الرئيس الأمريكي جو بايدين أعلن، مساء الثلاثاء 22 فبراير/ شباط 2022، عن حزمة جديدة من العقوبات ضد روسيا. وتوعد بايدن أن روسيا ستشهد عقوبات أشد مما شهدته بعد غزوها شبه جزيرة القرم. العقوبة في القانون الدولي هي إجراء تفرضه دولة على دولة أخرى لمنعها من التصرف بعدوانية أو انتهاك القانون الدولي.

وهدف العقوبات في الغالب هو إلحاق الضرر باقتصاد الدولة المعاقبة أو النشاطات المالية الخاصة بكبار السياسيين والمسئولين في تلك الدولة. وفي القانون الدولي تُعتبر العقوبات أشد الإجراءات حزمًا، ثم يليها الحرب مباشرة. وتلجأ الدول للعقوبات حين يكون التفاهم مع الخصم صعبًا بالطرق الدبلوماسية. والأهم حين لا يكون لدى الدول الأخرى القدرة العسكرية الكافية لإخضاع الطرف العنيد.

أما عن الحزمة الجديدة من العقوبات الأمريكية، فتستهدف البنوك الروسية، والمؤسسات المالية الروسية الدولية. كما أعلن عن عقوبات سوف تطال شخصيات مقربة من بوتين، وأردف أن العقوبات تستهدف الاقتصاد الروسي بشكل أساسي، على نحو لا يضر باستقرار أسواق الطاقة العالمية. ذلك التوضيح في حد ذاته كفيل بطمأنة الجانب الروسي، فهو يعني أن الغرب لا يفكر في إوجاع روسيا فقط، بل يفكر في نفس اللحظة كيف يحمي مواطنيه من آثار العقوبات، ما يشير إلى أن العقوبات لن تؤثر بدرجة كافية في الجانب الروسي.

العقوبات التي فُرضت على روسيا عام 2014 كانت عبارة عن تجميد أصول 11 مسئولًا روسيًا، ومنع منحهم تأشيرات للولايات المتحدة. كما جمدّت العقوبات أصول بنك روسيا، ومنعت مساعد بوتين، ونائب رئيس الوزراء، وغيرهما من دخول الولايات المتحدة. ثم لاحقًا أصدرت الولايات المتحدة قرارًا بمنع تصدير أي منتجات أو خدمات دفاعية إلى روسيا. من جانبها أصدرت روسيا عقوبات مماثلة ومنعت عددًا من المسئولين الأمريكيين من دخول أراضيها.

تحريم الدولار الأمريكي

ثم توسعت العقوبات وشملت شركات النفط الأوكرانية الموالية لبوتين. و14 مسئولًا انفصاليًا مواليًا لبوتين. ثم 8 شركات أسلحة كبرى بما فيها عملاق الأسلحة الروسي كلاشنكوف. ومنعت الولايات المتحدة تصدير تقنيات النفط والغاز إلى روسيا. ردت موسكو الصفعة بمنع استيراد العديد من المنتجات الغذائية من الولايات المتحدة والدول الأوروبية التي ساندت العقوبات الأمريكية.

وسعت الولايات المتحدة العقوبات حتى طالت حظر استيراد وتصدير السلع إلى شبه جزيرة القرم بعد السيطرة الروسية عليها. كذلك منعت تصدير التقنيات المستخدمة في التنقيب عن المياه. استمرت الولايات المتحدة طوال عامي 2015 و2016 في إضافة أفراد جدد وكيانات إضافية لقوائم المشمولين بالعقوبات. وفرضت أعضاء على مجلس الدوما في شبه جزيرة القرم. ثم في عام 2017 مددت الولايات المتحدة العقوبات لعام إضافي، ثم مددتها لعام جديد رغم هدوء الأوضاع نسبيًا بين روسيا وأكرانيا. من جانبها أصدرت روسيا طلبًا لـ60 دبلوماسيًا أمريكيًا بمغادرة روسيا، ومددت حظرها على التصدير والاستيراد من الولايات المتحدة.

بعد العدوان الروسي الأخير على أوكرانيا فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان وتايوان وكندا عقوبات جديدة على روسيا. بريطانيا وكندا وسويسرا استهدفوا في عقوباتهم البنوك الروسية والأثرياء من الدوائر المقربة من بوتين، والأثرياء الروس البعيدين عن السياسة لكن من المشهورين بالثراء الفاحش في لندن. أما الاتحاد الأوروبي، ففرض عقوبات تستهدف 70% من القطاع المصرفي الروسي. واليابان أعلنت أنها ستجمد أصولها الموضوعة في بعض البنوك الروسية.

كما توجد تهديدات بعقوبات إضافية قد تواجهها روسيا مثل الاستبعاد من نظام التبادل المالي المعروف بـ«سويفت». «سويفت» هو نظام تديره جمعية الاتصالات العالمية بين البنوك، وتستخدمه آلاف المؤسسات المالية حول العالم. واستبعاد روسيا منه سيجعل من العسير للغاية على البنوك الروسية القيام بأي تعاملات مالية خارج البلاد. غير أن ذلك سوف يؤدي إلى تأثير كبير على البنوك الأمريكية والألمانية لتعاملها الوثيق مع البنوك الروسية، لذا تحتفظ الدول الغربية بهذا الإجراء لنهاية المطاف.

كذلك يمكن للولايات المتحدة أن تمنع روسيا من التعامل بالدولار الأمريكي. ما يعني أن أي شركة تتعامل مع مؤسسة روسية وتتقاضى المقابل بالدولار الأمريكي سوف تتعرض لعقوبات هي الأخرى. لكن يعني ذلك أيضًا أن الصادرات الروسية من النفط قد تنخفض، ما سيؤثر على أسعار الطاقة في أوروبا.

العقاب بالحرمان من الموبايل

من العقوبات المؤجلة أيضًا وضع البنوك الروسية في القائمة السوداء، ما سيجعل من المستحيل عليها إجراء معاملات مالية دولية. ما يعني أن روسيا ستعاني من موجة تضخم قد تضطر الدولة للتدخل بالسيولة النقدية لإنقاذ البنوك. لكن سوف يؤثر ذلك على المستثمر الغربي الذي يمتلك أرصدة ضخمة في تلك البنوك. كما أن روسيا تمتلك احتياطيًا نقديًا يبلغ 630 مليار دولار في بنكها المركزي للوقاية من تلك الصدمات المالية.

كذلك يمكن للولايات المتحدة أن تمنع شركات التقنية من تصدير أشباه الموصلات المستخدمة في السيارات أو الهواتف الذكية أو صناعات الفضاء إلى روسيا. وسوف تكون تلك بمثابة ضربة قاصمة للصناعات الروسية، لكنها بالتبعية سوف تضر الشركات المُصدرة.

أو تنتهج الولايات المتحدة نهج التعامل مع هواوي الصينية في التعامل مع الشركات الروسية المصنّعة للهواتف. فتفرض عقوبات تحرم الروس من هواتفهم المفضلة من الأجيال الجديدة، أو أجهزة الحاسب المحمول. ويمكن لأي شركة أمريكية أن تحجب تطبيقاتها الذكية عن الجانب الروسي. لكن مع الأخذ في الاعتبار أن الصين تجاوزت أزمة «هواوي» بسهولة، وأن روسيا تمتلك بديلًا روسيًا لكل تطبيق ممكن، فيمكن لروسيا تجاوز الأزمة بسهولة، سواء بمفردها أو بمساعدة الصين.

الاقتصاد الروسي يمكن وصفه بالاقتصاد الحصين بسبب الاحتياطي الضخم من العملات النقدية الأجنبية. وبسبب أن دين روسيا الخارجي لا يتعدى 20% من الناتج المحلي، وهو واحد من أقل المعدلات في العالم. والدولار الأمريكي لا تستخدمه روسيا إلا في نصف معاملاتها الدولية فحسب، بعد أن كانت تستخدمه في 80% من معاملاتها قبل عشرين عامًا.

بوتين يعرف كيف يعوّض رجاله

وكل ذلك التحصين بدأ فقط بعد العقوبات التي تلت غزو شبه جزيرة القرم. كما أن العقوبات سترفع أسعار النفط، ما سيوفر لروسيا أرباحًا هائلة تقدر بـ17 مليار دولار سنويًا. ما قد يعوض الخسائر التي قد تحدثها العقوبات، والتي يُتوقع أن تُعرقل الناتج المحلي بنسبة 3.5% فحسب.

لهذا فتأثير العقوبات الغربية على روسيا يظل حتى اللحظة تأثيرًا هامشيًا، ويمكن لروسيا النجاة منه. ولكي توجه القوى الغربية ضربة موجعة للدب الروسي سيكون عليها أن تتحمل هي الأخرى نصيبها من الألم من تبعات تلك العقوبات. النجاة تأتي من قوة الاقتصاد الروسي من جهة، ولوجود دول أخرى يمكن لروسيا أن تلجأ إليها لتعوضها عما منعها الغرب منه. الصين إحدى أبرز تلك الدول، فقد وقعت الدولتان عقودًا لتصدير النفط والغاز وصلت إلى عقود لمدة 25 عامًا.

كما أنه من الملاحظ غياب التناغم الأوروبي والأمريكي بخصوص مدى القسوة التي يجب على الغرب أن يصل إليها في العقوبات مع روسيا. فبرلين تستورد 46% من الغاز الطبيعي من روسيا. ولا يمكن لأي دولة أخرى تعويض ألمانيا عن ذلك، حتى لو طلبت ألمانيا من دول الخليج فسوف يستغرق ذلك شهورًا طويلة من البنى التحتية. ولا يمكن للولايات المتحدة سد الفراغ الذي سيخلفه الجانب الروسي.

بوتين يدرك ذلك جيدًا لذا يبدو غير مكترث بالعقوبات الغربية، سواء التي طُبقت بالفعل أو التي يتوعد المسئولون الغربيون بتطبيقها. لأنه بالتأكيد كان يتوقع تلك الخطوة من جانب أوروبا. لهذا استطاع عبر تقليص الاعتماد على الدولار، وتوجيه التجارة إلى دول جنوب شرقي آسيا، إلى الحفاظ على ثبات الاقتصاد الروسي في حال عزله غربيًا.

كما أن بوتين يعرف كيف يعوّض المستثمرين الذين تطالهم العقوبات الأجنبية. فقد حصل الأثرياء الذين خسروا منازلهم في لندن، أو حساباتهم في البنوك الأمريكية، على عقود ضخمة للمقاولات أو للطاقة في روسيا. لذا لا تؤدي العقوبات الغربية الهدف المرجو منها بإثارة سخط النخبة السياسية أو الطبقة الغنية على بوتين، بل على النقيض تُقربهم أكثر من بوتين.

الغرب لم يتعلم الدرس

كما أن المراهنة على إثارة الداخل الروسي ضد بوتين مراهنة غير منطقية. فبوتين يحكم بقبضة من حديد، ويستطيع قمع أي صوت من الداخل ينادي بالخضوع للعقوبات الغربية.

والأهم أن بوتين خلال السنوات الثماني الماضية، بعد عقوبات القرم، قد خفض مستوى الدخل الفردي ومستوى المعيشة الإجمالي للمواطن الروسي. وخفّض الواردات الغربية لأقل من الربع، ودفعت الشركات الروسية المبالغ المستحقة للدائنين الخارجيين، ما أدى لخفض الدين الخارجي لأقل من الثلث.

ما يعني أنه لو عُزلت روسيا عن العالم بالكامل لمدة عام كامل، ومنعت العقوبات 100% من الصادرات والواردات الروسية، فإن روسيا سوف تستمر في الحياة بالوتيرة الحالية من دون أن يلحظ المواطن الروسي أي فرق، بل وسيبقى لديها فائض من احتياطات الذهب والعملات النقدية. كما أن المواطن الغربي الذي يؤمن بالديمقراطية والحياة المرفهة لا يمكن مقارنته بالمواطن الروسي المتمسك بالعمق القومي والاجتماعي الكافيين للالتفاف حول القيادة السياسية وتحمل قدر من التقشف في سبيل مواجهة سيطرة الغرب على روسيا.

لقد وعت روسيا درس العقوبات جيدًا، لكن الواضح أن الغرب هو الذي لم يفهمه، ولم يُقلل ارتهانه بين أيادي الطاقة الروسية حتى اليوم. ويبدو أن الثمن الذي ستدفعه الولايات المتحدة والغرب من العقوبات سيكون أكبر مما ستدفعه روسيا، والثمن الأبرز سيُدفع وقت رفع تلك العقوبات، لأن رفع العقوبات يعني خسارة أحد الطرفين كرامته وإراقة ماء وجهه، ومن المعطيات الحالية يبدو أن هذا الطرف لن يكون روسيا.