عانى فلسطينيو 48 على مدار العقود الماضية من نير الاحتلال الإسرائيلي ومحاولاته المستمرة لسلخهم عن جوهر القضية الفلسطينية، دون أن يعني ذلك دمجهم في مجتمعه الجديد الذي أسّسه على قاعدة «النقاء النوعي اليهودي».

ومن بين عشرات المحاولات الفلسطينية لمجابهة مشروعات الاحتلال الإسرائيلي، كان تأسيس «الحركة الإسلامية في الداخل» هو مشروع المقاومة الأهم لفلسطينيي 48 في عديد الفترات. لكن دوام الحال من المحال؛ فهل مازالت الحركة الإسلامية تلعب الدور المناط بها القيام به، أم أن تغيرات الواقع كان لها رأيٌ آخر؟

«التائبين»: من أسرة الجهاد إلى الحركة الإسلامية

نشأت الحركة الإسلامية على يد الشيخ «عبد الله نمر درويش» عام 1971، وتكوَّن أعضاؤها من العرب المسلمين الذين حملوا الجنسية الإسرائيلية.

وعلى الرغم من عدم وجود أي علاقة مباشرة بين الحركة وبين جماعة «الإخوان المسلمين»، فإن المبادئ تكاد تكون متطابقة أو متشابهة إلى حد كبير بين الجماعتين. فاهتمت الحركة بإنشاء البنية التحتية المتمثلة في المعاهد الدينية والمؤسسات والنوادي والعيادات الطبية ورياض الأطفال وغيرها.

هذه المنشآت أصبحت مراكز دعوة إلى الدين وغرس تعاليمه في نفوس الشباب العرب منذ نعومة أظافرهم، فنشأ جيل من الشباب المُلتزم تجاه الحركة الإسلامية الذي يرى أن حل القضية الفلسطينية يرتبط بمبدأ الحركة «الإسلام هو الحل».

وقد عبر أحد كبار الحركة، وهو الشيخ عاطف الخطيب، عن ذلك بقوله:

إن الحركة الإسلامية تؤمن بأفضلية الحل الإسلامي للقضية الفلسطينية، عن طريق إقامة حكومة إسلامية على أرض فلسطين ينعم تحت حكمها – المرتكز على شريعة الله – اليهود والنصارى والمسلمون.

وقد تضافرت عدة عوامل أدت إلى تصاعد التيار الإسلامي لدى عرب 48، من أهمها:

  • حرب 1967 التي أدت إلى فقدان الثقة بالأنظمة السياسية العربية القائمة.
  • استئناف الاتصال المباشر بالفلسطينيين وعلماء الدين في الضفة الغربية وقطاع غزة إثر حرب 1967، بشكل أوجد حوافز مُنشِّطة للعودة إلى الدين، وساعد على هذا نشاط الحركات الإسلامية في الضفة والقطاع، مثل حركات: الإخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامي والجهاد.
  • توجه عدد كبير من الشباب العربي إلى الدراسة في الكليات الإسلامية في الضفة الغربية، مثل كلية الشريعة في الخليل، والمعهد الديني في نابلس، الذي تخرج فيه الشيخ عبد الله نمر درويش والذي يعد أحد أقطاب الحركة الإسلامية في أوائل عهدها.
  • قيام الثورة الإسلامية في إيران، وتجسيدها – بالنسبة للبعض – لفكرة إقامة الدولة الإسلامية.

وعلى غرار باقي التنظيمات الإسلامية عزَّزت الثورة الإيرانية التي اندلعت في العام 1979 حماسة مؤسسي الحركة وعلى رأسهم عبد الله نمر درويش ورائد صلاح وفريد أبو مخ، وتم تشكيل ما يُسمى بـ «أسرة الجهاد» خلال ذلك العام، فكانت منظمة سرية شبه عسكرية، تشكَّلت من مجموعة من الشبان من تيار سُمي «التائبين» بقيادة فريد أبو مخ من مدينة باقة الغربية، دعوا إلى تحرير فلسطين بالجهاد المسلح، بما في ذلك الحرب الاقتصادية، ونُسبت لهم عمليات إحراق ممتلكات يهودية.

واجه عناصر وقيادات أسرة الجهاد حملة اعتقالات واسعة من قبل سلطات الاحتلال عام 1981، ومن بينهم درويش وأبو مخ، قبل أن يجري الإفراج عنهم تباعًا بين عامي 1984 و1985، ليعيدوا تنظيم صفوفهم مجدداً، ويجرى التحول إلى حركة منظمة تحت اسم «الحركة الإسلامية».

«كولسة» أدت إلى الانقسام

شهدت نهاية ثمانينيات القرن الماضي بروز قوة الحركة الإسلامية الجماهيرية في الداخل، وخصوصاً عام 1989، حين فازت برئاسة 5 بلديات ومجالس محلية، وبعضوية عشرات البلديات والمجالس الأخرى، ضمن سعيها لتحسين أحوال فلسطينيي 48، مثل أم الفحم، وكفر قاسم وكفر برا وجلجولية، وراهط، لكن تلك القوة حملت في طياتها بذور الانشقاق الكبير بعد 7 سنوات.

وظهرت بوادر هذا الانشقاق منذ عام 1993، حيث شكَّل هذا العام منعطفاً جديداً بالنسبة للحركة، حينما تم توقيع اتفاقية أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، وهنا اختلفت قيادات الحركة حول الموقف من قرار المنظمة الفلسطينية، بين موافق ورافض. إلى أن انفجرت تلك الخلافات بين القيادات عام 1996، حينما قرر عبد الله نمر درويش المشاركة في انتخابات الكنيست الإسرائيلي، في تحول على مستوى عمل الجماعة وفكرها، لينتهي الأمر بانقسام الحركة إلى جناحين: شمالي بقيادة الشيخ «رائد صلاح»، وجنوبي بقيادة «نمر درويش».

وجدير بالذكر أن هذا الانشقاق قد سبقه تصويت في هيئات الحركة الإسلامية على المشاركة في انتخابات الكنيست، كانت نتيجته رفض المشاركة، ثم تصويت ثانٍ أصرَّ عليه أنصار المشاركة، بعد ضمانهم النتيجة هذه المرة، من خلال إضافة أعضاء جدد من أنصارهم من هيئات «النقب» المحلية، وكانت نتيجته قبول المشاركة.

إلى درجة أن رائد صلاح كتب حرفياً: «كدنا ندخل الكنيست»، لولا تدخل كمال الخطيب في اللحظة الأخيرة، حين كشف تلاعباً مسبقاً أو «كولسة» – على حد قوله – في هيئات الجليل المحلية، وهو التدخل الذي أدى إلى حسم موقف الحركة الشمالية وتبني رأي الخطيب، الذي كان رافضاً بالمطلق للمشاركة في انتخابات الكنيست، خلافاً للرأي الوسطي الذي كان يتبناه صلاح، كما كانت تتبناه الحركة الإسلامية قبل الانشقاق، أي عدم المشاركة الرسمية والسماح للأعضاء بالمشاركة بشكل فردي.

منذ تلك اللحظة الفارقة انقسمت جغرافيا الحركة الإسلامية التنظيمية في الداخل بين خطين متوازيين؛ خط قاده عبد الله نمر درويش، ثم إبراهيم صرصور، ويتركز في المثلث الجنوبي والنقب وبعض المدن والبلدات، وهو الخط الذي اشتهر إعلامياً باسم «الحركة الإسلامية الجنوبية»، ويرأسه الآن «حماد أبو دعابس».

وخط يقوده رائد صلاح وكمال الخطيب، ويتركز في المثلث الشمالي والجليل وبعض المدن والبلدات، وهو الخط الذي اشتهر إعلامياً باسم الحركة الإسلامية الشمالية، وكان مُعارضاً للمشاركة في انتخابات الكنيست الإسرائيلي، لأنه يعتبر هذا – بشكل غير مباشر – «اعترافاً بالدولة»، والتي بنظره يجب تغييرها بدولة فلسطينية تتبنى الشريعة الإسلامية.

بواعث الانشقاق: فكر «الإخوان» و«منظمة التحرير»

فصَّل الشيخ «رائد صلاح» في مذكراته محاور الخلاف بين الشطرين، والتي تركزت في خمسة محاور، هي:

1. الإعلام الإسلامي ومجلة الصراط ومضامينها غير المتفق عليها.

2. مجال الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.

3. انتخابات الكنيست، ورغبة الشيخ درويش في المشاركة.

4. القضايا الإسلامية العامة والمواقف السياسية والعلاقة بالآخر.

5. التصريحات الإعلامية الكثيرة في الإعلام العبري، والمواقف غير المنسجمة مع رؤية الحركة حسب رأي الشيخ رائد.

وقد أضاف الشيخ كمال الخطيب ثلاثة محاور أخرى للخلاف، هي: القناعات الشخصية للشيخ درويش التي تغيرت في السجن، والتواصل مع رموز المؤسسة الإسرائيلية، وعلاقته المباشرة مع حركة فتح.

ومن يُدقِّق النظر في طبيعة الخلاف الحاصل بين الجناحين، يجد أنه خلاف سياسي تنظيمي وليس خلافاً شرعياً، بدليل أن الشيخ رائد والشيخ كمال وافقا على نتيجة التصويت في البداية، وأرادا أن يباركا للشيخ درويش، لولا اكتشافهما أن التصويت الثاني كان أمراً «دُبِّر بليل» حسبما ذكرا.

وبالعودة أكثر إلى جذور بواعث هذا الانشقاق، نجد أن هناك عوامل قد تكون متضادة، شكَّلت وعي الحركة الإسلامية وقادتها. فمنذ تبني «منظمة التحرير الفلسطينية» لبرنامج النقاط العشر عام 1974، الذي يؤيد فكرة التفاوض على الأراضي المحتلة عام 1967، أي الضفة الغربية وقطاع غزة فقط، غدت فلسطين المحتلة عام 1948 «دولة إسرائيل» بحكم الأمر الواقع، وأصبح سقف مطالب شعبها وأحزابها السياسية تحصيل حقوق «المواطنة» ضمن حدود القانون الإسرائيلي. ثم أتت اتفاقية أوسلو، حيث أصبحت السلطة الوطنية الفلسطينية مسؤولة قانونياً وسياسياً عن عدة ملايين من المواطنين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، فيما أصبح أبناء الشعب الفلسطيني في الداخل «مواطنين» إسرائيليين وأصواتاً انتخابية تُرجِّح كفة هذا الحزب الإسرائيلي أو ذاك.

ومن جهة أخرى، نجد أن الحركة الإسلامية قد تأثرت بجماعة الإخوان المسلمين كما ذكرنا آنفاً، وقد برز على ساحة العمل الإخواني العالمي أكثر من ورؤية وأكثر من نهج، كان أهمها نهجين؛ الأول يرى في النصوص مرجعاً، ويرى الالتزام بالأصالة منطلقاً، ويتعامل مع الواقع على هذا الأساس من أجل تغييره بشكل جذري، وبالتالي فلا مهادنة ولا مصالحة مع هذا الواقع، وهو نهج تعود منابعه إلى أفكار سيد قطب.

أما النهج الثاني، فيحكمه الواقع أكثر من النص، ويرى في التعاطي المرن مع ضغط الظروف والانحناء لها نوعاً من السياسة الواقعية، أو الواقعية السياسية، التي لا تتعارض مع روح الشريعة الإسلامية ومقاصدها العامة، مُطوِّعاً «النصوص» لخدمة مقصده.

وهو ما عبر عنه «منصور عباس»، نائب رئيس الحركة الإسلامية الجنوبية ورئيس «القائمة العربية الموحدة»، في حواره مع «قناة 20» بأنه يقرأ الخارطة السياسية بين الجمهور العربي في إسرائيل، ويجد بوضوح أن هذا الجمهور يريد من قادته السياسيين أن يكونوا شركاء في إدارة الحكم في إسرائيل، «وليس مجرد معارضة تجيد الصراخ والخطابات». ويضيف:

الناس عندنا أذكياء وحكماء، ويريدون أن يكون لهم تأثير في السياسة الإسرائيلية، والتأثير لا يكون إلا بالتعاطي مع الواقع، وبواقعية.

«لا لتقديس الأفكار البالية»

في الآونة الأخيرة برزت محاولات من جانب منصور عباس للتقرُّب إلى بنيامين نتنياهو، حيث أعلن الأول أنه لا يرى أي عائق لتعميق العلاقات بينه وبين زعيم «الليكود»، مُذكِّراً بأنه لا يكترث إلى موقف اليسار الرافض لهذا التقارب.

فقد اعتبر عباس أنه لا ضير في دعم نتنياهو إذا ما استجاب لمطالب المواطنين العرب، وهو الموقف الذي عارضته بقية الأحزاب التي أصرت على وجوب العمل على إسقاط رئيس الوزراء الحالي.

فقبل أسابيع قليلة من موعد انتخابات الكنيست الأخيرة (الانتخابات الـ 24) قررت القائمة العربية الموحدة (رعم)، الذراع السياسية للحركة الإسلامية الجنوبية، خوض الانتخابات منفردة بعد خلافات مع باقي الأحزاب حول الموقف من ترؤس نتنياهو للحكومة. وقد تسبَّب هذا الانقسام في تخفيض حصة العرب من الكنيست هذه المرة، حيث حصدت كل من القائمة العربية المشتركة والقائمة العربية الموحدة مجموع 10 مقاعد فقط، بعدما كان نصيبهم في الانتخابات السابقة (الكنيست الـ 23) 15 مقعداً. وحصدت قائمة عباس الموحدة أربعة مقاعد.

وقد جاءت نتائج الانتخابات لتزيد الزخم والجدل حول منصور عباس ومصير مشاركته في حكومة نتنياهو، حيث حصد نتنياهو 59 مقعداً، وصار في حاجة واضحة – رقمياً – إلى مقاعد عباس الأربعة لكي يتمكن من تشكيل الحكومة القادمة. وفي المقابل، فإن المعسكر المعارض لنتنياهو، الذي يضم القائمة المشتركة، بحاجة إلى عباس للوصول إلى 61 صوتاً لإسقاط الرجل.

ولذلك يواجَه موقف عباس بمعارضة من قبل الأحزاب العربية الأخرى في الكنيست، التي ترى أن مهمتها الأولى هي إسقاط نتنياهو. ولكن جاء رد عباس:

الطريق التي سلكوها ويسلكونها كما لم تأتِ بشيء بالسياسة، فلم ولن تأتي بشيء لا بالانتخابات ولا في المستقبل القريب… يدنا ممدودة لكل أبناء مجتمعنا العربي، نخرج من التقديس لأفكار بالية وشعارات خرقاء لا تخدم مشروعاً ولا تخدم مجتمعاً، وإنما في كل مرة يتحقق الهدف المعاكس لذلك.

لكن البعض يرى أن هناك خطراً كبيراً سيواجهه عرب 48، إذا ما نجح نتنياهو في تشكيل حكومة جديدة، وهذا ما شدَّدت عليه القائمة المشتركة برئاسة «أيمن عودة»، وقالت في بيانٍ لها:

حذرنا من أن حصول أحزاب اليمين على أغلبية ساحقة في الكنيست، هو دليل على تعميق التوجهات العنصرية، ما يزيد من حدة التحديات الجسام، التي يواجهها مجتمعنا العربي والقوى الديمقراطية الحقيقية في المرحلة المقبلة.

رغم كل ما سبق، فإن إمكانية مشاركة عباس وقائمته في حكومة نتنياهو الجديدة – حال نجاحه في تشكيلها – يدخل في نطاق «غير الممكن»، فالمعسكر اليمني المتطرف الذي يحتضن نتنياهو لن يقبل بهذه السابقة السياسية، ولا شك أن جمهور نتنياهو قد يعتبرها نقطة سوداء في تاريخه السياسي. ولكن هذه الدرجة من الانفتاح التي أبداها عباس هذه المرة، وفي ظل تصاعد دور العرب في الكنيست منذ عام 2015، فقد نرى في المستقبل القريب حكومة إسرائيلية تنتمي إلى تيار الوسط أو اليسار، تضم في عضويتها وزراء عرباً. وهي اللحظة التي ستمثل نقطة تحول في تاريخ عرب 48.