تلقت صناعة الكتاب في مصر ضربة مُوجعة خلال الأيام الأخيرة بسبب الارتفاعات المدوية في تكاليفها، بسبب موجة التضخم التي ضربت العالم، التي وصلت بسعر طن الورق المستورد إلى ما يقرب من 40 ألف جنيه بعد الحرب الروسية الأوكرانية.

الورق يُعدُّ العمود الفقري لصناعة النشر في مصر، وبالتالي تُشكل صعوبة الحصول عليه وارتفاع ثمنه ضربة عميقة لجهود تنشيط الصناعة، كما قد تُهدّد وجودها في الأساس إذا ما استمرت تلك الأوضاع في التفاقم.

جنون أسعار الورق

ارتفاع أسعار الورق يؤثر على سعر طباعة الأوراق العادية وملازم الدروس والكراسات المدرسية، وأيضًا الكتب الخارجية المساعدة، ولن يتوقف الناس عن شرائها مضطرين. لكن صناعة النشر للكتب العامة من آداب وفكر وعلوم وتاريخ وكتب للناشئة والأطفال وغيره، في النهاية تحت رحمة القارئ وقدراته، وفقًا للكاتب والروائي إبراهيم عبدالمجيد بمقاله المنشور في جريدة «الأخبار» 15 سبتمبر 2022.

يقول الكاتب الكبير إبراهيم عبدالمجيد في تصريحات لـ«إضاءات»، إن أزمة صناعة النشر تمتد منذ سنوات طويلة وقد تتوقف الصناعة في أي لحظة، لأن نشر الكتب أصبح أمرًا صعبًا والنشر الإلكتروني ليس حلًا لهذه الأزمة، لأن الكتاب الورقي هو الأصل كما أن له ثقلًا ورونقًا آخرين بالنسبة للكاتب.

وأضاف عبدالمجيد: ارتفع سعر الكتاب من جهة، وقلت المعارض العربية من جهة، فأغلقت نحو 30% من دور النشر الصغيرة أبوابها، وفقًا لإحصائية اتحاد الناشرين العرب. كثير من دور النشر أو كلها قللت إنتاجها، فرأس المال وقلة الإقبال على الشراء، لم يساعداها أن تستمر في نشر العدد الذي كانت تنشره كل عام.

وتابع الروائي الكبير: لقد بدأت دور نشر كثيرة تعتذر عن عدم قبول أعمال جديدة لنشرها. سعر الكتاب لا يحدده سعر الورق فقط، لكن أيضًا سعر الطباعة التي ارتفعت بدورها لارتفاع أسعار أدواتها، وأجر مُنسِّق الكتاب ومصمم الغلاف وورق الغلاف والمدقق اللغوى، كما أن مكتبات التوزيع تحصل على نسبة ما بين 35 و50% من سعر الكتاب، إضافة إلى النسبة مما تتكلفه دار النشر من عمل وموظفين ومكان. ومن ثم فستجد أن الكتاب الذي تصل صفحاته إلى عشر ملازم- أي مائة وستين صفحة- سيصل سعره لسبعين جنيهًا، وستجد كتابًا متوسط الحجم في ثلاثمائة صفحة بمائتي جنيه في معرض الكتاب المقبل، وأكثر من ذلك قد يصل إلى ثلاثمائة جنيه أو يتجاوزها».

«الحل هو أن تشتري الدولة ألف نسخة من كل كتاب يتم نشره ويتم توزيعه بأسعار مخفضة داخل منافذ التوزيع المملوكة للدولة مثل منافذ وزارتي الثقافة والشباب أو دار المعارف، هذا الحل سيخفف من عبء دور النشر عبر تحمل الدولة جزءًا من نفقات النشر والتوزيع»، بحسب ما أفاد الروائي عبدالمجيد إبراهيم لـ«إضاءات».

تراجع دور النشر

وذكر الروائي كارم عبد الغفار، عضو اتحاد الكتاب، في تصريحات لـ«إضاءات»، أنه بسبب موجة الغلاء المفاجئة والمتراكمة منذ شهور في الورق وصناعته، فقد تأثرت صناعة النشر بشكل كبير على كل المستويات، فطالت الأزمة الكتاب والطباعة والتوزيع والنشر وأثرت في موظفي الصناعة برمتها، بدءًا بأصحاب الدور ومديري النشر والكُتاب انتهاء بعمال التسويق والشحن ومندوبي البيع والمكتبات.

ويضيف عبد الغفار أنه بعد ارتفاع سعر طن الورق إلى ما يقارب ثلث الثمن من 28 ألف جنيه إلى قرابة 40 ألف جنيه للورق المستورد، واتجهت إدارة كثير من دور النشر إلى تقليص منتجها الورقي وتستعد الآن للتوجه إلى عالم النشر الإلكتروني بشكل أكبر توفيرًا للنفقات وهروبًا من ورطة الغلاء الورقي.

وأما بشأن المؤلفين والكُتاب، فأوضح كارم عبد الغفار أنهم تأثروا هم الآخرون بشكل مباشر، فقد صار غالب دور النشر تفرض على الكاتب المشاركة في نفقة النشر والتوزيع واحتمال عبء مادي كبير من أجل إخراج كتابه، ما جعل كتابًا كبارًا يترددون في قرار النشر، وكذلك فتح الباب واسعًا أمام بيزنس التأليف الذي يتصدر فيه من يملك المال حتى لو لم يكن يملك الموهبة أو ملكة الإبداع، وهذا أخطر ما في الأزمة.

دور الدولة في حل الأزمة

أسعار الورق شهدت ارتفاعات متتالية منذ اندلاع الحرب الروسية- الأوكرانية بسبب ارتفاع بعض الخامات المستخدمة في إنتاجه مثل لب الخشب. وتستهلك الدولة نحو 450 ألف طن من الورق، وتنتج مصر نحو 130 ألف طن وتستورد الباقي من الخارج، وتستورد مصر الورق من العديد من الدول منها فنلندا والبرازيل، وفقًا لتصريحات رئيس شعبة الورق المصرية في حديثٍ تليفزيوني.

ووفقًا لبيان أصدره اتحاد الناشرين المصريين في أغسطس الماضي، فإنه «في ضوء الأزمة الحالية التي يمر بها الناشرون المصريون جراء عدم توفير ورق لطباعة الكتب، تواصل رئيس الاتحاد مع عدد من المصانع المتخصصة في تصنيع الورق بجمهورية مصر العربية وتم الحصول على الأسعار التالية في مصنعي إدفو وقنا، وهي تتراوح ما بين 27200 جنيه/ طن الورق المحلي ، و25850 جنيهًا/طن الورق المحلي.

وفي 15 أغسطس 2022 عقد رئيس اتحاد الناشرين المصريين سعيد عبده اجتماعًا مع قطاع إدارة الأزمات بمجلس الوزراء من أجل مناقشه كافة المشاكل والصعوبات التي تواجه صناعة النشر، وتمت مناقشة اقتراح توجيه دعم خاص لصناعة النشر خلال الفترة الحالية لما تمر به.

تأثير أزمة الورق على معرض الكتاب

ربما لم يحن وقت الحديث عن تجهيزات معرض الكتاب الذي يعد الحدث الثقافي الأضخم في مصر، إلا أن عددًا من القائمين على صناعة النشر يرون أن الأزمة الحالية ستمتد بدورها إلى الحدث الثقافي الأبرز «معرض القاهرة الدولي للكتاب»، الذي بدأت التجهيزات له وفقًا لبيان صادر عن هيئة الكتاب، المنظمة لمعرض القاهرة الدولى للكتاب، فقد تقرر فتح باب الاشتراك للمعرض في دورته 54، لعام 2023، بداية من 15 سبتمبر الجاري حتى 15 أكتوبر 2022.

وبدوره يقول عاصم أحمد مدير النشر بدار «حكاوي»، في تصريحات لـ«إضاءات»، «إن أسعار الكتب ما زالت تشهد ارتفاعات غير مسبوقة وهي بدورها ستؤثر على إنتاجية الكتب، وإذا استمرت الأمور على وتيرتها فسيتأثر معرض الكتاب بسبب القدرة الشرائية للقارئ التي لن تتناسب مع أسعار الكتب الحالية».

 وأضاف، « لا بد من فتح عملية الاستيراد مرة أخرى، من أجل استيراد المواد الخام والورق لأن أغلب ماكينات الطباعة مستوردة، كما أن الورق المحلي لا يكفي نصف احتياجات دور النشر».

وأوضح المؤرخ وعضو اتحاد الكتاب بسام الشماع، أن لديه موسوعة تاريخية كانت تباع بـ200 جنيه ولكن بعد زيادة وارتفاع أسعار الورق سيجد صعوبة في بيعها بنفس الثمن وسيتم مضاعفة سعر الطبعة الثانية ، وأن من سيدفع ثمن هذه الارتفاعات دور النشر الناشئة والقراء».

وتابع، «دور النشر القوية ستتحمل هذه الارتفاعات، ولكن دور النشر الناشئة لن تستطيع الصمود أمام هذه الموجة، كما أن هذه الدور الأكثر اهتمامًا بكتب التاريخ والحضارة مما سيؤثر على إنتاجية هذه النوعية من الكتب».

النشر الإلكتروني: هل يكون الحل؟

وحول الاتجاه نحو النشر الإلكتروني، أشار المؤرخ وعضو اتحاد الكتاب بسام الشماع في حديثه لـ«إضاءات»، إلى أن حلم أي كاتب أو روائي هو أن يصدر كتابه الورقي لأنه له ثقل وقيمة أكبر، مضيفًا «لدي تجربة في المبيعات الإلكترونية بعدما أقدم تطبيق أمازون على شراء أحد مؤلفاتي وبيعها إلكترونيًا مقابل دولارين للنسخة وبعض كتبي يتم بيعها بـ15 دولارًا».

“ويقول الشماع: النشر الإلكتروني قد يكون حلًا في الكتب المجانية التي تصدر مثلًا عن الأزهر لنشر تعاليم وفكر وقيم دينية سليمة، لأن بعض الشباب يتجه نحو القراءة الإلكترونية، ولكن الإشكالية هنا لدى الكُتاب ودور النشر بسبب عمليات القرصنة وحقوق الملكية الفكرية، فمثلًا أنا أمتلك 45 مؤلفًا معظمها كتب تاريخية، إذا تم نشر أحدها إلكترونيًا أجد أن مبيعاته قد انخفضت بسبب السرقة الإلكترونية وجهل كثيرين بحقوق الملكية الفكرية عبر نقل ونشر هذه الكتب من دون وعي بحقوق الناشر.

ويرى الكاتب بسام الشماع أن ما يحدث الآن سيمتد بدوره إلى معرض الكتاب، لأن معظم رواد هذا المعرض من الشباب وسيكون في غير مقدورهم شراء كتاب قد يصل ثمنه إلى 300 جنيه، وأبدى تفاؤله بشأن دور النشر الحكومية التي تقوم بتوفير نسخ كتب مدعومة، موضحًا أن الهيئة المصرية العامة للكتاب ودار المعارف تصدر سلسلة كتب يصل سعر الكتاب فيها إلى 14 جنيهًا.

ومن ضمن الحلول التي اقترحها عضو اتحاد الكتاب، هو تخفيف العبء عن دور النشر من خلال تخفيض أو الإعفاء من الضرائب على الورق والخبر وتخفيض أسعار الكهرباء لتلك الدور، أو إعادة تدوير ملايين الأطنان من القمامة عبر توفير ورق بسعر مخفض للقارئ حتى تصبح القراءة في متناول الجميع.

اقرأ أيضًا: دليلك لقراءة الكتب العربية إلكترونيًا مجانًا أو بسعر زهيد

أمل الخروج من الأزمة

وأوضح يوسف ناصر مدير الدار المصري للنشر والتوزيع، في تصريحات لـ«إضاءات»، إن فكرة استبدال النشر الورقي بالإلكتروني ستصبح صعبة جدًا لأن الإلكتروني لا يمكن أن يحل محلّ النسخة الورقية».

وتابع: لكن هذه الارتفاعات في الأسعار ستؤثر بشكل آخر من خلال تقليل عدد المطبوعات، وبالتالي ستقل فرص الناشرين لدى دور النشر.

“ليس لدينا نشر إلكتروني بالصورة الصحيحة كما يتم الترويج له في الخارج، وفكرة انتشاره ضعيفة جدًا لكن هناك محاولات محترمة أثمرت نتائج جيدة مثل تجربة تطبيق (أبجد)، التي أصبحت مثلها مثل أمازون، بل يتميز أبجد بميزة إضافية، وهي فكرة الاشتراك الرمزي الذي لا يتجاوز 60 جنيهًا في الشهر، إضافة إلى خصومات وعروض وعدد من العروض الترويجية والمسابقات التي أصبحت توفر قراءة عشرات الكتب بأسعار زهيدة»، وفقًا لتصريحات الكاتب والأديب المصري إبراهيم عادل.

وأضاف عادل: هذه التطبيقات الخاصة بالقراءة حلت مشكلة القرصنة والسرقة الإلكترونية للكتب من خلال آليات نشر محكمة تمنع نقل أو نشر المطبوعات، وأوجدت حلًا لمشكلة النشر غير الشرعي في إطار تطبيق إلكتروني يجد حلًا وسطًا بين القارئ الذي أصبح بإمكانه قراءة 10 كتب بـ60 جنيهًا مثلًا، وضمان حقوق الناشر.