بينما كانت القوات الأمريكية تعد العدة للرحيل من العراق، بعد 9 سنوات من القتال ضد فصائل المقاومة العراقية، وتنظيمات الجهاد العالمية، أعلن تنظيم دولة العراق الإسلامية (نواة داعش)، في أغسطس/ آب 2011، أن حربه ما زالت مشتعلة، وأن رحيل جيش الاحتلال الأمريكي يُنهي معركةً ويفتح أخرى.

وحينها، قال المتحدث باسم التنظيم، أبو محمد العدناني، في كلمته المعنونة بـ «الآن الآن جاء القتال»:

إنَّ للعملاء والمنافقين أبواقًا تزعم أن المحتل خرج، ولم يعد للمجاهدين مبرِّرٌ شرعيٌّ للقتال، فنقول: كذبوا، الآن الآن جاء القتال؛ فإنما زال المبرر عمن كان قتاله وطنيًّا من مدَّعي الجهاد، أما نحن فما قاتلنا يومًا من أجل الأرض، وإنما نقاتل لإعادة الخلافة … ومن زعم أن مبرر القتال يزول بخروج المحتل الأمريكي فلماذا قاتل النبي قومه، أم أن الاحتلال الصفوي (الشيعي) خيرٌ من الاحتلال الأمريكي؟!

وعقب 10 سنوات من كلمة العدناني، وتحديدًا في أغسطس/آب 2021، ظهر الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وكأنه استدعاء للحظة ماضوية، أو إعادة عرض لشريطٍ فيلمي يتضمن مشاهد سُجلت سابقًا، وأضفت كلمات تنظيم «الدولة الإسلامية»، التي نشرتها أسبوعية «النبأ» (عددا 300، 302)، الزخم المطلوب على المشهد، إذ اعتبر التنظيم أن الانسحاب الأخير: «ليس سوى مرحلة أخرى من الحرب، سيشتد فيها القتال والمفاصلة بين «جنود الخلافة» وجنود الوطنية والقومية المتحالفين مع الفصائل الشيعية».

وأكد التنظيم في افتتاحيات صحيفته الأسبوعية، التي تُعبر عن وجهة نظر داعش الرسمية، أنه شرع بالفعل في خوض غمار المرحلة الجديدة، وأن قتاله سيستمر ضد حركة «طالبان الوطنية»، وضد الأقلية الشيعية في البلاد (تُقدرها مصادر مستقلة بين 10: 20% من إجمالي سكان البلاد، أغلبهم من عرقية الهزارة التي تمثل نحو 9% من السكان)، مشددًا على اختياراته الأيديولوجية والاستراتيجية القديمة التي تعتبر أن قتال «المرتد» – التارك لدين الإسلام بعد اعتناقه – أولى من قتال الكافر الأصلي، وأن قتال العدو القريب (الأنظمة والجيوش والميليشيات المحلية، والعرقيات الدينية الأخرى …) أولى من قتال العدو البعيد (يُقصد به الولايات المتحدة والدول الغربية … إلخ).

في البدء كان «الشيعة»

وشكَّل نهج الفرع المحلي لداعش في أفغانستان والمعروف بـ «داعش خراسان»، امتددًا لنهج التنظيم المركزي الذي يتبنى أيديولوجية هجينة متعددة الأوجه، معتمدة في جزء كبير منها على قتال الطائفة الشيعية، التي يصفها بأنها: «العدو القريب الخطير، والعقبة الكئود، والسم الناقع، والأفعى المتربصة …»، على حد وصف أبو مصعب الزرقاوي، واضع اللبنات الأولى لمشروع داعش، في رسالة سابقة أرسلها لزعيم تنظيم القاعدة الراحل أسامة بن لادن.

ووفقًا لهذا التصور صاغت القيادة العليا/ المركزية لتنظيم داعش رؤيتها القتالية، التي فرضتها كجزء من استراتيجيتها الجهادية، على أفرع التنظيم المحلية (سواء في أفغانستان أو خارجها)، مع أن تلك الاستراتيجية تحمل، في جوهرها، تناقضًا طائفيًّا نابعًا من خصوصية الحالة العراقية التي نشأت فيها نواة التنظيم الأولى «التوحيد والجهاد»، يتعلق بتقديمها قتال الشيعة على قتال باقي الأعداء، يتضاد مع فكرة الجهاد العابر للحدود الوطنية، التي يتبناها داعش ويروج لها كأساس لمشروعه المعولم.

وانطلاقًا من الرؤية السابقة، حرص تنظيم «ولاية خراسان»، فرع داعش المحلي، على إبراز عدائه للطائفة الشيعية في أفغانستان، وفي مقدمتها عرقية الهزارة، وقبائل السيدز، والفرسيوان، وقيزلباش، متبنيًا مقاربة ثنائية تهدف للتأكيد على تبنيه أولويات التنظيم المركزي القتالية، بجانب السعي لكسب ولاء بعض مكونات المجتمع المحلي التي تُعادي الأقلية الشيعية.

اقرأ أيضًا: داعش في «ولاية خراسان»: معضلة أفغانستان الجديدة

عداء متعدد الأسباب

على أن حالة العداء الواضح بين فرع داعش المحلي والأقلية الشيعية في أفغانستان، لا يمكن عزوها إلى حالة التنافر والصراع الأيديولوجي بين الطرفين فحسب، إذ تتداخل فيها عوامل جيوسياسية ومصالحية بجانب البعد الإثني القومي … إلخ.

ولعل مشاركة الشيعة وذراعهم السياسية «حزب الوحدة الإسلامي» في السلطة، منذ الإطاحة بحكم حركة طالبان في عام 2001، كانت أحد أسباب ومحفزات الصراع الطائفي الدائر داخل أفغانستان.

وشارك الهزارة الشيعة بجانب مكونات سنية أخرى (البشتون، والطاجيك، والأوزبك … إلخ)، في العملية السياسية التي وجدت في ظل الاحتلال الأمريكي، وشغل قادة العرقية الأولى مناصب بارزة في هرم السلطة داخل أفغانستان، فتولى محمد كريم خليلي، زعيم الهزارة، منصب نائب الرئيس الأفغاني، إبان حكم الرئيس الأسبق حامد كرازي، وشغل أيضًا منصب رئيس «المجلس الأعلى للسلام» (لجنة المصالحة الوطنية)، إبان فترة الرئيس السابق أشرف غني، كما شغل محمد محقق، زعيم حزب «الوحدة الإسلامية» منصب المستشار السياسي والأمني للرئيس غني.

وعلاوةً على التواجد في السلطة التنفيذية، حظي شيعة أفغانستان بتمثيل كبير (55% من إجمالي الأعضاء)، في الجمعية الوطنية (البرلمان)، وساهم هذا التمثيل في تعزيز العلاقات الأفغانية – الإيرانية، لا سيما وأن الجمهورية الأخيرة لعبت دور المرشد السياسي والأيديولوجي لحلفائها الشيعة الأفغان.

وفي نفس السياق، صنعت طهران من الشيعة الأفغان «ميليشيات ولائية» للقتال إلى جانب قوات الجيش السوري النظامي برئاسة بشار الأسد، وكوَّنت منهم لواءً عسكريًّا باسم «لواء فاطميون»، والذي شارك في معارك ضد معاقل «الخلافة المكانية» الداعشية في العراق وسوريا.

وأسس حرس الثورة الإيراني مقرات تجنيد ومعسكرات تدريب في الشمال الأفغاني وتحديدًا في مزار شريف بولاية بلخ (على الحدود مع أوزبكستان) لتدريب مجندي لواء «فاطميون» ولوحت إيران على لسان وزير خارجيتها (السابق) محمد جواد ظريف، باستخدامهم في القتال ضد «ولاية خراسان»، معتبرةً أنهم أفضل القوات التي يُمكن استخدامها لمحاربة داعش في أفغانستان، على حد تعبيره.

ولم يكن التحالف الشيعي الإيراني الأفغاني هو التحالف القتالي الوحيد ضد داعش، إذ دخلت الطائفة الشيعية في تحالف آخر مع حركة طالبان لقتال التنظيم داخل البلاد، على خلفية تزايد هجمات مقاتليه ضد أفراد ومزارات الشيعة في أفغانستان وباكستان المجاورة.

صراع النفوذ

وحملت زيادة وتيرة الهجمات الطائفية في أفغانستان دلالة على توسع نفوذ تنظيم «ولاية خراسان» داخل البلاد، وتمكنه من تأسيس قواعد دعم عملياتي تمكنه من تخطيط وتنفيذ الهجمات في المناطق الشيعية، رغم الانتكاسات التي تعرض لها جراء حملات مكافحة الإرهاب المتواصلة، والتي شاركت فيها الولايات المتحدة والحكومة الأفغانية وحركة طالبان.

ومن جانبها، عملت «طالبان الأفغانية» على مواجهة النفوذ الداعشي المتنامي في جنوب آسيا، باعتباره تهديدًا لمكانتها داخل البلاد، خاصةً أن الفرع المحلي للتنظيم تكوَّن بالأساس من منشقين عن طالبان، وتحريك طالبان (طالبان الباكستانية)، وسعى لتجنيد مقاتلي الحركة وتحويلهم لمقاتلين «تحت راية العُقاب/ الخلافة».

وفي هذه الأثناء نشبت معركة دعائية بين طالبان وولاية خراسان، وشغل الموقف من «شيعة أفغانستان» حيزًا مهمًّا في السجال بينهما، فاعتبر ذبيح الله مجاهد، المتحدث باسم الحركة الأولى، في حوار له مع وكالة تسنيم الإيرانية، أن التنظيم خطر على الأمة الأفغانية، مضيفًا أنهم لن يسمحوا له بالتواجد داخل البلاد، بينما رد ممثلو التنظيم باتهام طالبان بالعمالة لـ«الشيعة والكفار»، متوعدين بمواصلة القتال ضدهما.

ويكشف التدقيق في رسائل داعش الدعائية أن التنظيم عمد إلى استخدام خطاب مزدوج، يستهدف أنصاره وأنصار طالبان في نفس الوقت، وسعى لإبراز تناقضات مواقف الحركة الأفغانية وتحولاتها، عبر عقد مقارنة بين مواقف واختيارات الحركة في فترتي قيادة الملا محمد عمر مجاهد (المؤسس والزعيم التاريخي للحركة)، والملا هبة الله آخوندزاده (الأمير الحالي لها)، مركزًا على مسألة التعامل مع الشيعة والتفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية.

ومن الواضح أن تأكيد «داعش خراسان» على تمسكه بالعداء مع الشيعة، والالتزام بنهجه الجهادي العابر للحدود كان مناورة لضمان استمرار الدعم والتحالف الذي أسسه مع فصائل سنية محلية تركز على استهداف الفصائل الشيعية كـ (عسكر جنجوي، وعسكر الإسلام الباكستانية، وجند الله الباكستانية، وجبهة سعد بن أبي وقاص اللوجرية الأفغانية … إلخ)، فضًلا عن محاولته استقطاب مقاتلي طالبان لصفوفه، وإظهار نفسه بمثابة الوريث الحقيقي لإرث «الإمارة الإسلامية الجهادية» الذي يختلف من منظوره عن واقع «طالبان الحالية» ذات الصبغة القومية الوطنية.

قتال الخنادق V.S تفاوض الفنادق

وفي حين، روجت حركة طالبان للانسحاب الأمريكي من أفغانستان، الذي انتهى أواخر أغسطس/ آب الماضي، باعتباره تتويجًا لمسيرة قتال امتدت على مدى عقدين من الزمان، صوره أبو حمزة القرشي، المتحدث باسم تنظيم «داعش»، في كلمة صوتية له بعنوان (وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار)، كـ «غطاء للتحالف القائم بين ميليشيا طالبان والصليبيين لقتال التنظيم، وأساس لإقامة الحكومة الوطنية التي تجمع طالبان وشيعة أفغانستان)، مبينًا أن التنظيم باقٍ على تعهداته القديمة بقتال التحالف «الشيعي- الطالباني»، والتي أعلنها في أكثر من مناسبة منها إصداره الدعائي (معذرة إلى ربكم 2) الصادر في سبتمبر/ أيلول 2020، لأنه «اختار صناديق الذخيرة لا صناديق الاقتراع، واختار التفاوض في الخنادق لا الفنادق، وهجر أضواء المؤتمرات ليضرم نار الغارات»، بتعبير متحدثه الأسبق أبو محمد العدناني.