يقولون في الأمثال ما معناه أن مرور الأيام كفيل بمداواة الآلام والجروح، ولكن إن سلَّمنا بصحة هذا في كثير من الأحوال، فلن يصح في أخرى، بل قد تتفاقم الآلام والجروح لا سيَّما النفسية بمرور الوقت دون بذل الجهد الصحيح في شفائها.

تمر الأيام والأسابيع بعد الكوارث الطبيعية الكبرى كالزلازل المدمرة، والفيضانات العارمة … إلخ صعبة وثقيلة، وكأنَّها امتداد للكارثة الأصلية، إذ تتضح في كل ساعة أبعاد أخطر وأوسع للفاجعة، سواء كان في أعداد الضحايا أو الخسائر المادية قصيرة وطويلة المدى … إلخ، وكذلك يتضاعف حجم الضرر النفسي القريب والبعيد الأثر.

وفي هذا الزمن الذي أصبحنا نحدِّق فيه في شاشات هواتفنا الذكية لساعاتٍ طوال يوميًّا، ومع التقدم المروِّع في سرعة وفجاجة نقل الأخبار، وقصف الحواس والمشاعر والوعي واللاوعي بها، لم تعُد الإصابة باضطرابات ما بعد الصدمة قاصرة على الناجين من الكوارث الطبيعية ممن عايشونها، أو ذوي الضحايا … إلخ، إنما يقاسيها كثيرون حول العالم، منهم من يعيش على بعد آلاف الأميال من موقع الكارثة، لكنَّهم أسرفوا في متابعة الحدث، حتى عايشوه، وشهدوا مرارة التجربة، بل ذاقوها.

اضطراب ما بعد صدمة الكارثة 

أظهرت إحدى الدراسات المنشورة في دورية الجمعية الأمريكية الطبية JAMA المرموقة، أجريت على أكثر من 1700 طفلٍ ومراهق أمريكي من الناجين من أحد الأعاصير المدمرة، والذين أصيبوا باضطراب ما بعد الصدمة النفسي الشهير، أن 23% منهم فحسب من تعافوْا بشكلٍ تام، بينما عانى أكثر من 10% من اضطرابٍ مزمن تتفاقم أعراضه مع مرور الوقت، و33% من أعراض متوسطة مستمرة لفترة طويلة، و34% من أعراضٍ أقل حدة، تهدأ تدريجيًّا مع الوقت دون الوصول إلى الشفاء التام.

وأشارت نتائج دراسة أخرى أجريت في الولايات المتحدة بعد 6 أشهر كاملة من أحد الأعاصير المدمرة، أن ما يُقدَّر بـ 15% من سكان منطقة منكوبة ما زالوا يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة. وأكدت تقديرات أخرى لجهات علمية أن نسبة المصابين باضطرابات ما بعد الصدمة قد تصل إلى 40% بعد بعض الكوارث الكبرى.

واضطراب ما بعد الصدمة الناشئ عن معايشة الكوارث الطبيعية عادةً ما يسبب أعراضًا شديدة نفسية وجسدية، يمكن أن تبدأ في التو واللحظة، ويمكن أن يتأخر ظهورها – بعد فترة من الصدمة والإنكار وعدم التصديق – أيامًا أو أسابيع أو شهورًا. أبرز الأعراض المميزة لهذا الاضطراب هي استمرار معايشة المرء للحظات الكارثة الصعبة، يقظةً ومنامًا، مما يُصعِّب كثيرًا عودته إلى حياته العملية والطبيعية المعتادة، ويجنح به إلى الغرق في الاكتئاب والعزلة، وإلى جلد الذات أحيانًا لأنه لم يتمكَّن من منع تعرض أحبابه الذين فقدوا أرواحهم إلى تلك الكارثة، وهو ما يسمى بعقدة الناجي. كما قد يؤدي في الحالات الشديدة إلى ظهور الأفكار الانتحارية وصولًا إلى الإقدام على فعل الانتحار. 

اقرأ أيضًا: كيف أحمي طفلي من الاضطرابات النفسية؟

وكثيرًا ما يعاني الناجون من الكوارث من الأرق الشديد، وفقدان الطاقة والدافع لأي نشاط، ومن صعوبة التركيز الذهني إلى الحد المعطِّل عن أداء واجباتهم الأساسية، رغم أنهم أحوج ما يكونون إلى بذل أقصى الجهد من أجل استعادة ما فقدوه بسبب الكارثة، مما يوقِعهم في دوامة جهنمية من الفشل وجلد الذات. كما قد يعاني المصابون من أعراضٍ جسدية مؤرِّقة مثل آلام الصدر، وتسارع ضربات القلب، والشعور بالإجهاد الشديد عند بذل أقل مجهود.

كيف يمكن التعافي النفسي بعد الكوارث الطبيعية؟

ما سنشير إليه في النقاط التالية هو ما يمكن فعله كجهود فردية وأسرية، وعلى مستوى الدوائر الاجتماعية الأصغر حجمًا، من أجل تسريع التعافي النفسي للمتضررين بعد الكوارث، لكن تحتاج المواجهة الحقيقية الكاملة مع اضطرابات ما بعد الصدمة الناجمة عن الكوارث الطبيعية الكبرى إلى تضافر جهود أضخم بكثير على صعيد الحكومات والمؤسسات الدولية ذات التمويل والقدرات الوافرة، والمنظمَّات الأهلية المحلية … إلخ، فقد أشارت بعض الأدلة العلمية إلى أن المناطق والبلدان الأقل دخلًا والأفقر اقتصادًا، تزداد فيها احتمالات الإصابة باضطرابات ما بعد الصدمة في أعقاب الكوارث الكبرى.

وأظهرت نتائج دراسة نُشرَت في دورية The Lancet التي يُنظَر إليها بتقدير بالغ في الأوساط العلمية، إلى أن سرعة التحرك لدعم المتضررين ماليًّا، ولتوفير السكن المناسب وكذلك الخدمات الطبية لا سيَّما النفسية، يسهم في تحجيم اضطرابات ما بعد الصدمة بشكلٍ ملموس إلى نصف وأحيانًا سُدس المتوقَّع بعد الكارثة.

1. طلب المشورة الطبية النفسية مبكرًا

من الطبيعي جدًّا أن يقاسي المرءُ الحزنَ والغضب والمشاعر السلبية لأيام أو لأسابيع بعد التعرض للكوارث الطبيعية وخسائرها الفادحة، على أن تتحسن تلك المشاعر تدريجيًّا بمرور الوقت. لكن في حالة تفاقمها وتطاولها لأكثر من شهر بعد الكارثة، والشعور من جرَّائها بالعجز عن العودة لأنشطة الحياة الطبيعية، فيجب طلب مشورة الطبيب النفسي على الفور، فالتدخل المبكر يساهم في منع الأعراض من التفاقم، وفي سرعة التعافي.

2. التفاعل الإيجابي مع الكارثة

لا تتحدَّد شدة الصدمة النفسية الناجمة عن حدث ما بقسوة هذا الحدث، إنما بمدى حدة تفاعل الإنسان معه، وما نجم عن هذا من أعراضٍ مرضية.
بيتر ليفين، الباحث المتخصص في الصدمات النفسية، نقلًا عن Psychology today.

الاكتفاء باستعادة مشاهد الكارثة واجترار الآلام والأحزان سيؤدي لا محالة إلى الوقوع فريسة لاضطرابات ما بعد الصدمة، وللاكتئاب، ولغيرها من الاضطرابات النفسية، وإلى خروجها عن السيطرة. في المقابل، فإن هناك أنماطًا أكثر إيجابية من التفاعل مع الكوارث يمكن لها أن تقيَ من تلك الاضطرابات، مثل التكاتف الاجتماعي لمساعدة المتضررين، والمشاركة بالجهد وبالمال في الأنشطة الداعمة، ومحاولة اكتشاف أية زوايا إيجابية ولو قليلة فيما حدث، والاحتفاء بها، مثل التضامن العام والعالمي مع الضحايا، وحملات التبرع الكبرى التي تعزز الروابط الاجتماعية والوطنية والإنسانية.

ويلعب التدين الإيجابي دورًا مهمًّا في تجاوز صدمات الكوارث، حيث يعتقد المتدين أنه حتمًا سيجتمع بمن فقدهم في الدار الآخرة، وأنه سواء عُوِّض أم لم يُعوَّض عما فقَد في الدنيا، فإنه سينال جزاء صبره واحتسابه عند الله. وقد أظهرت نتائج دراساتٍ علمية أن النزوع إلى التدين والروحانيات ووجود غايات كبرى متجاوزة للمرء، يساعد كثيرًا على التعافي النفسي في أعقاب الصدمات الكبرى، وفي سرعة استعادة الإنسان للمشاعر الإيجابية.

اقرأ أيضًا: هل يساعد التدين المكتئبين؟ العلم يجيب

3. الدعم الاجتماعي ومجموعات التعافي الجماعي

توافر الدعم الأسري والاجتماعي والعام للمتضررين من الكوارث، يساعد كثيرًا على التعافي النفسي من اضطرابات ما بعد الصدمة. ويلعب الانضمام إلى مجموعات الدعم النفسي، والتي تضم بعض المتضررين من نفس الكارثة، لمشاركة تجاربهم وأفكارهم ومشاعرهم تحت إشراف من المعالج النفسي، دورًا إيجابيًّا في تحسين جهود التعافي النفسي، فالمشاركة الوجدانية مع الآخرين تعطي المتضررين فرصةً سانحة للتعبير عن مشاعرهم بثقة، ومشاركتها مع من يشعرون أنهم أقدر على تفهُّمها، وبالتالي قدرة أكبر على مجابهة ما يعانونه من تجارب نفسية سلبية.

4. العلاج النفسي

هناك ثلاث إستراتيجيات رئيسة في العلاج النفسي للمصابين باضطرابات ما بعد الصدمة. الأولى هي الملاحظة الجيدة للمريض، والمتابعة الدورية لتطور أعراض الصدمة النفسية لديها، وهل هي في طريقها إلى الانحسار التدريجي، أم أنها ثابتة أو تتفاقم بمرور الوقت، وبالتالي لا مفر من الانتقال إلى الاستراتيجيتين الأخريين، وهما العلاج النفسي الدوائي وغير الدوائي.

فيما يخص العلاج الدوائي قد يضطر الطبيب النفسي في بعض الحالات المتقدمة إلى أن يصف مضادات الاكتئاب مثل الباروكستين والسرترالين من أجل السيطرة على أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، لكن تحتاج تلك العقاقير إلى أسابيع متواصلة من الانتظام في تعاطيها حتى تظهر نتائجها الإيجابية.

ويتكامل مع العلاج الدوائي العلاج النفسي غير الدوائي، مثل العلاج المعرفي السلوكي CBT، الذي ينصب على كيفية التأقلم مع الصدمة ونتائجها ومن ثم تجاوزها. حيث يطلب المعالج النفسي من المريض أن يقص جميع ذكرياته السلبية ومشاعره المؤلمة حول الكارثة، ليتعرَّف جيدًا على نقاط الضعف التي تسبب التفاعل السلبي مع صدمة الكارثة، ويحاول مساعدة المريض تدريجيًّا، وعبر جلسات متتابعة من الحديث، على التخلص من الأفكار السلبية غير المنطقية حول الكارثة، مثل جلد الذات، والاتهام للنفس بالتقصير،  إلى الأفكار الإيجابية المنصبَّة على امتداح القدرة على النجاة منها، والبدء من جديد في أعقابها.

اقرأ أيضًا: أشهر 8 خرافات حول الأدوية النفسية

ومن أنجح أنماط العلاج النفسي المدعمة بأدلة علمية وبحثية قوية، للتغلب على حدة اضطرابات ما بعد الصدمة، لا سيما الذكريات المؤلمة المتعلقة بها، ما يسمى بـ EMDR، والذي يتم عبر جلساتٍ متتابعة، ينصت خلالها المعالج النفسي إلى المريض وهو يقص ذكريات التجربة وآلامها، ويطلب منه أن يتابع بعينه أثناء الحكي حركة يد المعالج المتكررة ذهابًا وإيابًا؛ إذ وجِد أن هذا مع التكرار يقلل من حدة تفاعل المرء مع الذكريات السلبية، مُحدثًا تأثيرًا تلطيفيًّا يشبه مرحلة حركة العين السريعة أثناء النوم، مما يؤدي في النهاية إلى سرعة تجاوز الصدمة النفسية. وفي الجلسات اللاحقة يركز المعالج النفسي على بناء أفكار وسلوكيات إيجابية من أجل المستقبل.

5. حياة صحية ومنظمة

من أفضل ما يساعد في التعافي النفسي من الصدمات تنظيم نمط الحياة اليومي بشكل صحي، يتضمَّن ساعات جيدة من النوم ليلًا ولو بمساعدة بعض العقاقير المهدئة تحت إشراف الطبيب النفسي، والاستيقاظ مبكرًا، وتناول الأطعمة الصحية مثل الفواكه والخضروات والأسماك، وممارسة الرياضة المعتدلة التي تخفف الشعور بالضغط النفسي مثل المشي لنصف ساعة يوميًّا، أو السباحة، أو كرة القدم … إلخ. وتخصيص أوقات ثابتة وكافية للتواصل مع المقرَّبين والأصدقاء، وللأنشطة الاجتماعية المختلفة بصحبة الأسرة والعائلة، فهذا يقلل من مشاعر الاغتراب والعزلة التي تضاعفها اضطرابات ما بعد الصدمة.

اقرأ أيضًا: الأرق يقتلنا: هل يمكن تنظيم النوم؟