خلال القتال بين الروم الحاكمين للشام، والعرب المسلمين بقيادة الصحابي أبي عبيدة بن الجراح، عام 640م، وتحديدًا خلال فتح مدينة حمص أعلنت هدنة بين الطرفين، يستطيع خلالها المقيمون بالمدينة أن يبيعوا أملاكهم ويهاجروا إن أرادو، على أن يبقى جيش المسلمين خلف حدود معينة، حُدِّدت بتمثال للإمبراطور البيزنطي هرقل.

خلال الهدنة شوّه فارس مسلم تمثال هرقل وفقأ إحدى عينيه، واعترف أبو عبيدة بالخطأ الذي ارتكبه الفارس المسلم، واقترح أن يقام تمثال (صورة) على هيئته هو شخصيًا ويفقأ أحد الروم البيزنطيين عينه، تعويضًا عن الإهانة التي لحقت بهم نتيجة العبث بعين إمبراطورهم.

لكن الروم قالوا إن المُعادِل لهرقل ليس بن الجراح وإنما الخليفة عمر بن الخطاب، الحاكم العام للمسلمين، فنفذ المسلمون رغبتهم وأقاموا مجسمًا على هيئة عمر، ليقتلع فارس مسيحي رومي إحدى عينيه، بحسب ما روى الواقدي.

اللافت في القصة أن المسلمين وقتها كان منهم من يجيد التصوير أو الرسم أو النحت، وكانوا يُقَدِّرون رمزية التماثيل والصور وما تعنيه من قيمة، رغم أنهم كانوا لصيقي العهد بالوثنية التي يمقتها الإسلام ويحاربها.

رسموا خليفتهم الصحابي الكبير، بأمر أميرهم الصحابي الكبير، رغم أن المعروف أن هناك أحاديث نبوية تمنع التصوير، فعن ابن عباس، أن النبي قال: كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس فيعذبه في جهنم». وعقَّب ابن عباس: فإن كنت لا بد فاعلًا، فاصنع الشجر وما لا روح فيه.

أي أن ابن عباس نقل عن النبي تحريم التصوير والرسم والنحت، لكنه أجاز رسم وتصوير الشجر والأشياء التي ليس بها روح، باعتبار أن الأوثان كانت على هيئة بشر قدسهم الناس حتى عبدوا صورهم، على الأرجح.

هذه القصة توحي بأن الفن التشكيلي عند العرب، من رسم ونحت، وإن وُوجِه بتحفظات نتيجة محاربة الوثنية، فإنه لم يغب أبدًا، وظل ينمو مع الزمن.

والأهم وهو ما نناقشه أنه استفاد بالمسيحيين العرب أو المستعربين من أهل البلدان المفتوحة، الذين كانوا يقدسون الرسوم الدينية، على عكس المسيحيين البيزنطيين الذين حرموها.

شكل العرب المسلمون مع مسيحيي البلدان المفتوحة الذين استعربوا مدرسة فنية اصطلح على كونها مدرسة فنية إسلامية؛ حيث يلاحظ تأثير كبير متبادل بين الفنانين المسلمين والمسيحيين العرب، الذين ينسبون جميعًا إلى الحضارة الإسلامية، وتجلى ذلك في ظهور ظلال مسيحية دينية على رسوم إسلامية، والعكس، وسكنت هذه الظلال المسيحية قِطَعًا فنية كانت في بيوت الحكام المسلمين، وكذلك سكنت التأثيرات العربية الإسلامية في مخطوطات مسيحية.

كيف تأثر المسيحيون العرب بالفن الإسلامي، وكيف أثروا فيه، ما المعالم الفنية الإسلامية التي أنتجها فنانون مسيحيون، وقبل ذلك كيف أثروا في الحضارة الأوروبية التي رفضت هذا الفن في فترة من الفترات وجرمته؟ هذا ما نوضحه في سطورنا التالية.

التأثير العربي يسكن الفن المسيحي قبل الإسلام

الوجود العربي في بلاد الهلال الخصيب، الممتدة من العراق إلى حدود مصر، مرورًا بالشام، قديم، ويعود إلى الفترة الآشورية، أي ما يقرب من 1400 عام قبل الإسلام، بل يحاول البعض أن يعود بالوجود العربي في الهلال الخصيب إلى ما قبل الميلاد بأربعة آلاف عام.

فقد كانت هناك ممالك عربية جنوبي الشام، وفي العراق، آخرها كانت الغساسنة والمناذرة، وقبلها كانت حضارة تدمر داخل سوريا الحالية، والأنباط في الأردن، وغيرها. كذلك فإن الآشوريين أنفسهم دمجوا العرب في مملكتهم، وجعلوهم مواطنين في الدولة الآشورية.

هؤلاء العرب الذين اندمجوا ضمن حضارات الشام والعراق دانوا بدين أهل تلك البلدان، والأغلب منهم اعتنق المسيحية.

ولكن بعد احتلال الإمبراطورية الرومانية لبلدان الهلال الخصيب في القرن الأول والثاني الميلادي، ووريثتها الدولة البيزنطية في القرن الخامس، صار الإنتاج الثقافي لتلك المنطقة يصنف في المصادر كإرث بيزنطي أو روماني، ومنه النقوش والتصاوير التي تعدها المصادر الغربية– في الغالب- كإرث يوناني، رغم التأثيرات العربية الظاهرة فيها بوضوح.

وعن ذلك يقول الدكتور عدنان البني: إن الفريسكات التدمرية (نسبة لمملكة تدمر) ذات شأن كبير في دراسة تاريخ الفن، إذ إنها توضح بجلاء التأثيرات الشرقية في التصوير اليوناني، الروماني، وهي بمثابة مصدر للفن البيزنطي المقبل، والعلاقة بينها وبين الفسيفساء والفريسكات والأيقونات المسيحية في ذلك العهد لا يمكن نكرانها.

وكان العرب من الأعراق الرئيسية المكونة لمملكة تدمر، حتى إن كثيرين ينسبون الملكة زنوبيا، أهم ملوك تدمر وأقواهم، إلى العرب، ويقال إن اسمها محرف من «زينب».

ومن الآثار الفنية المسيحية القديمة التي يرجح بعض الباحثين أن مصمميها عرب، كنيسة القيامة نفسها التي أسسها مهندس يدعى «زنوبيوس Zenobius»، واسمه مشتق من زنوبيا الملكة التدمرية.

كذلك فإن كاتدرائية غزة المبنية بين 402 و407 م، أصل مهندسها من مدينة أنطاكية الشامية (تابعة لتركيا ولكن سوريا ما زالت تعتبرها جزءًا من أراضيها)، اسمه روفينوس Rufinus .

ويرجح الدكتور عفيف بهنسي، أن المهندسين اللذين صمما وأسسا كنيسة أيا صوفيا في القسطنطينية (إسطنبول حاليًا) ينتميان إلى شمالي سوريا، وهما أنتيموس وترالس.

كم تؤكد بولين دونسييل فوت أستاذة علم الآثار وتاريخ الفن بجامعة لوفان الكاثوليكية، أن كثيرًا من الكتابات اليونانية المنقوشة على الكنائس الشامية التي تعود إلى الفترة البيزنطية لم يكتبها يونانيون، بل كتبها فنانون لديهم معرفة بائسة باللغة اليونانية إلى درجة نسيان بعض الكلمات أو تشويه عديد من الحروف، ناهيك عن تصاريف الأفعال وخلافه، وذلك يعود إلى أنهم كانوا يتكلمون «لغة سامية»، في احتمالية واضحة لعروبة هؤلاء الفنانين.

المسيحيون الشوام كانوا يعلمون اليونانية (لغة بيزنطة) لأسباب كثيرة، منها الاحتلال الروماني فالبيزنطي لسبعة قرون تقريبًا، وارتباط الكتاب المقدس باللغة اليونانية، التي كانت لغة الكنيسة. وقد كانت بيزنطة حتى ظهور الإسلام ومن بعد ظهوره هي القوة العظمى التي تتحدث باسم المسيحية والمسيحيين مع الإمبراطورية الإسلامية الناشئة.

وكانت اليونانية هي اللغة التي كتب بها أهم علماء المسيحية مؤلفاتهم، وبالتالي كان الفنانون المسيحيون العرب يعلمونها، ولذلك كان من الطبيعي أن نجد نقوشًا في العصر الإسلامي مكتوبة باليونانية من قبل رسامين عرب.

ورغم ذلك لم يكن الفنانون الشرقيون في الشام والعراق ومصر مجرد مقلدين للفن البيزنطي، بل كانوا عاملًا رئيسيًا في تكوينه، مستفيدين من إرثهم المحلي الآشوري والفرعوني والعربي.

هؤلاء الفنانون تمسكوا بفنهم المسيحي المقدس، في مواجهة تحريم الرسوم والأيقونات من قبل الدولة البيزنطية، بعد أن قرر الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الخامس بدعم من القساوسة المجتمعين في المجمع المسكوني عام 754م تحريم الصور والأيقونات وتحطيمها، وشنَّ حربًا على من يقدسونها.

تزامن ذلك مع الحكم العربي الإسلامي للشام ومصر والعراق، تلك البلدان المسيحية العريقة، وبالتالي كان مسيحو هذه البلدان بمنأى عن قرارات بيزنطة، فاستمرت تقاليدهم في رسم الأيقونات وتقديسها، والأهم من الناحية التاريخية الفنية أن الحكم الإسلامي حمى الأيقونات المسيحية القديمة من تدميرها على يد البيزنطيين، ومنها مثلًا أيقونة «المسيح ضابط الكل» التي تعود إلى القرن السادس الميلادي، والموجودة في دير القديسة كاترين في سيناء.

الفن الإسلامي يستلهم مشاهد من الإنجيل

الفنانون المسيحيون العرب أو الذين استعربوا تكيفوا مع الحكم الإسلامي، ولم ينفصلوا عن واقعهم، وأثروا في الثقافة الإسلامية العربية والفنانين المسلمين، وكذلك تأثروا هم أيضًا بالثقافة الإسلامية.

والمسألة لم تقتصر على الأساليب الفنية والزخرفية، وإنما امتدت إلى إدراج بعض قصص الكتاب المقدس في أعمال تصويرية إسلامية، ما زال بعضها موجودًا حتى اليوم.

ومما بقي من ذلك حوض كبير شاهَدَه الدكتور عفيف بهنسي يحمل اسم ولقب الملك الصالح أيوب، سلطان مصر والشام (تـ1249م – 647هـ)، مزينًا بمشاهد مأخوذة من الإنجيل.

وفي معمدانية القديس لويس، كان هناك طست فاخر من النحاس صنعه فنان مسلم يسمى محمد بن الزين من القرن الثالث عشر الميلادي (السابع الهجري)، وهذا الفنان لم يخف أن يتعامل مع الكنيسة فقط، بل أيضًا نحت بأريحية نصًا من الكتاب المقدس على الطست، وللتباهي بما أنتجه نحت توقيعه الشخصي وكتب اسمه 6 مرات على الطست، بحسب بهنسي.

وهناك قوائم طويلة لفنانين مسيحيين نحتوا أسماءهم على أعمال إسلامية، ومنهم يوحنا الراهب، أحد بناة أبواب القاهرة الشهيرة (باب زويلة، باب النصر، باب الفتوح) الذي يعود أصله لمدينة الرها الشامية (تتبع تركيا الآن).

ومن هؤلاء أيضًا دليل بن يعقوب النصراني الذي شارك في بناء وزخرفة منارة مسجد أبي دلف في سامراء، الشهيرة، الموجودة حتى اليوم والبعض يرجح أنه وحده الذي صممها وبناها وزخرفها.

كذلك فإن مسجد أحمد بن طولون في القاهرة، بكل ما له من قيمة فنية وأثرية، هو من تصميم وتنفيذ الفنان والمهندس المسيحي سعيد بن كاتب الفرغاني.

ويحكي المقريزي قصة مفصلة عن ملابسات بنائه للمسجد، مفادها أن الفرغاني كان مسجونًا بأمر ابن طولون (تـ 884م – 270هـ) بسبب ظنه أن اشترك في مؤامرة لإيذائه، وحين شرع ابن طولون في بناء المسجد على مساحته الشاسعة المعروفة، وجد أنه يحتاج إلى 300 عمود من أحجار معينة غير متاحة بسهولة، وقال له البعض إنها موجودة في بعض الكنائس التي يمكن هدمها ونقل أعمدتها لبناء المسجد.

رفض ابن طولون فكرة هدم الكنائس وشاع خبر بحثه عمن يحل معضلة بناء المسجد، فأرسل له الفرغاني من محبسه يخبره أنه يستطيع بناء المسجد بلا أعمدة، سوى عمودين في القبلة فقط.

أخرج ابن طولون الفرغاني من السجن وقابله، وصمم له الفرغاني مجسمًا من الجلد (ماكيت) لشكل المسجد الذي تخيله بلا أعمدة، فأعجب به ابن طولون، وأعطى الفرغاني 100 ألف دينار كميزانية لبناء المسجد، وقال له إن احتجت فوق هذا المبلغ خذ ما يكفيك.

وبالفعل بنى الفرغاني المسجد وحصل على مكافأة 10 آلاف دينار، وأمر له بن طولون براتب شهري حتى مات.

كان الفن المسيحي والفنانون المسيحيون مبهرون للأسرة الطولونية، حدّ أن خمارويه بن أحمد بن طولون، حاكم مصر، كان متيمًا بدير القصير الذي كان في هيكله صورة للسيدة العذراء وفي حجرها صورة المسيح، وكان الناس يقصدون الموضع للنظر للصورة.

ومن إعجابه هو الآخر، بنى خمارويه غرفة له في الدير لها أربع طاقات إلى أربع جهات، وكان معجبًا بصورة المسيح والعذراء، يجلس يتأملها و«يشرب على النظر إليها»، على حد تعبير المقريزي.

الفن المسيحي يستلهم من المسلمين

على الناحية المقابلة، استلهم الفن المسيحي أساليب عربية إسلامية واضحة، فمن خصائص الفن الإسلامي مرافقة اللغة المكتوبة للرسم، وهو أمر اتبعه الفنانون المسيحيون في أعمالهم الدينية في مراحل متقدمة.

وفي بحثها عن الأيقونات المسيحية الملكية، أي التي تعود للروم الملكيين الكاثوليك، تجري سيلفيا مقارنة بين الأيقونة الملكية واليونانية والروسية والشرقية (العربية).

وتوضح سيلفيا أن من الملاحظات على الأيقونات المسيحية الشرقية (العربية) تردد «الموضوعات والكتابات العربية»، وتوضح أنه منذ بداية القرن الثامن عشر أخذ الاتجاه إلى تحديد الوجوه وإلى فرض زخرفة ذات طابع شرقي يظهر تبعًا للتيار العام لفن الأيقونة.

وتوضح سيلفيا أن طريقة رسم الأيقونة الملكية استلهمت من البيئة المحلية الشامية؛ حيث يظهر بها القديس جرجس يقاتل بسيف أو حسام، وصورت العذراء مريم وهي مولودة في مهد رجراج لا يزال يصنع إلى يومنا في سوريا ولبنان، والنبي إبراهيم يرتدي زي خليفة عربي.

كما تظهر الملائكة وهي تبشر الرعاة الذين ارتدوا الشروال والكوفية والعقال وهم يعزفون على «المجوز»، أما القديس متّى فظهر وهو يكتب إنجيله على مائدة ذات طراز عربي!

الكلام ما زال لسيلفيا، التي تقول إن زخرفة الأيقونات الملكية هي ذات استلهام شرقي واضح، فذوق هذه الزخرفة ظاهرة تشمل جميع أيقونات القرن الثامن عشر، وهذا الاتجاه قوبل باستحسان في بطريركية أنطاكيا، إذ إنه يتفق مع الذوق الإسلامي، إن لم يكن مكيفًا فعلى الأقل منطبعًا بالزخرفة الإسلامية، التي كانت منتشرة منذ قرون في الأشياء الأكثر استعمالًا، التي تدخل في الحياة اليومية للمسلمين والمسيحيين على السواء، التي تبرز بروعة ذوق الزخرفة المستمر مع رهبة الفراغ التي يتميز بها الفن الإسلامي بشدة.

كذلك ترى سيلفيا أن مقرنصات كنيسة القديس جرجس للروم الأرثوذوكس في حماه، والزخارف الهندسية الموجودة على الفاصل الأيقوني المصنوع من الرخام في دير المخلص للروم الكاثوليك، مستعارة من الفن الإسلامي.

وهكذا رأينا كيف أثر المسلمون في الفن المسيحي، وكيف أثر المسيحيون في الفن الإسلامي، وأنتجوا جميعًا فنًا ينتمي إلي مدرسة واحدة، وتجاوز المسيحيون فتاوى التحريم البيزنطية، وكذلك تجاوز المسلمون فتاوى التحريم السنية، وانحازوا جميعًا إلى فنهم.

المراجع
  1. المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، لجواد علي
  2. الفن الإسلامي للدكتور عفيف بهنسي
  3. تدمر والتدمريون للدكتور عدنان البني
  4. الخطط للمقريزي
  5. فتوح الشام، للواقدي
  6. رياض الصالحين للإمام النووي
  7. الفن والثقافة القبطية لـ هـ. هوندبلينك
  8. The Ancient Arabs: Nomads on the Borders of the Fertile Crescent, 9th-5th Centuries B.C لإسرائيل إيفال
  9. Les pavements des églises byzantines de Syrie et du Liban لـ Pauline Donceel-Voûte