بقلق واهتمام بالغ تابع المراقبون مفاوضات فيينا الخاصة بترتيبات عودة إيران إلى الاتفاق النووي، فمثل تلك الصفقة لم تكن تبحث فقط مشكلة بين دولتين، بل ترتبط بها وبمخرجاتها حساباتٌ إقليمية ودولية، فهناك الكثير من القضايا الأمنية والعسكرية والاقتصادية والثقافية، خاصةً في المنطقة العربية، تتأثر بالملف النووي الإيراني بدرجات متفاوتة.

وبينما مَثَّل رفع العقوبات الهدف الإيراني الرئيسي من المفاوضات، فإنه وللمفارقة أصبح هدفًا أمريكيًّا أيضًا؛ فالغرب يعاني من ارتفاع أسعار الطاقة ونقص الإمدادات بعد العقوبات القاسية التي فرضها على روسيا، أكبر مصدِّر للغاز وثاني أكبر مصدر للنفط في العالم، ليعاقبها على غزوها لأوكرانيا، فضلًا عن العقوبات السابقة المفروضة على فنزويلا صاحبة أكبر احتياطي نفطي في العالم، يُقدر بخُمس الاحتياط العالمي تقريبًا لذلك فإن اللجوء إلى نفط إيران وغازها يمثل أحد حلول أزمة أسواق الطاقة الدولية.

وأدى ذلك إلى تقوية الموقف الإيراني التفاوضي، وتعطل المفاوضات التي كانت قد شارفت على نهايتها قرب بداية الحرب الروسية-الأوكرانية، ونشط الإيرانيون في تهريب النفط مع ارتفاع أسعاره لبضعة أشهر، مما قلل من ضغوط العقوبات على اقتصادهم.

وكانت طهران تصدر وحدها حوالي 2.5 مليون برميل يوميًّا من النفط قبل خضوعها للعقوبات، مما سيحدث فارقًا كبيرًا في أسواق الطاقة، رغم أنها تحتاج بعض الوقت للوصول إلى طاقتها الكاملة في الإنتاج، لكنها تمتلك مخزونات نفطية عائمة بكميات هائلة، موجودة داخل الناقلات في البحر، استعدت بها للحظة رفع العقوبات، بالإضافة إلى كميات إضافية في مستودعات مؤجرة بالخارج.

كما أن إعادة طهران إلى الالتزام بالاتفاق يعد إنجازًا تحرص عليه إدارة الرئيس جو بايدن مع اقتراب موسم انتخابات التجديد النصفي للكونجرس (البرلمان)، المقرر أن يتم في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، خاصةً أن بايدن جعل إحياء الاتفاق إحدى أولوياته الانتخابية لدى ترشحه للرئاسة.

وتجري المفاوضات بين إيران والمجموعة 4+1 التي تضم بريطانيا وفرنسا وروسيا والصين، بالإضافة إلى ألمانيا، بصفتهم أطرافًا في الاتفاق النووي القديم، لكن عمليًّا فإن طهران تتفاوض مع واشنطن بشكل غير مباشر، عبر الوسطاء الأوروبيين.

ورغم أن الاتفاق المطلوب لعودة طهران إلى الالتزام بمعاهدة 2015، تم الانتهاء منه منذ شهر مارس/ آذار الماضي، لكن إجراءات التنفيذ وبعض القضايا العالقة عطلت تنفيذه.

القضايا العالقة

كانت أبرز القضايا العالقة هي ضمانات استمرار الاتفاق، فقد أثارت مطالبة طهران بضمانات لعدم تكرار انسحاب واشنطن من الاتفاق، خلافًا مع الأمريكيين؛ لأن الإيرانيين يخشون وصول رئيس جمهوري إلى البيت الأبيض في عام 2025، يعيد فرض العقوبات والانسحاب من الاتفاق، كما فعل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عام 2018، بينما لا يستطيع بايدن ضمان أفعال خليفته المقبل، كما أن صلاحياته مقيدة بالكونجرس، وهناك معارضة جمهورية كبيرة لخطوات بايدن، وقد حذر السيناتور الجمهوري تيد كروز من أن إحياء الاتفاق سيمكن طهران من الحصول على أسلحة نووية، وأكد أن الجمهوريين سيمنعون العودة إلى الاتفاق، كما أن هناك معارضة داخل الحزب الديمقراطي أيضًا للاتفاق.

ملف المواقع النووية غير المعلنة

لم تقدم طهران إجابة مقنعة للوكالة الدولية للطاقة الذرية عن سبب وجود آثار مواد نووية في 3 مواقع غير معلن عنها، مما يثير الريبة حول طبيعة الأنشطة التي تمت في تلك الأماكن، واحتمال كونها تمت لأغراض عسكرية.

وكرر المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل غروسي، مؤخرًا طلبه من إيران تقديم هذه الإجابات إلى الوكالة وإعطاء أقصى وصول ممكن لتفتيش مواقعها، مبينًا أن الوكالة لم تتلقَّ بعد إجابة مقنعة حتى اليوم.

وكان مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية قد أصدر، في وقت سابق، قرارًا ضد إيران في هذا الصدد بأغلبية ساحقة، وطلب من طهران التعاون مع الوكالة في التحقيقات.

وهذه القضية قديمة منذ سنوات طويلة، وتم إغلاقها سابقًا عند إبرام الاتفاق النووي عام 2015، لكن مع عدم تجاوب طهران في المفاوضات النووية تمت إعادة هذا الملف إلى الضوء مجددًا، واليوم تريد طهران من واشنطن استخدام نفوذها لإغلاق ملف تحقيق الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن منشآتها النووية غير المعلنة كشرط للعودة إلى الاتفاق النووي، لكن المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية قال إن الولايات المتحدة لم تمارس أي ضغط على الوكالة لوقف بحث هذه القضية، «لكن قد يكون هناك ضغط مباشر وغير مباشر من بعض الأطراف».

وتكمن خطورة بحث هذا الأمر في أن الوكالة مفوضة من مجلس الأمن الدولي لمراقبة حدوث أي انتهاكات في البرنامج النووي الإيراني، طبقًا للقرار الأممي 2231، ولها الحق في رفع ملف إيران إلى المجلس ليتم إعادة تطبيق عقوبات الأمم المتحدة تلقائيًّا.

تبادل السجناء

تحتجز طهران رعاياها الذين يحملون الجنسية الأمريكية، وتعاملهم كمواطنين إيرانيين ولا تعترف بازدواج الجنسية، وتستخدم ذلك كأداة ضغط على الولايات المتحدة التي تعتقل عددًا من الإيرانيين المتهمين بمحاولات خرق العقوبات الأمريكية على بلادهم.

وترفض طهران تضمين هذه المسألة في الاتفاق، وقال المتحدث باسم خارجيتها، ناصر كنعاني، إن تبادل السجناء مع الولايات المتحدة مسألة منفصلة لا علاقة لها بالمفاوضات النووية.

نطاق العقوبات

كما تعد مسألة نطاق العقوبات التي سيتم رفعها مسألة خلافية مهمة، فقد شكلت مسألة رفع الحرس الثوري من لوائح الإرهاب مطلبًا إيرانيًّا مُلحًا، واشترطت الولايات المتحدة إجراء محادثات لتقييد التوسع الإقليمي والبرنامج الصاروخي الإيراني مقابل عدم تصنيف الحرس كحركة إرهابية، وهو ما رفضته طهران .

والمشكلة أن الحرس ليس مجرد ميليشيا مسلحة فقط، بل يضم مؤسسات عديدة متغلغلة في بنيان الدولة الإيرانية، وله استثمارات وأنشطة اقتصادية ضخمة تديرها وحدة «خاتم الانبياء»، وما يعنيه ذلك من وجود تداخل بين الأنشطة المحظورة الخاضعة العقوبات والأنشطة الأخرى، مما يجعل الشركات العالمية أكثر حذرًا في التعامل مع إيران، لا سيما في ظل بقاء العقوبات المتعلقة بقضايا الإرهاب وحقوق الإنسان، والتي تطول إلى جهات وأشخاص عديدين في إيران.

وتمثل تلك العقوبات المتبقية عقبة أمام استفادة إيران الكاملة من العودة إلى الاتفاق؛ وهناك عقوبات بعينها كانت محط اهتمام من الإيرانيين بصورة خاصة، مثل الأمر التنفيذي رقم 13876 الذي أصدره الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وهو يفرض عقوبات على المرشد الأعلى لإيران ورئيسها إبراهيم رئيسي، وطهران تريد إلغاء هذا القرار قبل انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول المقبل، التي يحضرها زعماء العالم في نيويورك.

وتبحث إيران كيفية استفادتها اقتصاديًّا من رفع العقوبات، مع أن هذا الأمر قد يبدو بسيطًا لكن بسبب كثرة العقوبات وتنوعها فإن رفع بعضها قد لا يغير المشهد كثيرًا؛ فالعقوبات على انتهاكات حقوق الإنسان ورعاية الإرهاب تعقِّد الأمور، وقد أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، نيد برايس، أن العقوبات خارج نطاق الاتفاق النووي غير مطروحة للنقاش.

ماذا تعني العودة إلى الاتفاق؟

بعد توقيع الاتفاق النووي عام 2015 قبلت إيران بقيود على برنامجها النووي مقابل رفع العقوبات، وأبرز هذه القيود عدم السماح لها بتخصيب اليورانيوم أعلى من نسبة 3.67 بالمائة، وهي نسبة تكفي للأغراض السلمية، بينما تتطلب القنبلة النووية نسبة تخصيب تصل إلى 90 بالمائة، ويأخذ الوصول إليها وقتًا طويلًا.

كما وضع الاتفاق حدًّا أقصى للكمية المسموح بالاحتفاظ بها من اليورانيوم منخفض التخصيب، وهو 300 كيلوجرام، وهي تمثل نسبة 2 في المائة من مخزونها السابق، بينما يتطلب صنع القنبلة 25 كيلوجرامًا تقريبًا من اليورانيوم عالي التخصيب، وقد حرم الاتفاق طهران من استخدام أجهزة الطرد المركزي المتطورة التي تنفذ عملية التخصيب، وسُمح لها بالإبقاء على 5060 جهازًا من الجيل الأول البطيء (IR1) في مفاعل نطنز من بين نحو 19 ألف جهاز كان في الخدمة، كما التزمت طهران بتنفيذ البروتوكول الإضافي لاتفاقية ضمانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، الذي يعطي الحق للمفتشين الدوليين بالوصول إلى أي موقع لتفتيشه.

وتمثل هدف كل القيود السابقة في إبقاء البرنامج النووي الإيراني تحت الرقابة المشددة، وتطويل المدة اللازمة لإنتاج سلاح نووي، فقد كانت طهران قبل الاتفاق أمامها من شهرين إلى ثلاثة أشهر حتى تمتلك المواد اللازمة لإنتاج أول قنبلة نووية، لكن الاتفاق أطال هذه المدة إلى عام تقريبًا، وقد انتهكت طهران هذه البنود بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق، ورفعت تخصيب اليورانيوم كمًّا وكيفًا، وأدخلت أجهزة طرد مركزي من أجيال حديثة وسريعة، مثل الجيل الرابع والسادس، وأغلقت كاميرات المراقبة الخاصة بالوكالة الدولية للطاقة الذرية داخل المنشآت النووية، مما جعلها على بُعد أسابيع من إنتاج القنبلة، أي إنها عادت إلى حالة ما قبل الاتفاق، لذلك عملت واشنطن على «إعادة إيران إلى العلبة»، وهو التعبير الذي يستخدمه الأمريكيون لشرح أهمية استعادة القيود النووية قبل أن يخرج المارد النووي الذي لن يستطيع أحد إعادته إلى الوراء.

وتعني العودة إلى الاتفاق إعادة الالتزام بكل ما ورد فيه، مقابل رفع العقوبات الخاصة بهذا الأمر، مما يعني تحرير عشرات المليارات من الأموال والأصول التي تم تجميدها عند فرض العقوبات الأمريكية عام 2018، وقد ذكرت تقارير إعلامية وجود أصول بقيمة 40 مليار دولار تقريبًا تحت الحظر في عدد من الدول، وهو ما تنتظره طهران بفارغ الصبر؛ لأنها تعاني من أزمات اقتصادية خانقة، أفرزت تداعيات سلبية على كل الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وساهمت في تآكل شرعية النظام داخليًّا.

وماذا بعد

تبقى مشكلة كبيرة حتى في حال التغلب على كل القضايا العالقة، وهي قصر مدة الاتفاق، فالعودة إليه تمثل حلًّا مؤقتًا لمشكلة ممتدة، فالاتفاق الذي بدأ العمل به في يناير/ كانون الثاني 2016، مضى معظم أجله، فوفقًا لبنوده، ينتهي حظر الأسلحة المفروض من جانب الأمم المتحدة بعد خمس سنوات من بدء العمل بالاتفاق كمكافأة لإيران على الامتثال له، وقد تم رفع الحظر بالفعل في أكتوبر/ تشرين الأول 2020، كما ينتهي حظر الأمم المتحدة على استيراد تكنولوجيا الصواريخ الباليستية في عام 2023، كما أن الضوابط على كمية اليورانيوم المخصب تنتهي عام 2031، ووقتها أيضًا سيُسمح بزيادة تخصيب اليورانيوم في مفاعل فوردو وبناء مفاعلات نووية إضافية تعمل بالماء الثقيل، وهذه من الأسباب التي جعلت طهران لا تعلن الانسحاب من الاتفاق ردًّا على انسحاب واشنطن عام 2018، واختارت التملص من الالتزام به وفقًا لثغرات في بنوده دون أن تخرج منه رسميًّا، فمثلًا رُفع حظر السلاح عنها تلقائيًّا عام 2020، في وقت كانت فيه غير ملتزمة عمليًّا بالاتفاق لكنها نظريًّا ظلت متمسكة به.

وهذا كله يجعل المكاسب الأمريكية من الاتفاق قصيرة الأجل، ويدفعها إلى العمل على إيجاد وسيلة لمد أجل الاتفاق بأي طريقة، وهذا محل اتفاق في واشنطن، لكن الخلاف بين الديمقراطيين والجمهوريين أن الفريق الأول يرى العودة إلى الاتفاق القديم توطئة للتوصل إلى تفاهمات أخرى تعالج عيوبه، بينما يرى الجمهوريون أنه لا يستحق العناء، وأن الأمر يحتاج اتفاقًا جديدًا أطول في المدة وأكثر توسعًا في بنوده، فلا يقتصر على الأنشطة النووية، بل يشمل البرنامج الصاروخي أيضًا، وتقييد المشروع الإقليمي التوسعي الإيراني.

وقد تقدم الاتحاد الأوروبي بمقترح لإنقاذ الاتفاق النووي، ردت عليه طهران بعدة ملاحظات، ودرست الولايات المتحدة الرد الإيراني وأرسلت ردها إلى إيران الأربعاء، وهو رد وُصف بأنه أقل من طموحات طهران، وفي نفس اليوم وجه الطيران الأمريكي ضربات جوية إلى ميليشيات «فاطميون» التابعة لإيران في دير الزور شرق سوريا أوقع عددًا من القتلى، بحسب ما أفاد به المرصد السوري لحقوق الإنسان، وأرادت واشنطن إرسال رسالة مفادها أنها ملتزمة بمواجهة الإرهاب الإيراني ميدانيًّا، وأن العودة إلى الاتفاق مع طهران لا تعني إطلاق أياديها في المنطقة.

ونفت طهران رسميًّا وقوع الهجوم على قواتها، الذي أتى في الأسبوع التالي لهجوم اتُّهمت به الميليشيات الإيرانية على قاعدة التنف الأمريكية شرق سوريا، كما أجرت الولايات المتحدة تدريبات بالذخيرة الحية مع قوات المغاوير السورية في التنف شرق سوريا.

وفي نفس اليوم أيضًا أطلقت طهران مناورات لاستعراض قدرات طائراتها المسيرة، وأجرت تدريبات على استهداف أهداف برية وجوية، في رسالة تذكير بقدرتها على نشر التهديدات في المنطقة.

ومع إدراك تل أبيب قرب إحياء الاتفاق النووي، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي، يائير لابيد، معارضته للاتفاق معتبرًا أنه يعارض المعايير التي حددها بايدن بنفسه، محذرًا من أن الاتفاق سيمنح طهران 100 مليار دولار ستُنفق على زعزعة استقرار المنطقة، كما قرر وزير الدفاع الإسرائيلي، بيني جانتس، السفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، الخميس، في زيارة تركز على الملف الإيراني، وسبقه إلى هناك مستشار الأمن القومي الإسرائيلي، إيال حولاتا، حيث التقى مساعدة وزير الخارجية الأمريكي، ويندي شيرمان، ونقل موقف تل أبيب من الاتفاق، وسط أنباء عن أن تل أبيب أثرت على صياغة الرد الأمريكي على الملاحظات الإيرانية على المقترح الأوروبي.

وتعهد جانتس، الثلاثاء، بفعل كل ما في وسعه للتأثير على الاتفاق، مذكرًا بأن تل أبيب ليست طرفًا فيه، و«ستعرف كيف تحافظ على حريتها في العمل حسب الضرورة»، في إشارة لاستمرار استهداف الموساد المواقع الحساسة في إيران المرتبطة بالبرنامج الصاروخي، وكذلك استهداف القوات والميليشيات التابعة لطهران على الأراضي السورية.