في عام 2009 تحدث وزير الخارجية بحكومة حزب العمل البريطاني ديفيد ميليباند في خطاب مطول خلال ندوة بقسم للدراسات الإسلامية في جامعة أكسفورد، وقال حرفيًا في كلمات لا تخلو من صدق ملموس مع الذات ورغبة حقيقة في مد اليد للآخر الثقافي والديني:

يجب أن يتولد لدينا فهم أكبر للعالم الإسلامي
ليس هناك جواب واحد للسؤال حول كيف نعيش. إنني مؤمن تمامًا بأن هناك قيمًا مشتركة يمكن تعقب آثارها في مختلف الثقافات والأديان.
ليس هناك نموذج واحد للحياة الكريمة، لا بد من وجود نموذج أفضل مما لدينا الآن لكي يتعاون الناس الذين يعتنقون وجهات نظر مختلفة، تنبع من إيمانهم بديانات مختلفة، مع بعضهم البعض.
هنالك قرارات اتخذت منذ سنوات طويلة في وزارة الخارجية البريطانية ما زال أثرها ملموسًا على الخارطة في الشرق الأوسط وجنوب آسيا.

على الضفة الأخرى من بحر المانش الفاصل بين البلدين، يتحدث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منذ عام 2018 في المقابل عن «إعادة هيكلة الإسلام»، وعن عزمه وضع «أسس التنظيمية للإسلام» بالجمهورية الفرنسية، كما ذكر خلال حوار مع صحيفة Journal du Dimanche في العام نفسه.

وأخيرًا قال السيد ماكرون في خطاب له، الجمعة 2 أكتوبر/تشرين الأول، إن «الإسلام دين يعيش في أزمة في كل مكان من العالم»، وإن على فرنسا «التصدي للانعزالية الإسلامية»، التي تسعى إلى «إقامة نظام موازٍ» وإلى «إنكار الجمهورية».

فإذا كان الإسلام في فرنسا وفي العالم بوجه عام يعيش أزمة بحق. فما هي؟ ومن المتسبب في تلك الأزمة التي يتحدث عنها الرئيس الفرنسي؟ ولماذا الآن تعود فرنسا للتدخل السياسي خارجيًا بهذا الشكل اللافت للانتباه في العالم العربي والإسلامي لا سيما في مستعمراتها السابقة؟ في الوقت نفسه الذي تتصاعد فيه الميول اليمينية العنصرية داخلها بشكل ملحوظ.

الحنين إلى الاستعمار

في حين تخلصت معظم الدول الاستعمارية السابقة من أوهام العظمة لديها، بل ومرت ثقافيًا واجتماعيًا وأكاديميًا كذلك بحالة من مراجعة الذات للتخلص من عقدها السابقة، لا تبدو فرنسا الذي تعيش اليوم في كنف الجمهورية الخامسة، أنها تخلصت على مستوى نخبتها الثقافية والسياسية على نحو كاف بعد من العقدة الاستعمارية، ومن الجرح النرجسي لإمبراطورية آفلة كانت تدعي دومًا أنها جمهورية الحرية والإخاء والمساواة، رغم كل الممارسات الرهيبة التي مارسها حكامها بحق شعوب المستعمرات الفرنسية السابقة.

يشهد بهذا تاريخ الجزائر وساحل العاج والسنغال ومالي والنيجر وبوركينا فاسو وبنين والكاميرون والكونغو وموريتانيا وتونس والمغرب والهند الصينية (فيتنام- لاوس- كمبوديا) وغيرها، المليء بذكريات المذابح والقتل العشوائي والاغتصاب والإعدامات الجماعية والتعذيب الدموي؛ بحق ساكنة هذه البلدان، كل هذا غير نهب الثروات الواسع تلك البلدان على مدار عقود.

حتى بعد انسحابها الظاهري من مستعمراتها الأفريقية السابقة، تورطت فرنسا في ممارسات دموية هائلة في دول مثل رواندا، حيث خلصت تحقيقات وشهادات تاريخية إلى علم فرنسا باستعدادات متطرفي قبيلة «الهوتو» لهجمات وأعمال لإبادة الجماعية، بل وشاركت في تدريبهم، وتورط القوات الفرنسية العاملة هناك بشكل مباشر في أعمال القتل والتعذيب والاغتصاب وبيع الأعضاء البشرية.

لا تزال فرنسا حتى اليوم تمتلك العديد من الأراضي والبلدان المستعمرة، وتطلق عليها اسم المقاطعات والأقاليم الفرنسية ما وراء البحار مثل غويانا الفرنسية في أمريكا اللاتينية، وبولينزيا الفرنسية جنوب المحيط الهادي، وجزيرة مايوت التابعة لأرخبيل جزر القمر في شرق أفريقيا، وهذا فقط على سبيل المثال لا الحصر.

ورغم الاستقلال النظري للعديد من الدول الأفريقية التي كانت مستعمرة من قبل فرنسا، لا يزال البنك المركزي الفرنسي يسيطر على اقتصاديات 14 دولة أفريقية، وتسمى مجموعة تلك الدول بمنطقة «الفرنك الأفريقي» أو «أفريقيا الفرنسية»، وهي دول تعاني حتى اليوم من التخلف والتبعية بسبب الصيغة الاستعمارية المستمرة التي يتموضع اقتصادها خلاله كهامش طرفي ضمن معادلة المركز/ الأطراف مع «المتروبول» الاستعماري، ويعتمد اقتصادها بشكل أساسي على بيع المواد الخام الرخيصة لفرنسا أو من خلال فرنسا.

عودًا على ذي بدء، لا ريب أن العالم الإسلامي والمسلمون يعيشون في الوقت الراهن العديد من الأزمات لا أزمة واحدة كما يقول ماكرون، أزمات اجتماعية وسياسة واقتصادية وثقافية وعلى صعد أخرى مختلفة، إلا أننا عندما نتساءل عن أهم الأسباب العميقة لمختلف هذه الأزمات، يبرز أمامنا سبب جوهري، ألا وهو مشكلة الواقع ما بعد الاستعماري، بعد خروج المحتل البريطاني والفرنسي مخلفًا وراءها تحولات هيكلية سياسية وقانونية واجتماعية، خلقت تشوهات بنيوية مزمنة على كافة الصعد في البلدان الإسلامية المستعمرة سابقًا.

أزمة دمج المهاجرين المسلمين في فرنسا

بعد إعلان إيمانويل ماكرون وضع «الأسس التنظيمية للإسلام» بالجمهورية الفرنسية خلال النصف الأول من عام 2018، بالتشاور مع مجموعة من المفكرين والأكاديميين والباحثين إلى جانب ممثلين من جميع الديانات، بهدف تشكيل أسس «الإسلام الفرنسي»، أعلن رئيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية رفضه وصاية الدولة الفرنسية على الإسلام.

لكي نفهم جانب من خلفيات هذا التوجه الذي بات ينظر للأقلية المسلمة كتهديد اجتماعي وسياسي، في إصرار على نهج أثبت خطأه في التعامل مع المهاجرين المسلمين، نحتاج إلى الرجوع عدة سنوات إلى الوراء.

مثلت أحداث العنف الكبيرة التي شهدتها ضواحي باريس عام 2005، وما شهدته من إحراق لآلاف السيارات وعدد من المباني العامة خلال 19 ليلة متواصلة، مؤشرًا على الاحتقان الاجتماعي العالي في تلك المدينة التي باتت توصف من قبل علماء الاجتماع في مطلع القرن الحالي بـ«مدينة الجيتوهات»، بعد أن أصبح الأبارتهايد هو الملمح السائد في نظامها الاجتماعي.

عقب الأحداث الدامية أعدت مجموعة الأزمات الدولية في مارس/آذار 2006، تقريرًا أوصت خلاله بكبح جماح مختلف أشكال العنف الذي تمارسه الدولة ضد الضواحي العمالية الفقيرة التي تقطنها أغلبية مسلمة، والعمل على إشراك سكانها المسلمين في العملية السياسية، والتراجع عن التمييز الاجتماعي ضدهم.

على صعيد آخر، تمثل الصيغة العلمانية المتشددة التي تتبناها الجمهورية الفرنسية، عائقًا مستمرًا يحد من اندماج مسلمي هذا البلد، الذي يضم أكبر جالية مسلمة في أوروبا، على خلاف النموذج الأنجلوسكسوني الذي يحترم التعددية الثقافية والإثنية. ويمكن النظر هنا إلى العلمانية في فرنسا، إلى أنها باتت منذ القرن الثامن عشر بمثابة دين الدولة، الذي لا يقبل أن ينافسه أي دين آخر سواء كان المسيحية الكاثوليكية أم الإسلام.

في هذا السياق صارت الثقافة الفرانكفورنية أحد أهم منابع «التطرف» بحسب الباحثان ويليام ماكانتس وكريستوفر ميزيرول في دراستهما التي نشرت مجلة أفيرز الأمريكية خلاصتها تحت عنوان The French Connection، حيث يخلص فيها الباحثان إلى أن أربعًا من الدول الخمس التي تشهد أعلى معدلات تطرف في العالم هي دول فرانكوفونيه، وأن الثقافة السياسية الفرنسية تنتج معدلات أعلى من التطرف أكثر من غيرها.

تطرف أنتج معدلًا غير مسبوق من عمليات العنف العنصري ضد المسلمين في عام 2019، كما ينقل جوزيف مسعد الأستاذ بجامعة كولومبيا في نيويورك عن منظمة «التجمع ضد الإسلاموفوبيا في فرنسا» في مقال له بموقع ميدل ايست أي البريطاني، حيث تم تسجيل العام الماضي وقوع 1043 حادثة معادية للإسلام بزيادة 77% في المائة عن عام 2017.

يثير تدخل الرئيس الفرنسي الآن في شئون الديانة الإسلامية ورغبته في إعادة تنظيم ممارستها في بلاده، تساؤلات حقيقة عن ماهية العلمانية. أو ليست الأخيرة وفق تعريفها التقليدي هي فصل الدين عن الدولة؟ فبأي مسوغ قانوني ودستوري إذن يقوم رئيس الجمهورية الفرنسي بالتدخل في شئون ديانة لا يعتنق عقيدتها حتى؟ بل ويسمح لنفسه أيضًا بممارسة دور الفقيه المجدد الذي سيعيد وضع أسسها ومبادئها!

هذا فضلًا عن أن قانون 1905 في فرنسا يساوي بين الأديان جميعًا، فكيف لخطة تتبناها الدولة أن تركز على الإسلام حصرًا، كما يعتزم ماكرون على فعله الآن، دون أن تؤثر تلك الخطة الحكومية في تطبيقها على الأطر التنظيمية لممارسة مختلف الأديان على التراب الفرنسي.

باريس واليمين الشعبوي

لا تمثل فرنسا استثناء في الموجة الشعبوية الجديدة التي تجتاح أوروبا، وقد تحول هذا الصعود في فرنسا إلى تهديد ملموس في انتخابات الرئاسة عام 2017، بعد نجاح ماري لوبان زعيمة حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف وصعودها اللافت في الجولة الأولي قبل أن تخسر أخيرًا أمام ماكرون في الجولة الثانية.

تضافرت عوامل مختلفة في صعود ظاهرة اليمين الشعبوي الجديد في فرنسا، منها ما هو سياسي ومنها ما هو اقتصادي، ويمثل العامل الأبرز فيها ازدياد عدد المهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين بأعداد كبيرة في البلاد، وما ترتب على ذلك اقتصاديًا من منافسة أكبر على فرص العمل وخفض لقيمة الأجور في قطاعات مختلفة من الوظائف، وفي هذا السياق مثلت احتجاجات «السترات الصفر» التي استمرت عدة أشهر متصلة، انفجارًا جماهيريًا لذلك التمدد الشعبوي في عموم البلاد.

منذ إصداره قانون العمل المثير للجدل في أيلول/سبتمبر من عام 2017، يعاني إيمانويل ماكرون من مستوى حاد من التدهور في شعبيته، لم يعرفه رئيس فرنسي آخر، وقد استمرت سياسات ماكرون على ذات المنوال الذي يهدد مستوى معيشة الفرنسيين، من خلال ضريبة القيمة المضافة على السيارات التي لا تزال تعمل بالديزل عام 2018.

ماكرون هذه الآونة غير قلق من الإسلام على حد تعبير مجلة «فورين أفيرز» الأمريكية، بل هو قلق من لوبان ومن الصعود اليميني، ويزايد على اليمين القومي المتطرف في هذا الإطار، لتقديم أوراق اعتماده في بيئة سياسية بدأت تميل بشكل ملحوظ نحو اليمين ونحو الشعبوية.