في خلال الـ ١٠٠ عام المنصرمة، عانت حوالي ٣٢ دولة من التضخم الاقتصادي، منهم ٢١ دولة فقط في خلال الـ ٢٥ عامًا الماضية، وقد عانت منه الولايات المتحدة الأمريكية مرتين مختلفتين في تاريخها. فما هو التضخم الاقتصادي؟ ولماذا يحدث؟

بدايةً، التضخم الاقتصادي هو حالة عامة من زيادة أسعار البضائع في فترة زمنية معينة، مما يؤدي إلى نقص القيمة الشرائية للعملة، ويعتمد هذا النقص على ما يسمى بـ (معدل التضخم). فمثلا، إذا كنت تشتري شيئًا ما بسعر ١٠ جنيهات، وزاد معدل التضخم مثلًا ١٠٪، فإنك ستشتريها بسعر ١١ جنيهًا… وهكذا.

ويمكن تلخيص مفهوم التضخم في المقولة التالية لسام إيوينج Sam Ewing: «التضخم هو أن تدفع ١٥ دولارًا لعمل قصة شعر قيمتها ١٠ دولارات، اعتدت أن تحصل عليها في مقابل ٥ دولارات عندما كنت تمتلك شعرًا».

ومن أسباب حدوث التضخّم أن يقوم البنك المركزي في دولةٍ ما بطباعة كم كبير من عملة الدولة استجابةً لزيادة الديون على الدولة على سبيل المثال لا الحصر.

ولم تسلَم كثيرٌ من الدول من التضخم وذلك يشمل حتى بعض القوى العظمى الموجودة حاليًا وفي هذا المقال سنستعرض بعضًا من تجارب بعض الدول العظمى مع التضخم وطرق تعاملهم مع الأزمة حيث كان بعضها ناجحًا والبعض الآخر باء بالفشَل.


التضخم المفرط في جمهورية فايمار

آثار الحرب

أثناء الحرب العالمية الأولى، كانت ألمانيا في حاجة إلى المال لتمويل جيوشها لتستطيع الصمود في الحرب، فقرر الإمبراطور فيلهيلم الثاني Wilhelm II ومعه أعضاء البرلمان بالإجماع أن يقوموا باستعارة الأموال من الخارج لتمويل الحرب بالكامل على أمل أنهم سيستطيعون تسديد هذه الديون بعد انتهاء الحرب، بالإضافة إلى وقف ربط المارك بالذهب، أي أن واحد مارك يساوي قيمةً محددة من الذهب.

ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفنُ، فقد انقلب السحر على الساحر، وخسرت ألمانيا الحرب ووجدت نفسها محاطةً بالديون التي لا تستطيع تسديدها لأن الدائنين لا يقبلون سوى بعملات صعبة أو ذهب. كما أنهم أثناء الحرب استمروا في طباعة النقود الورقية دون وجود مصادر لتدعم هذا التصرف مما أدّى إلى هبوط قيمة المارك – عملة ألمانيا في هذا الوقت – أمام الدولار الأمريكي من 4.2 مارك لكل دولار إلى 7.9 مارك لكل دولار مع نهاية الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٨.

من سيء إلى أسوأ

واستمر المارك في التدهور حتى أصبح الدولار الواحد يشتري ٤٨ ماركًا بحلول عام ١٩١٩، ثم استقر المارك في النصف الأول من عام ١٩٢١ عند ٩٠ مارك لكل دولار واحد. ولكن في النصف الثاني من عام ١٩٢١ حدث ما لا تُحمَد عُقباه، فقد تم مطالبة ألمانيا بدفع الأموال الخاصة بإصلاح الدمار الناتج عن الحرب العالمية الأولى، على أن يتم الدفع فقط باستخدام العملة الصعبة أو بالذهب، وكان على ألمانيا أن تدفع ٢ مليار مارك ذهبي، بالإضافة إلى ٢٦٪ من أموال صادراتها، فبدأت الحكومة الألمانية في طباعة المزيد من عملتها، كان مما أدى إلى انخفاض قيمة المارك بشكل ملحوظ حتى سجل ٣٢٠ مارك مقابل دولار أمريكي واحد في النصف الأول من عام ١٩٢٢.

وقتذاك بدأ التضخم يتحول إلى تضخم جامح، وهبطت قيمة المارك إلى ٤ تريليون مارك مقابل دولار أمريكي واحد بحلول عام ١٩٢٣.

بدايات الاستقرار

بعد ذلك، أصبح المارك الألماني بلا قيمة، وعندها بدأ خبراء الاقتصاد في التدخل، وتم وضع عملة جديدة وهي الرينتنمارك الذي ترتبط قيمته بالذهب، غير أنه لا يمكن لأحد أن يستبدل هذه العملة فعليًا بذهب، ولكنها كانت الوسيلة الوحيدة لجعل عملة الدولة مستقرة بقدر كبير، وتم إنشاء بنك مركزي خاص بطباعة العملة الجديدة، وتم التحكم في طباعة العملة الجديدة مع استمرار العملة القديمة في نفس الوقت حتى اختفت العملة القديمة تدريجيًا وتم استبدال المارك بالرينتنمارك في نوفمبر/تشرين الثاني من عام ١٩٢٣، وقتها قلت الأسعار اثني عشرة صفرًا.

استعادة القيمة

استعادة القيمة Revaluation هي عملية تتم من أجل رفع قيمة عملة دولة ما أمام عملات الدول الأخرى عن طريق رفع الفوائد في البنوك عند اقتراض العملة الجديدة مما يؤدي إلى تقليل طباعة واستعارة العملة الجديدة، فتستعيد قيمتها تدريجيًا، وهذا ما فعلته الحكومة الألمانية بفرض قانون استعادة القيمة سنة ١٩٢٥، مما أدى إلى رفع قيمة العملة الجديدة، واستطاعت التغلب على التضخم الجامح الذي عانت منه لسنين طوال.


التجربة الفرنسية

وما زلنا في القارة الأوروبية ولكن نعود بالزمن قليلًا لأيام الثورة الفرنسية لنرى التضخم الهائل الذي حدث وقتها، فعندما اعتلى الملك لويس السادس عشر العرش كانت مصروفات الدولة حوالي ٣٩٩ مليون ليفر – عملة فرنسا في ذاك الوقت – في حين كانت الأموال المحصَّلة من الضرائب – والتي كانت تفرض على الطبقة الفقيرة فقط – حوالي ٣٧٢ ليفر مما أحدث فجوة بين مصروفات الدولة وبين ما تجنيه من أموال الضرائب فاضطر الملك لتعيين وزير مالية جديد فولّى هذا المنصب لأحد الاقتصاديين العباقرة وقتذاك ولكن كل محاولاته للحد من مصروفات الحكومة باءت بالفشل وأثارت اعتراض الطبقة الثريّة في المجتمع فاضطر الملك إلى عزله عن منصبه عام ١٧٧٦.

اندلاع الثورة

بعد مرور حوالي اثني عشر عامًا وتحديدًا سنة ١٧٨٩ ثارت الجموع الغفيرة من الشعب على الملك واندلعت الثورة الفرنسية ولكن الجمعية الوطنية – التي كانت تمثل السلطة التنفيذية وقت الثورة – قامت أيضًا بصرف الكثير من الأموال لتوفير فرص عمل وتم صرف حوالي ١٧ مليون ليفر لأهل باريس ليتم انفاقهم على الطعام. وفي مارس من عام ١٧٩٠ تم وضع عملة جديدة وهي الآسيجنات وفي إبريل تم طباعة حوالي ٤٠٠ مليون آسيجنات ثم تم طباعة حوالي ٨٠٠ مليون أخرى في نهاية الصيف واستمرت الحكومة في الطباعة حتى وصل عدد الآسيجنات المطبوعة في أغسطس من عام ١٧٩٣ إلى 4.1 مليون، وانخفضت قيمة الآسيجنات حوالي ٦٠٪. واستمرت قيمة العملة في التدهور حتى أصبحت العملة الجديدة أقل قيمةً من الورق التي تطبع عليه.

استمرت محاولات الحكومة للتحكم في التضخم الحاصل فقامت الجمعية الوطنية بتحديد أسعار الحبوب والمواد الأساسية وأصبحت هذه السلع لا تباع إلّا بمراقبة الحكومة وفرضت أيضًا مراقبة على الرواتب في محاولة منها لتحجيم التضخم، واستمر ذلك حتى نهاية عام ١٧٩٤ تم رفع المراقبة من على الرواتب والسلع وأخيرًا وفي ديسمبر من عام ١٧٩٥ قررت الحكومة وقف طباعة الآسيجنات، وتم السمّاح مرة أخرى بتداول الذهب والفضة بعد وقفهم لفترة من الزمن وعادت البضائع للسوق مرةً أخرى وبدأت حالة من الرخاء تعم فرنسا.


تضخم الصين العظيم

هيا بنا الآن لنقفز في الزمان والمكان بعيدًا عن أوروبا، ونتجه إلى قارة آسيا، وتحديدًا إلى الصين، وتحديدًا في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي حيث كانت عملة الصين (اليوان في ذاك الوقت) تُصنع من النحاس، ولم يكن هناك بنك مركزي، ولكن بعض البنوك الخاصة التي تقوم بعمل العملة.

وكان اليوان يمكن تحويله إلى فضة (أي أن قيمته ترتبط بالفضّة كما وضحنا سابقًا) واستمرّ ذلك حتى قامت الولايات المتحدة بشراء كل الفضة الموجودة بسعر أعلى من سعرها الدولي، فقامت الصين بتصدير ما لديها من الفضة إلى الولايات المتحدة مما أدى إلى انخفاض كبير في قيمة اليوان.

واستمر ذلك حتى عام ١٩٣٥ عندما بدأت سلطات البنك المركزي في التدخل، فتم إلغاء ربط اليوان بالفضة، وتم تحويل العملة من نحاسية إلى ورقية مع جعل الحكومة المتحكم الوحيد في كمية الأموال المطبوعة، ولكن ذلك لم يأتِ بنتيجة لأن الحكومة لم تستطع التحكم في طباعة الأموال بشكل صحيح وخصوصًا مع اندلاع الحرب بين الصين واليابان التي استمرت حوالي ٨ سنوات. بدأت عام ١٩٣٧، وكان وقتها كمية اليوان المطبوعة حوالي 3.6 مليار يوان، وأثناء الحرب تم طباعة المزيد والمزيد حتى وصلت كمية اليوان المطبوعة في نهاية الحرب إلى ١٥٠٦ مليار يوان.

ما زاد الطين بلة

ولكن حرب اليابان لم تكن هي أسوأ ما حدث في ذلك الوقت، فبعدها مباشرةً اندلعت حرب أهلية بين القوميين والشيوعيين والتي جعلت التضخم يزداد بشدة حيث وصلت كمية اليوان المطبوعة إلى 399.091 مليار يوان سنة ١٩٤٨.

عملة جديدة

في نهاية عام ١٩٤٨، ونتيجة للتضخم الشديد الذي حدث لليوان، قررت الحكومة استبداله بعملة جديدة سُمّيت اليوان الجديد، وكان الواحد من هذه العملة الجديدة مساويًا لحوالي ٣ ملايين من اليوان القديم، ولكنهم ارتكبوا نفس الغلطة مرةً أخرى فتم طباعة الكثير من هذه العملة، واستمر هذا الوضع حتى عام ١٩٤٩ عندما تم تبنّي عملة صينية جديدة وهي الرينمنبي، وهو العملة الحالية للصين (ويسمى أيضًا يوان)، ومن وقتها بدأ التضخم في التراجع وزادت قيمة العملة تدريجيًا حتى أصبحت في المعدل الطبيعي.


التضخم في مصر

ونحن الآن في مصر على أعتاب أزمة تضخم حقيقيّة نتيجة تراجع سعر الجنيه المصري أمام الدولار الأمريكي نتيجةً لأسباب كثيرة منها قلة التصدير وبالتالي نقص العملات الصعبة بالإضافة إلى زيادة الواردات وأيضًا تراكم الديون الخارجية مما أدّى إلى طباعة الكثير من الجنيه فأصبح متوافرًا بكثرة مع غياب العملات الصعبة، وفي الاقتصاد توافر الشيء يخفض من قيمته، وهناك طرق كثيرة يمكن من خلالها الحدّ من التضخم في أي دولة وفقًا لموقع Economics help نستعرض هنا بعضًا منها:

١. السياسة النقدية Monetary Policy

وهذه هي السياسة المتبعة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة للحفاظ على معدل تضخم منخفض عن طريق وضع هدف محدد لمعدل التضخم وهو ٢٪ (زائد أو ناقص ١) فقط ولا يمكن للتضخم أن يزيد عن هذا المعدل بأي شكل من الأشكال، ويمكن تحقيق ذلك عن طريق التحكم في المعروض النقدي عن طريق زيادة معدلات الفائدة للمقترضين مما يؤدي إلى نقص الطلب على القروض فتقل كمية العملة المتوفرة.

٢. السياسة المالية Fiscal Policy

وهي تشبه إلى حد ما السياسة النقدية ولكن في هذه الطريقة يتم التحكم في التضخم عن طريق زيادة الضرائب المفروضة وتقليل المصاريف الحكومية.

٣. التحكم في الأجور

إحدى السياسات المتبعة في الحد من التضخم هي التحكم في الأجور لأن الزيادة الكبيرة في معدلات الأجور تزيد من معدلات التضخم، ولكن هذه الطريقة صعبة التنفيذ إلى حد ما.

ويمكن أيضًا الحد من التضخم عن طريق تقليل كمية الأموال التي تحتفظ بيها البنوك وتوفير فقط الكم الذي تحتاجه لتغطية عمليات السحب اليومية، وذلك يؤدي إلى تقليل الأموال المتوفرة للاقتراض من البنك، فيقل صرف العملة.

ونهايةً، فالتضخم أزمة لم تخلُ منها دولة ولكن ما يميز دولةً عن الأخرى هو طريقة التعامل مع الأزمات، فنتمنى أن نرى تدخلًا من خبراء الاقتصاد قريبًا للحد من هذه الأزمة قبل أن تقع الفأس في الرأس.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. https://en.wikipedia.org/wiki/Hyperinflation_in_the_Weimar_Republic
  2. The Great French Inflation
  3. German Hyperinflation 1922/23: A Law and Economics Approach
  4. The Great Chinese Inflation
  5. How exactly does a country overcome hyperinflation?
  6. What methods can the government use to control inflation?
  7. Policies to reduce inflation
  8. Revolutionary France’s Road to Hyperinflation