أجل أن تتركها لغيرك وتعود لفعل اللا شيء الذي لم تعد تجيده، حتى لم يعد لديك الصحة ولا الوقت للعب واللهو. كل هذا من أجل ماذا؟!

لو كانت الحياة كلها مثل الحب والعمل، مجرد مشتتات. إذاً فما الذي نُشتِّت أنفسنا عنه؟

كل شيء خيالي

في البداية يحكي لنا المؤرخ «يوفال هراري» في كتابه Sapiens: A Brief History of Humankind، رحلة تطور الانسان من كائن بدائي إلى صانع حضارة، ويدّعي أن سر ذلك التحول المفاجئ من المعيشة البدائية الحيوانية إلى المعيشة الإنسانية التدريجية، هو الثورة الذهنية التي حدثت قبل 70 ألف سنة.

وفقاً لهراري، فإن الثورة الذهنية التي ازداد بسببها إدراك ووعي الانسان بنفسه وما حوله، قامت في الأساس على مبدأ «الخيال». بمعنى أن كل حضارات العالم قامت على أساس تخيلي، بداية من أن أعداء القبيلة أرواح شريرة، أو أن الفرعون هو ابن الإله، أو أن ساكني هذه الأرض هم شعب الله المختار، مروراً بأفكار أكثر اتساعاً مثل الديمقراطية والرأسمالية، حتى نصل إلى خيالات أكثر فردية مثل الشركات الكبرى والمؤسسات العالمية بل وقيمة الأموال أيضاً.

إذا كنت لا توافق هراري الرأي، فحاول أن تجد الإجابة على السؤال التالي:

لو رفعت الآن قضية على شركة فيات أو تيسلا، منْ الذي سوف يُعاقَب لو حكم القاضي لصالحك؟ منْ الذي سيقع عليه الضرر؟ من الذي سيُرمى به في السجن؟

بالطبع ليس رئيس مجلس الإدارة، فهو يدير الشركة وفقط، وبالطبع ليس حاملي الأسهم فهم مجرد مستثمرين، وبالطبع ليس العملاء الذي يشترون منتجات الشركة. أرأيت؟

الشركة نفسها كيان خيالي ليس له وجود على أرض الواقع، مجرد اسم وهمي وختم ورقي لا أكثر، ومع ذلك فالكل يتعامل مع الشركة وكأنها كيان حقيقي متجاهلين أن كل ما يمت للشركة بصلة هو في الحقيقة مبني على أساس تخيلي!

يضيف هراري أن أكثر الطرق فعالية لإقناع الناس بالنظم المُتخيلة كالدين والديمقراطية والرأسمالية هي التعامل مع تلك الأنظمة وكأنها حقائق قائمة بذاتها. لكن لماذا قد يعيش الانسان وفقاً لتلك الانظمة المتخيلة، لماذا قد يخترعها من الأساس وما الفائدة التي قد تعود عليه منها؟

عزيزي القارئ، إذا كنت ترى أن هراري قد زايد في الأمر، فانتظر حتى تسمع وجهة نظر «أرنست بيكر» في نفس الموضوع.

أن نكذب لنعيش

في كتابه «إنكار الموت»، يدّعي «أرنست بيكر» أن الإنسان اخترع كل شيء من العدم، وأن كل شيء خرافة، كل شيء كذبة، كل شيء ليس حقيقياً. بدايةً من اسمك وعائلتك ووظيفتك، إلى جنسيتك ومجتمعك وتوجهك الفكري والثقافي، كل هذه كذبات اخترعها الإنسان الحديث حتى يشتت نفسه من الحقيقة التي لا يستطيع تحملها، ألا وهي حقيقة فنائه.

أن تكون إنساناً يعني أن تدرك أنك ستموت، أن كل أحبائك سيغادرونك، أن شعرك سيشيب أسنانك ستسقط وأزهار عمرك سوف تذبل. أمّا أن تكون إنساناً حديثاً، فذلك يعني أن تنكر كل هذا!

ولأجل أن تنجح عملية الإنكار عليك أن تصنع لنفسك مشتتات لا حصر لها، أن تبني نموذجاً اجتماعياً يخضع لكثير من القواعد ويتكون من بعض الطبقات، تسمي هذا النموذج المجتمع ثم تضع نفسك بداخله، لتظل تركض لتكوًن عائلة حتى تشعر بالانتماء لشيء غير التراب، وتركض لتنجب الأولاد من أجل أن يستمر منك شيء بعد فنائك، ثم تركض لتحصل على الترقية في الوظيفة من أجل أن تعطي لنفسك أهدافاً تشتتك عن حقيقة موتك.

كل هذا لأننا كبشر لا نطيق مواجهة حقيقة واضحة وصريحة مثل حقيقة أننا سنموت، نشتت أنفسنا بكل الطرق سواء عن طريق كذبات العائلة والدين والمجتمع، أو كأفراد عن طريق كذبات مثل الوظيفة والحب ومشاهدة الأفلام، تماماً مثل توني سوبرانو.

لكن ماذا يعني كل هذا، أن الحياة خالية من المعنى؟

إن كل هذه الكذبات خاوية في الحقيقة. إن كل هذا ليس له غرض من الأساس، وأن منْ لا يؤمن بعدمية كل شيء إنما يخادع نفسه ليس إلا، أكل هذا من أجل لا شيء؟!

هنا يأتي دور عالم النفس كارل يونج ليعطينا الترياق ضد سم العدمية.

الكمال النفسي

دعنا نعود إلى مثال العلاقات العاطفية الذي بدأنا به المقال. ما الفارق بين أول علاقة عاطفية في حياة المرء وآخر علاقة؟

في العلاقة الأولى كنتُ ساذجاً حالماً وانتهى الأمر بأقسى صورة ممكنة. في العلاقة الأخيرة أصبحت أكثر نضجاً، أكثر اتصالاً بالواقع، أكثر قدرةً على تحمل انهيار أحلامك في غمضة عين.

لكن ماذا لو حدث العكس، لو كانت أول علاقة عاطفية في حياتك هي بداية الهاوية وما بعدها كان أسوأ؟

هنا تكون العلاقات العاطفية مجرد مُشتتات لا معنى لها، مثل الوظيفة والأسرة والمجتمع بأسره. إن لم تكن كل هذه الأشياء تخدم غرضاً أكبر منها فما هي إلا مشتتات ومُلهيات لا نفع منها ولا فائدة.

لكن ما عساه يكون ذلك الغرض الذي يمكن أن يخدمه كل نشاط إنساني في حياة المرء؟

يسميه كارل يونج بالكمال النفسي Psychological Wholeness، ويؤمن أنه الغاية التي يجب أن يفني كل إنسان حياته من أجلها.

الكمال النفسي هو حالة مثالية تكون فيها كل قوانا الكامنة في حالة استخدام وكل عناصر العقل اللاواعي يتم تطبيقها بشكل واع لتحقيق أفضل فائدة ممكنة. ذلك هو المسمى الأكاديمي، أما المسمى العملي (الذي يهمنا هنا) هو أن يصل الإنسان إلى أفضل نسخة ممكنة منه.

يونج ينظر للنفس على أنها ذلك الكيان الميتافيزيقي غير المحدود، والقابل للتمدد والتطور والتحسن دائماً، وذلك التحسن من المفترض أن يأتي من توجيه كل النشاطات الإنسانية تجاه ذلك الهدف. كل ما يسميه «أرنست بيكر» بالمشتتات يعتبرها كارل يونج أدوات لتطوير الشخصية والوصول بها إلى المستوى التالي في النضج والحكمة، أدوات تصب في مصلحة السعي للكمال النفسي الذي لن نصل له أبداً. إنما السعي تجاهه والتحسن المستمر والتقدم التدريجي نحوه، تلك هي الأشياء التي تعطي للحياة معناها وتجعل لأنشطة المرء قيمة.

وذلك لا ينكر صحة كلام «أرنست بيكر» إلى حد ما، فمن دون السعي للكمال النفسي يصبح كل شيء مضيعة للوقت، وبتعميم نظرية يونج وعدم اقتصارها على غرض واحد، ومن دون وجود غرض -أي غرض- لحياة المرء، تصبح كل التجارب خاوية من المعنى وخالية من الحياة، ويصبح الإنسان فريسة لشبح العدمية واللاجدوى، فإذا لم يستخدم كل ما بحوزته كأدوات لكي يصل إلى أفضل نسخة ممكنة من نفسه، فسينتهي به الحال مجرد أداة لظروفه التي تُشتته عن الشعور بأنه على قيد الحياة وتلهيه حتى يدركه الموت قبل أن يعيش.

وتلك هي اللعبة التي قصدها عالم النفس الكندي «جوردان بيترسون» الذي نختم بمقولته:

الحياة واحدة من تلك الألعاب التي لا يمكنك أن تخرج منها، مهما فعلت ومهما حاولت تجاهلها والامتناع عنها فأنت تلعبها من دون أن تدري، أنت مُشارك في اللعبة ولن تخرج منها إلا بعد أن تقتلك. ولذلك أعتقد أن عليك أن تلعبها بأفضل استراتيجية تقدر عليها، ألديك أي شيء أفضل لتفعله؟ لأنك أقوى مما تظن، أقوى بكثير مما تظن، الإله وحده يعلم كم تبلغ قوتك، أنت معمي عن نقاط ضعفك لكنك كذلك معمي عن نقاط قوتك. إلى أي مدى يمكنك أن تتقدم للأمام؟ لو توقفت عن تضييع الوقت وامتنعت عن الكذب ووجهت نفسك لأفضل غرض يمكنك تحديده والتزمت به، يا ترى إلى أي مدى ستكون شخصاً أفضل وتهنأ بحياة أكثر جودة؟ بالنسبة لي سأقول لماذا لا تجرب وتكتشف إجابة ذلك السؤال بنفسك؟!