إسرائيل بلد ديمقراطي منذ مولده مع إعلان الاستقلال سنة 1948. في السنوات الأخيرة، أخذت الأحزاب الدينية تحظى بتأييد شعبي متزايد جعل منها قوة وازنة في الكنيست لا يسهل تشكيل ائتلاف حكومي من دونها. تستغل الأحزاب الدينية تلك الفرصة لتغيير المشهد الديمقراطي في إسرائيل عبر إلغاء المراجعة القضائية للتشريعات من قبل المحكمة العليا، وتغيير بنية اللجنة المختصة باختيار القضاة، وفتح الباب وفق ذلك أمام تمرير تشريعات دينية تقيد الحقوق والحريات. انتفض المجتمع الإسرائيلي ذو الثقافة الديمقراطية العميقة ضد هذا الاعتداء على الديمقراطية من قبل القوى الدينية والشعبوية.

هذه السردية التي يترجح أن تتكرر في الإعلام الغربي، والعربي الموالي لإسرائيل، ليست سوى صورة مشوهة عن الحقيقة تعمل على إخفاء العطب القائم جوهريًا في حالة إسرائيلية كحالة دينية استيطانية يخلق هشاشة أصيلة في ديمقراطيتها. نعتمد في تفكيك تلك السردية وإعادة تركيبها على عملين متداخلين للمفكر الفلسطيني عزمي بشارة، هما «الانتفاضة والمجتمع الفلسطيني» (2002) و«من يهودية الدولة حتى شارون» (2006). قبل أن نشرح ذلك علينا أن نصف ما يحدث.

لدينا وزير العدل الإسرائيلي ياريف ليفين من حزب الليكود، مع رئيس لجنة الدستور والقانون والعدل في الكنيست سيمشا روزمان من حزب الصهيونية الدينية، تعديل تشكيل لجنة اختيار القضاة بما يضمن سيطرة الحكومة والأغلبية في الكنيست على الدستور، في مقابل التشكيل الحالي الذي يعطي غلبة لقضاة المحكمة العليا وممثلي نقابة المحامين، بما يضمن اختيار قضاة ذوي ميول ليبرالية. تشمل التعديلات إلى جانب ذلك إلغاء المراجعة القضائية التي تسمح للمحكمة العليا الإسرائيلية بإلغاء التشريعات الصادرة عن الكنيست التي قد تهدد الحريات والحقوق الأساسية أو تهدد علمانية الدولة الإسرائيلية.

يمكن تحليل ذلك على مستوى أول بأنه انفجار للتناقض بين السيادة الشعبية (الديمقراطية) من جهة، وحكم المؤسسات والقانون (الليبرالية)، بسبب صعود قوى شعبوية تستهدف اختراق مؤسسة الحكم في إسرائيل والسيطرة عليها وإعادة تشكيل النخبة الإسرائيلية السياسية بشكل جذري، وفرض الشريعة الدينية والصهيونية في أقصى أشكالها تطرفًا على الدولة. هذه القوى الشعبوية تنقسم إلى مكونين أساسيين: الأحزاب الدينية، وحزب الليكود العلماني لكن الصهيوني المتطرف. كلا المكونين يعبر عن قواعد شعبية لا تكن مودة كبيرة لمؤسسات الدولة والنخبة الإسرائيلية لأسباب تاريخية، لذلك فهي تحاول الحلول محلها.

تتخذ تلك المعركة بين القوى الشعبوية الصاعدة والنخبة الإسرائيلية التقليدية اليوم، على المستوى القانوني والسياسي، شكل صراع على مكانة المحكمة العليا التي تلعب دور المدافع عن حكم المؤسسات والقانون (الليبرالية) وما يضمنه من حقوق وحريات فردية، في وجه محاولة الأحزاب الدينية عبر أغلبيتها في الكنيست فرض تشريعات دينية وإصلاحات مؤسسية، كتأسيس ميليشيا الحرس الوطني التابعة لإمرة صهيوني ديني متطرف هو وزير الأمن الإسرائيلي إيتمار بن غفير، حليف نتنياهو الأساسي في الائتلاف الحكومي اليوم، تضمن تلك الإصلاحات والتشريعات هيمنة قانونية ومؤسسية للقوى الشعبوية والدينية على الدولة والمجتمع في إسرائيل.

هذا هو المستوى الأول من التحليل.

أما المستوى الثاني الذي نود أن نكمل من خلاله الصورة، وبخاصة من موقعنا نحن، خصوم هذا الاستعمار الاستيطاني العنصري، فهو أن دولة إسرائيل منذ قامت عام 1948 قامت كدولة يهودية استيطانية، بما يفرض أن يتحول نجاحها المطلق الذي تحقق منذ عام 1967، إلى انقلاب ديني وأمني على ديمقراطيتها الحديثة لأن الديمقراطية الحديثة، أي تلك الديمقراطية المتمفصلة مع الليبرالية باعتبار أساسها هو حكم الأغلبية الشعبية من دون اعتداء على حرية الفرد المضمونة بالقانون، تفرض إخضاع المنطق العسكري لكيان استيطاني والمنطق العنصري لكيان ديني، لمنطق حقوقي لا يمكن أن يحتمله كيان ديني استيطاني يتمتع بسيطرة مطلقة كإسرائيل. بعبارة كثيفة: نجاح إسرائيل المطلق يقود إلى انفجار التناقض بين يهوديتها وديمقراطيتها لصالح العنصرية الاستيطانية.

لهذا فإن المعادلة التاريخية التي لطالما حاول اليسار الصهيوني والليبرالية الصهيونية إعادة إنتاجها، ديمقراطية لليهود بجانب استعمار وعنصرية وإبادة كجريمة نرتكبها رغمًا عنا لأن هذه هي الدنيا وهذا هو التاريخ وضرورته، هذه المعادلة تختل اليوم، وتختل بالذات بسبب بلوغ إسرائيل مرحلة من السيطرة المطلقة التي تضيق مساحة الحلول الوسط عوضًا عن أن توسعها. إسرائيل تمتلك كل شيء لكنها تجد سكانًا فلسطينيين يعادلون سكانها من اليهود على أرض فلسطين التاريخية، فماذا تفعل بهم وماذا تفعل بأرض فلسطين التاريخية؟ لقد تضخم الوحش حتى قضم ذيله.

الصيرورة الأولى: تدين الصهيونية

في انتخابات الكنيست الماضية، زادت الأحزاب الدينية الإسرائيلية عدد مقاعدها البرلمانية من 23 مقعدًا إلى 32 مقعدًا. يمكن تقسيم الأحزاب الدينية في إسرائيل إلى شقين: أحزاب دينية ذات موقف صهيوني ضعيف أو محايد، وهما حزبا شاس ويهودت هتوراه. كلا الحزبين انبثقا عن حركة أغودات يسرائيل التي مثلت اليهود الحريديم (المتدينين) الذين رفضوا الصهيونية اعتقادًا بأن قيام دولة اليهود في إسرائيل يجب ألا يتم بتدخل بشري، لكنها قبلت العيش في دولة إسرائيل بمنطق برجماتي.

لكن تلك الأحزاب أخذت بعد سيطرة دولة إسرائيل على كامل فلسطين التاريخية، وتحديدًا الأراضي التوراتية في الضفة الغربية (يهودا والسامرة)، تتخذ من الصهيونية موقفًا محايدًا أكثر منه ناقدًا، وتركز تلك الأحزاب على حماية مصالح قطاعية تتعلق بالفئات السكانية المتدينة التي تعبر عنها تلك الأحزاب (اليهود المغاربة والشرقيين في حالة شاس، والحريديم الغربيين في حالة يهودت هتوراه).

الشق الثاني من تلك الأحزاب هي أحزاب الصهيونية الدينية، وهي الأحزاب التي قادت مرحلة ثالثة من تطور الأيديولوجية الصهيونية، بعد مرحلة هرتزل العلمانية الليبرالية، ثم مرحلة جابوتنسكي (الصهيونية التنقيحية) العلمانية لكن القومية المتطرفة، إلى مرحلة تصير فيها الصهيونية أيديولوجية دينية تفرض أن تصير إسرائيل مملكة يهودية خالصة تعمل بالشريعة اليهودية وتنفي عن أرضها المقدسة أي مكون سكاني غير يهودي أو تخضعه بالعنف للإبادة السياسية. لا ينبغي الخلط بين تلك الأحزاب وحزب المفدال حامل صفة الصهيونية الدينية، فبالنسبة للمفدال كانت الصهيونية الدينية مجرد نفي للتعارض بين أن يكون الفرد متدينًا على المستوى الشخصي ومؤمنًا بالصهيونية على المستوى السياسي.

تشمل أحزاب الصهيونية الدينية اليوم حزبين رئيسيين. الحزب الأول هو حزب الصهيونية الدينية، وهو في جذوره انشقاق عن المفدال، جرى في 1998، رفضًا لأي موقف وسط تجاه استكمال عملية أوسلو بشكل يسمح بتخلي دولة إسرائيل عن أراض واسعة ضمن فلسطين التاريخية. بعد عدة تحالفات وتفككات متتالية، انتهى الحال بأن يرث هذا الابن الديني نصيب الأسد من تركة أبيه المفدال العلماني، ولهذا دلالة كبيرة. يبقى هذا الحزب.

الحزب الثاني هو حزب العظمة أو القوة اليهودية (أوزما يهودت) الذي نشأ كانشقاق في إطار تفكك مفدال وصعود الصهيونية الدينية، في اتجاه أكثر تطرفًا وشعبوية، وهو تبني الكاهانية، بخاصة من خلال إيتمار بن غفير أحد المخلصين الأساسيين لذلك الاتجاه. لقد دعا مائير كاهانا إلى إقامة دولة يهودية على كامل دولة إسرائيل مع طرد السكان غير اليهود وفرض الشريعة اليهودية بغض النظر عن الديمقراطية، وإلا لم تكن إسرائيل دولة يهودية حقيقية. حظرت المحكمة العليا في الثمانينيات حركة كاخ الكاهانية بدعوى العنصرية، وظلت تؤكد أن إسرائيل يهودية وديمقراطية في الوقت نفسه في عدد من التشريعات لاحقًا، وفرض الكنيست عزلة على كاهانا حين انتخب فيه سنة 1984. وها هي الكاهانية اليوم ترد الصفعة مؤلمة للمحكمة العليا والعلمانية الإسرائيلية عبر إيتمار بن غفير.

القواعد الشعبية لتلك الأحزاب تعتمد بالأساس على اليهود المتدينين، وأغلبهم من اليهود الشرقيين الذين ما زالوا يحتلون موقعًا أدنى في السلم الطبقي من اليهود الغربيين، كما أنهم لا يحظون بنفس الحضور الواسع في مؤسسات النخبة الإسرائيلية كالقضاء والأكاديميا والإعلام. تتداخل هنا بوضوح عناصر طبقية وعرقية ومؤسسية لتشكل قوى شعبوية تجمعها المصلحة في التمرد على النخبة الإسرائيلية التاريخية ومؤسساتها، وتمثل الكاهانية الثوب الأيديولوجي الأكثر جذرية في هذا الاتجاه.

الصيرورة الثانية: انتصار الصهيونية التصحيحية

عندما اقترح هرتزل إقامة دولة للشعب اليهودي، فإن الصحفي العلماني لم يتصور أكثر من أن يجتمع الشتات اليهودي في دولة حديثة دون تصورات حاسمة عن العلاقة بين المستعمرين اليهود والسكان المحليين، وعن الصفة القومية لتلك الدولة الناشئة، أو عن الحل النهائي الذي سيجري مع السكان الأصليين. هذه الأسئلة كانت بحاجة إلى إجابة، وهي المهمة التي اضطلع بها الكاتب اليهودي القادم من أوكرانيا زئيف جابوتنسكي.

رأى جابوتنسكي استحالة التوصل إلى سلام مع العرب لأن السكان الأصليين لا يمكن أن يرحبوا بمستعمر، وأن تصور أن العرب يمكن أن يقبلوا بذلك ينبع أصلًا من نظرة دونية للعرب. الحل في رأي جابوتنسكي هو إقامة جدار حديدي ضد العرب: قوة عسكرية غاشمة ومرعبة تفقد العرب الأمل في التخلص من المستعمرين، وتسمح للمستعمرين بالسيطرة على كامل فلسطين التاريخية وصولًا إلى شرق الأردن لتأمين مجال حيوي آمن وواسع للمستعمرين. دولة عليها أن تحافظ على أغلبية يهودية وازنة بين سكانها لصالح اليهود إن كان لها أن تستمر في وجه المحيط العربي الرافض لوجودها الذي عليها أن تتخلص منه بشكل أو بآخر، وتحديدًا عبر التهجير.

لقد رفضت المؤسسة الصهيونية الرسمية أفكار جابوتنسكي، لكن بن جوريون لم يفعل في الحقيقة أكثر من تنفيذ أفكاره. لكن ظل حزب حيروت (الحرية) الذي أسسه رجل الصهيونية التصحيحية الأول، مناحم بيجين، حزبًا مهمشًا إلى حين اتحاده مع الحزب الليبرالي سنة 1966. استثمر حزب حيروت في نخبة اليهود الشرقيين الذين نشأوا في معسكرات الاستيعاب المؤقت (معبروت) ومدن التطوير، وجمعوا بين شعور بالمظلومية تجاه حزب العمل (ماباي) الحاكم ونخبته من اليهود الأشكيناز (الغربيين) الذي همشهم، إلى جانب رغبة في إثبات الانتماء العميق إلى الصهيونية والدولة الإسرائيلية وحقد على الأصل الشرقي والعربي الذي كان سببًا في تهميشهم، لذلك كانوا جاهزين للالتحاق بحيروت. سمح الاندماج بالحزب الليبرالي لحيروت بأن يجد موطئ قدم في مجتمع رجال الأعمال المنزعج من اشتراكية حزب العمل (ماباي) كذلك.

لقد كان الليكود نفسه سائرًا في اتجاه التحول إلى حزب براجماتي ومرتبط بمؤسسة الدولة بشكل بطيء لكن مستمر، لكن صعود نتنياهو جذب الليكود مجددًا إلى موقع أكثر شعبوية. بنيامين نتنياهو هو نجل بنزيون نتنياهو، سكرتير جابوتنسكي، ولا يتردد في إعلان تبنيه التام للصهيونية التصحيحية. لكن الأهم من ذلك هو أن نتنياهو هو الابن الأصيل للتحول النيوليبرالي الذي شهدته إسرائيل، وقد ارتبط على نحو عميق بمجتمع رجال الأعمال الجدد الذين يعملون في قطاعات غير إنتاجية، ومن مصلحتهم الإبقاء على علاقات عميقة مع الحكومة. أتى نتنياهو بمشروع للانقلاب على النخبة الإسرائيلية حتى داخل الليكود نفسه، معتمدًا على أصدقائه من رجال الأعمال الجدد من جهة، وعلى تعبئة العناصر الأكثر تطرفًا من اليهود الصهاينة والمتدينين والمستوطنين المنزعجين من أوسلو.

باختصار، فإن ليكود نتنياهو هو حزب شعبوي تمامًا ومتطرف تمامًا، ويعتمد على نطاق واسع على التحالف مع الأحزاب الدينية، رغم تبنيه العلمانية نظريًا، لتأمين أغلبية في الكنيست تسمح لنتنياهو بتأمين موقعه على رأس الحكومة الإسرائيلية كأطول رئيس وزراء في تاريخ إسرائيل، وتسمح لأصدقاء نتنياهو في مجتمع الأعمال الجديد بالحفاظ على نشاطات اقتصادية زبائنية ومشبوهة في ظل حماية وارفة من رئيس الوزراء ووزارة الداخلية التي تسيطر عليها الأحزاب الدينية.

في تقاطع الصيرورة الأولى مع الصيرورة الثانية، تصهين المتدينون وتدينت الصهيونية العلمانية ليتشكل فرانكنشتاين صهيوني ديني يرمز إليه تحالف نتنياهو – بن غفير.

الصيرورة الثالثة: يهودية الدولة تغلب ديمقراطيتها

تبلورت الديمقراطية الحديثة عبر تمفصل/ارتباط مع الليبرالية، فحكم الأغلبية عبر الانتخابات يتحول عمليًا إلى سلطوية مدعومة شعبيًا في غياب الحماية القانونية للحقوق والحريات الفردية التي تحافظ بدورها على حيوية الديمقراطية. درس الأنظمة الشمولية في القرن العشرين أن صعود قوى شعبوية تحمل أفكارًا قومية متطرفة وتستخدم الديمقراطية بعد فصلها عن الليبرالية يقود إلى أبشع أشكال الاستبداد. ما نقوله هنا هو أن يهودية الدولة في إسرائيل التي هي جوهر هذا الكيان تغذي هذا الاتجاه نحو تفكيك الديمقراطية الليبرالية وتحويلها إلى نظام سلطوي شمولي.

قامت إسرائيل على أساس الصهيونية كأيديولوجية تحول اليهود من أمة دينية يمكن أن ينتمي أفرادها إلى قوميات عديدة إلى شعب قومي على نحو ينهي محاولة كل جالية يهودية الاندماج في قوميتها الخاصة وفقًا لمحاولات التنوير اليهودي في القرن التاسع عشر. علمنة الانتماء الديني هي عملية جرت بالفعل في بلدان أخرى كباكستان، لكن هذا لم يحصل في الحالة الإسرائيلية، فتعريف اليهودي ظل تعريفًا دينيًا، أي أن الجمع بين اليهودية القومية والانتماء إلى دين آخر لم يكن مقبولًا من قبل الدولة الإسرائيلية لإصباغ صفة اليهودية القومية على أي شخص.

جعل هذا من الفصل بين الدين والدولة في الحالة الإسرائيلية عملية مستعصية، وظل حتى الصهاينة الليبراليين يؤكدون قبولهم يهودية الدولة باعتبار تلك اليهودية هي جوهر الدولة الذي ينتفي معناها من دونه. يؤدي هذا الاندماج بين الدين والدولة إلى إشكالية عميقة في التعامل مع الشريعة اليهودية في وقت يؤكد فيه القوميون الإسرائيليون العلمانيون أنهم يقيمون دولة يهودية تتأسس قوميتها على السرديات التوراتية. الأساس السردي للقومية الإسرائيلية أساس توراتي، لذلك يصعب أن تواجه النخبة الإسرائيلية ذات تلك العلمانية الملتبسة مطالب المتدينين بعد تحولهم إلى صهيونيين بتطبيق الشريعة.

من جهة أخرى، تخلق يهودية الدولة مشكلة في أصل فكرة المواطنة الحديثة والحقوقية في إسرائيل، فالأقلية العربية التي بقيت على الأراضي التي قامت عليها إسرائيل سنة 1948، واضطرت إسرائيل إلى منح أفرادها الجنسية الإسرائيلية عام 1968، وجودها في حد ذاته حتى في ظل غياب مساواة حقيقية بينها وبين المواطنين اليهودي في دولة إسرائيل يمثل فزعًا وتهديدًا مستمرًا للصهيونية وليهودية الدولة، ويخلق «هوسًا» بالإعلان المستمر لقومية الدولة اليهودية وحصريتها للشعب اليهودي كما ظهر مثلًا مؤخرًا قانون الدولة القومية سنة 2018 الذي ينص على أن حق تقرير المصير في دولة إسرائيل حصري للشعب اليهودي دون غيرهم من مواطني إسرائيل.

بجانب علاقتها الملتبسة مع الدين اليهودي، فإن دولة إسرائيل كدولة استعمار استيطاني تقوم على إخضاع كتلة هائلة من السكان والمحيط غير الآمن. يجعل هذا من إسرائيل إسبرطة حديثة، مجتمعًا عسكريًا لا يمكن التمييز فيه بين الدولة والمجتمع والجيش. كل إسرائيلي هو بالتعريف جندي احتياط. المسألة هنا ليست شكلية، فالجيش الإسرائيلي بالفعل يعرف قوات احتياط تعيش حياة مزدوجة على مستوى الأيام المتتابعة بين الخدمة العسكرية والعمل المدني. العسكرية في إسرائيل ذات نوع خاص، فهي عسكرية مأمننة لأنها لا تتعامل مع جيوش أو أعداء خارجيين (العرب غير الفلسطينيين) فقط، بل لإدارة كتلة سكانية هائلة في الداخل بمنطق «صهر الوعي» كما وصفه وليد دقة، أي منطق كسر الإرادة نحو أي نوع من المقاومة أو حتى وعي الذات كخصم ونقيض.

لا يمكن للدولة الإسرائيلية كمؤسسة أن تتخذ مسافة من ذلك المركب العسكري الأمني، فهو لا يمارس سياساته الاستعمارية الاستيطانية في مستعمرات أعالي البحار، وإنما على نفس النطاق الجغرافي الذي تمارس تلك الدولة الإسرائيلية سيادتها عليه، لذلك يصعب على هذا المركب العسكري الأمني أن يغير منطقه الأمني عندما يتحول إلى الداخل. يمثل هذا الوحش الفرانكشتايني تهديدًا مستمرًا للديمقراطية الليبرالية في إسرائيل، لأن المصلحة الأمنية تصبح أولوية مطلقة، حتى ولو على حساب القانون الإسرائيلي نفسه وحقوق المواطنين.

في وضعية كتلك، تصبح يهودية الدولة تهديدًا تاريخيًا مستمرًا بتحويل الديمقراطية إلى فاشية تتماهى فيها الدولة مع المجتمع في إطار قومي يهودي على نحو لا يختلف عما حدث تاريخيًا في إيطاليا أو إذسبانيا أو ألمانيا إبان حكم الأنظمة الشمولية. تريد إسرائيل أن تكون دولة علمانية وديمقراطية ويهودية واستعمارية في نفس الوقت، أي أنها تريد المستحيل.

عبر سنوات، نجح المكون العلماني الديمقراطي في أن يحتفظ للدولة الإسرائيلية بكفاءتها المؤسسية في وقت كانت فيه دولنا العربية تتردى في فساد وفشل ترعاه سلطويات وممالك. اليوم مع الانتصار الحاسم للمكون اليهودي المتطرف تقترب إسرائيل من التحول إلى دولة عربية أخرى يحكمها مجموعة من المتطرفين الفاسدين الذين يتلاعبون بالقانون والمؤسسات لخدمة رجال أعمال فاسدين كذلك وحماية مصالح بدائية.

إسرائيل اليوم آلة عسكرية متوحشة تقتلنا، تقتل الفلسطينيين منا تحديدًا ومباشرة. الصراع اليوم هو على من يقود تلك الآلة التي ستقتلنا على كل حال، هل مختل يضع الكيباه أم شاب وسيم يبدو شديد الوداعة. نعم، الأغلبية الكاسحة من هؤلاء المحتجين الذين يستقتلون في الدفاع عن استقلال القضاء الإسرائيلي ونمط الحياة الغربي في إسرائيل ضد تغول الشعبوية الدينية لا يقلون صهيونية عن خصومهم. يمكنه أن يتظاهر اليوم من أجل الديمقراطية في إسرائيل، ثم يذهب غدًا للخدمة في الجيش ليقتل طفلًا فلسطينيًا في غزة بدم بارد، أو لإزالة منزل فلسطيني ومصادرة أرض في الضفة لإقامة مستوطنة.

مع ذلك فأيًا كان الطرف الذي سينتصر فإن هذه المعركة تقول إن إسرائيل تتحول بسرعة إلى دولة تعاني من الفساد السياسي والشمولية وتفشي التدين الشعبي الخرافاتي، مثلها مثل أي دولة عربية، يتربع على رأس حكومتها حرامي مستعد لبيع أي شيء من أجل تأمين مصالحه وإفلاته من القانون، وعلى رأس إدارة الأمن فيها مختل يحاول تشكيل ميليشيا بتمويل من الدولة نفسها تكون تحت إمرته الشخصية. بقدر ما ينتظرنا من الإرهاب والجرائم على يد تلك الميليشيا بقدر ما ينتظر الدولة الإسرائيلية من التفكك على يد شبيهاتها. هذه بالضبط هي وصفة اضمحلال الأمم، بخاصة عندما تكون أممًا من المستعمرين الذين لا ينتمون إلى الأرض التي يقيمون عليها.