يسأل سائل: ألا تعد نظرية التطور في أصلها نقضاً للطريقة الدينية في التفكير والنظر إلى الأمور؟ ألم تعطِ الإنسان طريقة أخرى للتفكير في العالم والمخلوقات وتفسير تعقدها وبيان أسباب تنوعها بطريقة علمية منهجية بعد أن احتكر الخطاب الديني قضية الخلق والمخلوقات لقرون مضت؟

نقول: تكلمنا فيما سبق عن نظرية التطور وأهميتها في علم البيولوجيا، وسنأتي في مقالات لاحقة إن شاء الله تعالى إلى الرد التفصيلي عن بعض التعارضات المتوهمة بين نظرية التطور ودين الإسلام.

فنتكلم عن طبيعة النظريات العلمية، وأنها بحث في النظام السببي الذي نعتقد أن الله تعالى يُجري الكون على أساسه، مجيبين عن بعض ما يظنه البعض من أن النظرية أغنتنا عن الاحتياج للخالق.

ثم نتكلم عما جرى في الغرب من الصراعات بين العلماء الملحدين، وبين التخليقيين المسيحيين حول عمر الأرض وتطور الحيوانات.

ونختم بالكلام على التطور الإنساني، وقصة سيدنا آدم عليه السلام.

وقبل أن نحل هذا المشكلات بإذن الله تعالى، نشرع في مقدمة في غاية الأهمية حول كيفية التعامل مع التعارضات بين الحقائق المختلفة، وموقع فكرة «الإنسان الأول» من نظرية التطور ومن الدين، فليتمهل معنا القارئ الكريم، وسيجد الجواب شافياً بإذن الله تعالى في نهاية المقال.

نظرتان للعالم

هناك معلومات جزئية يعلمها الإنسان، كعلمه أن الهيدروجين والأوكسجين يُكوِّنان الماء. وهناك مجموعة من القضايا الكلية، والسرديات narratives التي تتشكل في عقل الإنسان، وينظر من خلالها إلى الوجود، ويرى كل المعلومات التفصيلية في ضوئها.

وقد حاول كثير من ملاحدة العصر تكوين هذه النظرة الكلية الإلحادية للعالم، عن طريق التلفيق بين قضايا علمية ثابتة، وقضايا علمية متوهمة أو غير دقيقة، وآراء فلسفية غير مسلَّمة، محاولين بذلك تكوين «دين» في مقابل الدين. ونحن إذ ننقد هذه النظرة الكلية الإلحادية، فإننا في الحقيقة لسنا مناوئين للعلم أبداً، بل نريد للعلم أن يظل صافياً قائماً بدوره العظيم في الكشف عما في الكون من علاقات وقوانين وأسباب، وألا يستخدم استخداماً أيديولوجيا لا لينصر الدين، ولا لينصر الإلحاد.

الإنسان يتعامل مع الواقع الخارجي The objective reality، ولكنه في نفس الوقت يتعامل معه تعاملاً شخصياً Subjective، فيحتاج لأن يعرف ماذا تعني هذه الموجودات كلها، لا بشكل عام موضوعي فقط، بل ماذا تعني له هو على وجه الخصوص، فبمجموع المذاهب والأفكار والمسائل يشكل الإنسان بذلك Paradigm خاص به ينظر في الحقائق حوله، فبه يصير عنده نظرة كلية للعالم وللتاريخ World View تخصه هو. ولتتأمل أيها القارئ الكريم في هذه الفكرة، فإنها جديرة بالتأمل.

ونحن لنا نظرة للعالم، مستمدة من الدين. لا نقول إنها نظرة للعالم تتعلق بما يتعلق به العلم من البحث في قوانينه وأسبابه البيولوجية والفيزيائية، وإنما نظرة إليه من حيث هو موجود، ومن حيث مبدؤه ومعاده، ومن حيث دور الإنسان فيه.

قال هؤلاء الملاحدة الجدد: قديماً ظن الإنسان أن الدين صحيح، فسَّر به الواقع الذي يراه، ومن جملة الأساطير التي كانت موجودة أن الحياة تفتقر إلى خالق قد صمم المخلوقات واخترعها كما هي، وأن الإنسان في الحقيقة «ابن آدم»، مع أن آدم هذا –كما يدعون- شخصاً ليس موجوداً حقيقياً، هو شخصية أسطورية، من جملة أساطير الأديان، وقد أعلمتنا النظرية التطورية أنه لا يوجد إنسان أول، بل البشر جميعاً هم نتاج تطوري لنتاج سابق من الكائنات الحية، والإنسان ليس مخلوقاً مكرماً خلقه الإله، بل هو Primate with a complex big brain، حيوان من جنس القرود بمخ أعقد. فقصة الأديان خرافة باطلة، كشف زيفها علمنا بالطبيعة ولنظرية التطور الفضل الكبير في هذا.

وبهذا الأمر انتقل الملحد إلى رسم سردية جديدة عن الإنسان، ككائن بيولوجي يسعى نحو البقاء في بيئة البقاء فيها للأصلح، وفي هذا السياق تم تفسير كل ما هو متعلق بالإنسان، في ضمن هذا الـ Paradigm، وبناء على هذه الـ  World View التي كان الإنسان لغزاً كبيراً فيه، وكان احتكار الدين للقصة احتكاراً كبيراً.

ونحن في المقابل لنا سردية أخرى، الفرق الأساسي فيها هو: عدم خلط الحقائق ووضع كل شيء في موضعه.

فنقول:

الإنسان وجد نفسه في هذا الكون وهو مجبول على البحث عن مصالحه، فهو يعمل دائماً ليوفر لنفسه احتياجاته البيولوجية من الطعام والدفء والجنس، واحتياجاته النفسية من السعادة والرضا والمحبة. وقد ظلت معرفته عن الكون من حيث ما وجد فيه من الأسباب والقوانين والعلاقات، علاقة معرفة تزداد يوماً عن يوم. ولكن الإنسان يتعلم عن العلاقات السببية الكونية منذ عصوره السحيقة إلى عصرنا هذا بطريقة أساسية وهو: التجربة والخطأ Trial and Error. فالإنسان قديماً جرَّب النار فوجدها تحرق، والإنسان حديثاً جرَّب وضع عناصر مع بعضها ليشكل منها مركَّباً له خصائص معينة. ولم تزل هذه طريقة الإنسان في التعرف على الكون.

ولكن الإنسان نظر مرة إلى السماء وسأل نفسه:

لِــمَ؟ لماذا هناك وجود بدل العدم؟ لماذا تجري الأشياء التي فسرتُ العلاقات بينها على هذه الطريقة المعينة دون غيرها؟ ألم يكن ممكناً في العقل ألا يوجد شيء أصلاً؟ أو توجد الأشياء بعلاقات وقوانين مختلفة فتنتج بطبيعة الحال واقعاً مختلفاً؟

فلمَّا تأمل في الكون وجده ممكن الوجود حادثاً، ووصل بعقله أن حصول الشيء الممكن بلا سبب محال، وأن سلسلة الأسباب الممكنة لا بد أن تنتهي إلى واجب الوجود مسبب الأسباب. والكون كله بقوانينه كلها لا يفسر ظاهرة الوجود من حيث هو وجود ممكن (أياً كانت طبيعة هذه الموجودات وما فيها من قوانين). فوصل بذلك إلى وجوب وجود الخالق.

ورأى الكون يجرى على وفق قوانين سببية، هي كلها فعل الله وخلقه، أي أن الله أراد أن يكون العالم على هذه الصورة. وأعطى الإنسان من الأدوات الحسية والعقلية ما يمكِّنه من اكتشاف الكون عن طريق البحث في العلوم.

ثم جاء في التاريخ البشري بعض الأشخاص، كشخص سيدنا محمــد – صلى الله عليه وسلم – وادعوا أن الإله الذي خلق هذا الكون قد أوحى إليهم أنه لم يخلق الخلق عبثاً، وأنه كلَّفهم بما تتقوم به إنسانيتهم على الحقيقة، وحدَّ لهم حدوداً في ملكه لا يتجاوزونها، وأمرهم بالإحسان في كل شيء، وأعلمهم أن الموت ليس نهاية المطاف، وأن الإنسان ينتقل بالموت من دار العمل إلى دار العدل والجزاء، وحكى لهم من القصص ما يعينهم على التعرف عليه ومحبته والسير إليه وعبادته الذي هو مقتضى ما يفرقهم عن سائر أنواع الحيوانات، ثم أنزل مع هؤلاء الرسل ما يؤيد صدقهم (وسنأتي في مقالات لاحقة بدلائل صدق النبوة مفصلة إن شاء الله).

كل ذلك في اعتقادنا لا يؤثر في أن العلم التجريبي هو وسيلة التعرف على ما في الكون من علاقات: كيف تنمو الكائنات؟ ما علاقة نمو النباتات بتعرضها للشمس؟ ما علاقة الفيروس الفلاني بانتظام الجهاز التنفسي؟ ممَّ تتكون الأشياء في موادها الأولى؟ وما إلى ذلك. فهذه نفهمها عن طريق التجربة والخطأ، وهي موضوع العلوم المختلفة.

أما الدين فإنه يتعلق بما وراء هذا الكون: هل يمكن عقلاً قيامه بنفسه من غير خالق؟ ماذا يريد الخالق منا وكيف يحاسبنا؟ وهل ثمة عالم غيبي لا يمكننا أن نراه بأعيننا؟ وهل الموت نهاية المطاف أم أن وراءه صورة أخرى من صور الوجود؟ وهل يستوي عند خالق هذا الكون من عاش ظالماً ومن عاش مظلوماً مع مصير كل واحد منهما للتراب؟

ثم يتعلق الدين بذكر قصص عن الكون، يحكيها لأغراض دينية، ولا يذكر فيها كثيراً من تحيزات الزمان والمكان والأشخاص، وإنما يسرد ما يتعلق في هذه القصص بدور الدين. فيقول مثلاً (واضرب لهم مثل القرية التي كانت حاضرة البحر). فلا يذكر اسم القرية، ولا زمن القصة، ولا أسماء الأشخاص، لأن القرآن لم يسرد هذه القصص للتأريخ، وإنما لبيان المعاني الدينية من خلال أكثر الطرق في التاريخ البشري تأثيراً في أفكار الإنسان، من خلال القصة.

موقع قصة سيدنا آدم من الدين، ومن العلم

فرعية النوع البشري لنظرية التطور:

أحد القصص القرآنية هي قصة سيدنا آدم، الذي أشار القرآن الكريم إلى أننا بنوه. فقال {يا بني آدم}. وحكى القرآن الكريم خلق آدم، ووسوسة الشيطان له ولزوجه، ثم مصيره إلى الأرض. هذا موقع قصة سيدنا آدم من الدين.

ونظرية التطور تتكلم عن بلايين الكائنات الحية على مدى بلايين السنين، فالمسألة وإن كانت مهمة لنا لأننا بشر، إلا أن الإنسان في الحقيقة واحد من هذه البلايين من الموجودات. وكذلك أصل الإنسان في التطور وإن كانت مسألة مهمة لنا لأننا بشر، إلا أن الإنسان فصيلة واحدة من 1 إلى 4 بلايين فصيلة قُدِّر أنها عاشت على كوكب الأرض.

فأصل النوع الإنساني هو أمر فرعي في نظرية التطور.

فرعية خلق الإنسان للدين:

الأدلة على وجود الله تعالى عقلية، ناظرة في العالم الموجود من حيث كونه موجوداً، وليس جزءاً منها شيء متعلق بنظرية التطور.

وكذلك صحة دين الإسلام، الاستدلال عليها بالنظر في حال النبي – صلى الله عليه وسلم – وما جاء به من الآيات الدالة على صدقه، وليس في ذلك أمور متعلقة بالبحث البيولوجي الذي تبحه فيه نظرية التطور.

فالإسلام له أصول وفروع. الأصول: أصول العقائد، كالإيمان بالله تعالى وصفاته، ما يجب له تعالى وما يستحيل وما يجوز، ثم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما يجب في حقهم وما يستحيل وما يجوز، والإيمان بالغيبيات كالملائكة والشياطين واليوم الآخر، والإيمان بالرسل، والإيمان بالكتب التي جاء بها الرسول وغير ذلك.

وقد جاءت هذه المعارف وغيرها في الكتب المنزلة، ثم من جملة ما جاء هو قصة خلق سيدنا آدم.

فقصة سيدنا آدم كما هو ظاهر فرع من فروع الدين الثابت بالبراهين القطعية.

قضية الأصلية والفرعية:

والتنبه لهذه القضية في غاية الأهمية، قضية أصلية المسألة أو فرعيتها، إذ المسائل لا تنتهي، والإشكالات الجديدة التي تعرض للإنسان تتجدد كل مدة، ومعرفة موقع هذا الإشكال من المنظومة الدينية الكاملة أمر مهم، فأصل وجود الله تعالى، وأصل صحة الإسلام، ثابتة ببراهين قطعية، وعليه فطالما السؤال أو الإشكال هو في جزئية، أو معنى من المعاني، فإنه يكون فرعاً، ولا ينبغي لمن يُشكل عليه هذا أن يتسلسل به فيشكل على أصل صحة الإسلام، إذ هو إشكال فرعي، ولا يكون ذلك طعناً في أصل ثابت بدليل برهاني مستقل.

ونفس الكلام يقال على نظرية داروين وعلى كل نظرية معرفية، فالإشكالات تتجدد ومعرفة موقع الإشكال من المنظومة العلمية أو النظرية العلمية مهم، فالنظرية إن ثبتت بأدلة متضافرة لا يشكل عليها أمور فرعية فنضطر لهدمها من أصولها.

نحن سنحل هذا الإشكال الفرعي في سلسلة مقالاتنا هذه بما ينير العقول إن شاء الله تعالى. ولكننا أحببنا التنبيه على هذه القضية لأهميتها في تناول الإنسان لهذه المواضيع؛ إذ الإشكالات والأسئلة لا تنتهي. فغاية الأمر أن يجهل الشخص كيف يحل الإشكال الفرعي، فيسعه التمسك بالأصول الثابتة عنده بالبراهين، ثم المرور على ما أشكل عليه، وتفويض العلم به إلى الله تعالى، عسى أن يفتح عليه به بعد حين.

فالحاصل: أن البحث في هذه القضية ليس من أصول الدين، ولا من أصول نظرية التطور. بل هي مسألة فرعية في كلا المجالين.

لا نريد بذلك أن نقول إن البحث فيها ليس مهماً، ولكن نريد أن نهدِّئ من تسرع ورعونة الباحثين من الجانبين: المتدينين الذين ينقضون أحد أهم النظريات العلمية في القرن الماضي، وهي التطور، من أجل لازم فرعي من لوازمها، أو الملحدين الذين ينكرون الدين لأجل أنهم يتوهمون تعارضه مع فرع واحد.

وإن الكثير من النظريات العلمية البالغة في القوة الغاية القصوى يحصل بينها تعارضات، ولا يحمل هذا العلماء الحقيقيين على إنكار أي منهما.

فلنضرب مثالاً على أقوى نظريتين علميتين في العصر الحديث، وهما نظرية النسبية لأينشتاين، ونظرية ميكانيكا الكم. كلا النظريتين من أقوى النظريات العلمية الحديثة، بل إن كليهما أقوى من نظرية دارون من حيث متانة الأدلة وقوة التنبؤات. كلاهما نظريتان علميتان يقاربان المقطوع بهما علمياً. تخيل أن هاتين النظريتين اللتين هما بهذه القوة متعارضتان بينهما تعارض لم يستطع العلماء حله إلى الآن؟! هذا تعارض بين أهم وأقوى نظريتين علميتين لم يستطع العلماء حله ومع ذلك لم يدفع ذلك العلماء إلى إنكار أي منهما، بل لم يزل العلماء يعتمدون عليهما، ويستكملون البحث حتى يصلوا إلى إنجاز علمي يحل هذا الإشكال.

فالأسئلة المفتوحة موجودة في كل بحث علمي. بل إن كل نتيجة نصل إليها تفتح لنا ألف سؤال غير مجاب، وهذه طبيعة الإنسان ومحدوديته في العلم والمعرفة {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً}.

هذه مقدمة أردنا قولها. ثم نشرع في أربع مقالات قادمة في حل أهم الإشكالات التي يطرحها الناس بين الدين وبين التطور.

خلاصة ما أردنا قوله في هذا المقال

أن أخطر القضايا المعرفية هي القضايا الكلية التي تشكل للإنسان طريقة في النظر للكثير من المسائل. وأنه ينبغي أن يتنبه الإنسان إلى أن يُكَوِّن آراءً جزئية صحيحة، لكنه ينبغي أن يكون أشد تنبهاً إلى تكوين تصورات عامة حاكمة صحيحة. ورفضنا النظرة الكلية التي صنعها بعض الملاحدة بناء على التطور يريدون بها تصوير العلم كدين، متعدين به عن مجاله في الكشف عن العلاقات السببية الكونية، خالطين بين الحقائق العلمية وبين آرائهم الفلسفية يريدون أن يكتسبوا من قوة العلم دعماً لها. والعلم كما نرى لا بد أن يبقى في محله ومجاله من تفسير السببية، ولا يُتعدى به عن محله.

ثم قلنا إنه ينبغي أن نفرق بين التعارض في الأصول، وبين التعارض في القضايا الفرعية التي تطرأ على الفكر البشري كل يوم. ولو كان كل تعارض جزئي، أو سؤال مطروح، سبباً في نقض كل أصوله، لكنا أبطلنا أقوى نظريتين علميتين في القرن الماضي (النسبية لأينشتاين والكوانتم) لأن بينهما إلى الآن تعارضاً لم نتمكن بعد من حله. فقلنا إن هذه المسائل التي نحن بصدد مناقشتها في المقالات القادمة ليست من أصول الدين، وليست كذلك من أصول البيولوجيا التطورية، بل هي بحث في فروع كل منهما.

وإلى المقالات القادمة للجواب على هذه الأسئلة إن شاء الله تعالى.