خلال أحداث الاعتداءات الأخيرة من دولة الاحتلال على قطاع غزة، ومختلف المناطق في فلسطين، اكتسبت فلسطين المحتلة تعاطفًا عالميًّا –وإن كان محدودًا- فعبَّرت الممثلة الإسرائيلية غال غادوت- Gal Gadot عن قلقها من حدوث عداء مسبق، ينتج عنه تعسف في مسار إنتاجاتها السينمائية، باعتبارها تنتمي لأيديولوجية تصفها هي بالمسالمة، تصدِّر خطابًا يتظاهر بكونه مسالمًا، ولا تبحث إلا عن أحقية –محرفة تاريخيًّا- في الانتماء لوطن يحاول التمسك باستعادة أرضه التي وعده الله إياها.

في سياقات أخرى، لم تشتبك أي واحدة منها مع اعتداء الكيان الصهيوني على فلسطين، كانت غادوت تنطلق دائمًا من اعتزازها بالخدمة في الجيش الإسرائيلي قبل الاتجاه للتمثيل، لكنها لم تقل مثلًا، في أي حوار لها، إن صيتها العالمي لم يتم تحقيقه إلا من خلال تصديرها كواجهة فنية لدولتها الافتراضية على مستوى المفهوم السياسي، من خلال أفلام ذات صيت تجاري، جميعها من إنتاج مؤسسات أمريكية كبرى. بدأت غادوت التمثيل في مسلسلات محلية خلال الفترة بين 2007 و2013، حتى انتقلت إلى السينما الأمريكية، التي سلعتها نظمها الرأسمالية، كي تكون سلعة ذات ثمن كافٍ للتفوه بتصريحات تتعلق بالاعتزاز بالهوية اليهودية والصهيونية.

طبيعة الخطاب الخاص لغادوت، تلوناته، سيولته وتغيراته حسب الأزمة، ما بين استخدام التعاطف المستفز، وتصدير موقعها الناتج من أريحية لمركزة حيثيات مساحات القوة المتاحة لديها، كنموذج يمكن إحالته من الخاص إلى الخطاب الفنِّي العام، يحيلنا إلى تتبُّع السينما الإسرائيلية، ومحاولة موازاة النتائج المتمثلة في صوت عالمي أساسي لرؤية الكيان للفن، المتمثل في غال غادوت، مع الخطاب الفنِّي العام، كيف نشأ؟ وكيف كانت محطاته الكبرى؟

نشأة السينما الإسرائيلية

ولكن الواقع أن تأخر إنتاج الأفلام الروائية الطويلة يرجع أساسًا إلى عدم وجود أساس ثقافي وطني مشترك يمكن أن يصنع سينما تكون جزءًا من الثقافة الوطنية. وذلك بسبب تعدد اللغات والأجناس والثقافات والقوميات التي ينتمي إليها سكان إسرائيل (1)

يوجد فارق زمني، طويل نسبيًّا، بين وقت إعلان إسرائيل كدولة مستقلة في 1948 وبين إخراج أول فيلم سينمائي طويل في 1954. خلال هذه الفترة، اعتمد خطاب الاحتلال على وسائل إعلام أكثر مباشَرة مثل المحطات الإذاعية، كانت جميعها، تتبادل تصدير خطاب يعزز الوحدة الوطنية، ويوحِّد صفوف السكان المجتمعين من بلاد متفرقة، مشبَّعين بثقافات محلية متباينة، تحت إطار وحدة أيديولوجية سياسية من ناحية، ومن ناحية أخرى تحت إطار معتقد ديني واحد. لكن مع تصاعد الحضور السينمائي العالمي، وأيضًا مع تطوره المثمر، رغم محدودية القدرة الإنتاجية، في الوطن العربي، بدأت حكومة الاحتلال وقتها في محاولة مجاراة الحراك الفنِّي العالمي، وأنتجت أول فيلم روائي طويل في مطلع الخمسينيات. أما بالنسبة للأفلام التسجيلية، فأنتجت السينما الإسرائيلية عددًا لا يزيد عن 30 فيلمًا تسجيليًّا منذ نشأتها وحتى مطلع الخمسينيات.

تعليق الناقد سمير فريد في مقدمة كتابه «الصراع العربي الصهيوني في السينما» عن افتقاد إسرائيل أساسًا ثقافيًّا وطنيًّا مشتركًا، يوضِّح سبب اعتماد دولة الاحتلال على مخرج أمريكي لإصدار أول أفلامها. في عام 1954 كان المخرج الأمريكي ثورولد ديكنسون، يلقي محاضرات في فصل دراسي عن أفلام التدريب العسكري، جاءته إحدى المتدربات وأخبرته بحماس عن طبيعة ما يقدمه نظريًّا، وأنها طموحة إلى تطبيقه على انتصار دولتها في حرب استقلالها، ثم عرضت المتدربة على المخرج الأمريكي أنها ستتواصل مع جهات سيادية في دولتها، لأنهم في حاجة إلى إتمام هذه المهمة الصعبة –إخراج فيلم عن حرب الاستقلال- بعين خبيرة وطرق غير تقليدية.

لقد ذهبت ببساطة كي أنقل إليهم أن هذا النوع من الأفلام لا يصنع بهذه الطريقة التي يتصورونها، ولكني لم أستطع الخروج. في كل مرة كنت أقول فيها إنني أخبرتهم بكل شيء، كانوا يقولون لا لا.. إننا لم نزل في البداية. وفي النهاية قالوا حسنًا، إننا في الحقيقة ليس لدينا من يصنع هذا الفيلم! (2)

يتناول فيلم (التل 24 لا يرد) حرب استقلال إسرائيل من وجهة نظر صهيونية، ينطلق الفيلم من محاولة تجميل الخطاب الاستعماري، وترويج خطاب سلام عالمي، تجبره حيثيات تصديره على أنه خطاب (مهترئ) ومنزوع من سياقاته السياسية والثقافية. مجموعة من الجنود القادمين من دول مختلفة، متعطشين لتحرير الوطن، يوضع كل واحد منهم أمام مفارقة إنسانية شخصية، ومن ثم يتجه الفيلم من خلال هذه المقدمة إلى أفكار كبرى بالنسبة لدولة الاحتلال، مثل تجميل تفصيلات الاحتلال وحق المواطنة من خلال ليِّ عنق الرواية التاريخية.

السبب الجوهري في تكليفي بعمله هو كما قالوا لي إننا نريد هذا الفيلم للجمهور الأجنبي، ولهذا فنحن لا نريد أن يقوم بصنعه إسرائيلي، نريده وجهة نظر من الخارج تنظر إلى الداخل (3).

بالرجوع إلى طبيعة نشأة السينما أول القرن العشرين، وتطوراتها المتباينة حسب كل دولة، يتبين تشارك معظم سياقات صعود السينما كتجربة فنية، أو على الأقل وجود عوامل كونية مشتركة بين كل تجربة، على اختلاف الظرف الزماني وطبيعة المكان.

مثلًا، الصعود الفني كخطاب أيديولوجي في الاتحاد السوفييتي أواخر العشرينيات، يشتبه في تكوينه مع صعود السينما كخطاب حربي مغلَّف في ألمانيا الهتلرية وفي إيطاليا موسوليني، جميع هذه الأمثلة انطلقت من إنتاج محلِّي، التزمت أولًا بتوجيه تفصيلات خطابها الموجه بالفن إلى شعوبها المحلية. السينما عمومًا كنوع فني، هي ابنة الثقافة المحلية أولًا، بدون ذلك لا يمكن أن تكتسب أصالة الانتشار العالمي، حتى إن كانت مقهورة تحت وطأة خطاب موجه، يصعب أن تنسلخ من نقطة انطلاقها كمحاكاة للمجهول الشخصي، المتمثل في الخاص، الذي ينعكس ليشتبك مع العام، أي المجتمع المحيط، ويضع حدودًا أكثر رحابة وسعة للتجربة الإنسانية، خاصة من ناحية التركيبات الشعورية لهذه التجربة.

ومن بين المفاهيم الصهيونية التي يروجها فيلم «التل 24 لا يرد» الادعاء بأن العرب المعاصرين امتداد للألمان النازيين في معاداة اليهود، أو ما يسمى في الغرب بمعاداة السامية، فالعرب في حروبهم مع إسرائيل يدافعون عن بلادهم ضد استعمار استيطاني عنصري توسعي، وليسوا في صراع مع اليهود كيهود. (4)

بدأت السينما الإسرائيلية من ناحية أخرى، من وجهة عسكرية، حتى في تحضيراتها للعمل على فيلم طويل، بدأت بتعليم كوادرها المستقبلية طبيعة الأفلام الحربية أولًا، وحينما جاءتها فرصة عمل الفيلم بأفضل طريقة متاحة على المستوى الفني، تجاهلت كل الجوانب الجمالية التي يمكن أن يحققها فيلم جديد، يبشِّر بمسيرة سينمائية، واعتمدت فقط على سؤال (كيف يرانا العالم؟) سؤال متقدم في عمر السينما، كفن ينطلق أولًا من سؤال شخصي.

تصاعدات الخطاب

منذ أول الخمسينيات، وحتى ركود مرحلة تتالي الحروب مؤقتًا عند الكيان الصهيوني في منتصف السبعينيات، وظف الكيان الصهيوني السينما لتكون خطابًا سياسيًّا مزدوجًا، منتج يتم تصديره للخارج، يروج للغة بصرية مسالمة، موضوعات تنطلق من -الدفاع- عن الحق في الاستيطان، وتستعين بتحريف بيِّن للرواية التاريخية القديمة، ومن ناحية أخرى هناك المحتوى المحلي، الذي يصدِّر الشحن الشعبي، وضرورة توحيد الراية الوطنية، والتأهب المستدام للاستجابة لعدوى الحرب.

نشأة السينما في إسرائيل، وتطوراتها الأولية، خلال أول ثلاثين عامًا على الأقل، كانت تحت قبضة يد الدولة، جميع الإنتاجات تنتمي إلى كونها (مشاريع قومية)، ولم يكن متاحًا بأي صورة أن يتم تداول أي منتج مستقل، حتى لو كان منتميًا إلى ذات الخطاب الذي تقدمه الدولة وقتها. يعود ذلك الاحتكار المباشر، والانفراد بحيثيات المنتج المعروض، إلى طبيعة الانتقاء في المواضيع التي قدمتها السينما الإسرائيلية، كي تخلق بالأساس صورة عامة منمقة، بعيدًا عن اهتراء دواخلها. حرب 56 و73 مجهولتان بشكل كبير في الإنتاج السينمائي الإسرائيلي، لأن الأولى كانت غاشمة، غير محسوبة على مستوى الحفاظ على خطاب السلام لدى الكيان، والثانية كان الجيش المصري فيها طرفًا معادلًا، لديه معطياته في الحرب وفي النقاش على طاولة المساومة. الوضع في حروب مثل 67 و 48 مختلف مثلًا، النتائج المرضية في كلا الحربين، كانت أداة أساسية لإعادة إنتاج أحداث هاتين الحربين في عدة أفلام سينمائية.

في عام 1961، عرض فيلم (أعطني عشرة رجال يائسين وأنا أغير وجه العالم)، فيلم إسرائيلي من إخراج الفرنسي بيير زيمر، يقول عنه الناقد السوري صلاح دهني:

فيلم دعائي بقالب روائي جذاب، يريد أن يبرهن للناس أن من يتعب ويكد في الأرض يستحقها، ولا سيما إذا كان يائسًا ولو لم تكن الأرض ملكًا له. (5)

في العام التالي ظهر فيلم (التاريخ الحقيقي لفلسطين) واحد من أول الأفلام التي أنتجت بصناعة إسرائيلية على مستوى إخراج الأفلام الطويلة، سواء كانت تسجيلية أو روائية. مسمى (التسجيلي) في السينما الإسرائيلية خلال هذه المرحلة، ارتبط بفكرة المباشرة، باعتبار أن الاختلاف بين الروائي والتسجيلي هو اختلاف في التعامل مع فكرة (المستتر) في الفيلم الروائي، على عكس الفيلم التسجيلي الذي دائمًا ما ينطلق من التوثيق، دون أي تقاطعات جمالية مع الحكاية.

انطلاقًا من هذه الرؤية القاصرة، نظرًا لبعد المسافة بين المفهوم الجمالي للسينما، وبين المفهوم المطوَّع قهرًا من قبل الكيان لإخراج أفلام قومية دعائية، تناول فيلم التاريخ الحقيقي لفلسطين الرؤية الصهيونية لتاريخ فلسطين المحتلة، يقول الناقد سمير فريد عن هذا الفيلم إنه أهم أفلام هذه المرحلة وأخطرها (لأن الفيلم يربط بين مكوث اليهود الأوائل، قبل ألفين وخمسمائة سنة من وقت الاحتلال، وبين استعادة الأرض مرة أخرى كحق مسلوب منذ زمن طويل). (6)

في 1965، وخلال مرحلة الحشد الحربي لحرب 67، قام جهاز الإنتاج السينمائي في إسرائيل بإصدار فيلم (حقيبة القاهرة). فكرة دعائية ساذجة، أكثر سخافة وسذاجة وقتها من الأفلام التجارية في هوليوود، والتي كانت محتقرة رغم قدرتها الربحية في ذلك الوقت. عميل إسرائيلي في مركز ذري للصواريخ في مصر يديره عالم ألماني، يتم كشف هوية العميل فيهرب ومعه ابنة العالم الألماني المختطفة، محاولة لتضخيم الهوية الإسرائيلية، وتصدير نماذج ذات قدرات عالية، تحاكي خيالات القدرة الشخصية، وتنبش في استدعاء البطولة الشخصية، في محاولة لتكوين فانتازيا شخصية عند كل مواطن إسرائيلي، ليعتبر نفسه (البطل المخلص) للوطن.

جدير بالذكر أن كل هذه المحاولات من الإنتاجات القومية لم تشفع للسينما الإسرائيلية ولم تعطها أي قدرة على إنتاج فيلم ناطق بالعبرية، سوى في العام 1972!

أصوات أخرى

يمكن تتبع مفهوم (الموجة) كتطور فني، يعتبر محطة مركزية في المسار العالمي للسينما، على أن مفهوم الموجة، هو إعادة سؤال الذات من خلال التجريب، ذلك السؤال يبتدئ من خلال محاولة كشف صيغ أخرى للتداعيات الشعورية عند الفرد، ربما يكون كشفًا من خلال القراءة الجمالية لموقع الفرد من خلال نفسه، أو من خلال مجتمعه، أو من خلال العالم بصورة عمومية.

صعود الموجة الإيطالية الجديدة مثلًا كان بديلًا فنيًّا للحفاظ على الذاكرة، بعد نتائج الحرب العالمية الثانية في إيطاليا. البعد الفنِّي للسينما هناك انحسر وقتها في ضرورة الحفاظ على مشاعر الحرب، على نتائجها الكارثية ، وعلى تداعياتها المباشرة على الطبقات المتوسطة وما دونها، محاولة إجابة سؤال الحفاظ على الذاكرة.

في سياق آخر، ظهرت الموجة الفرنسية الجديدة في فرنسا كرد فعل للتطور النظري، استجابة تطبيقية لسياقات كبرى تتكون، وبالتالي أتت ضرورة التمرد على ثبوتية المنتج الفني في السينما الأمريكية، من خلال هذه الضرورة، ظهرت مشاريع سينمائية كبرى، ضد مباشر لما قبلها، مثل جودار، أو امتداد متطور مثل تروفو، أو بعيد عن كل السياقات السابقة والتالية، مثل الحضور الجمالي البديع في أفلام فاردا.

كل محاولات التقطير، وفرد عضلات القمع والتحجيم المستتر من قبل إسرائيل، لم تمنع ظهور موجة سينمائية جديدة، السينما عمومًا هي فن يبحث دائمًا عن التطورات، حتى إن كانت انطلاقته مؤدلجة بالضرورة، وموجهة من قبل خطاب أعلى كي يتم دعمه وعولمة أفكاره.

في 1977 تكونت جماعة (السينما الشابة) في إسرائيل، من خلال مجموعة من المخرجين المستقلين، قاموا بإنتاج مجموعة من الأفلام القصيرة المستقلة، خارج سياق الإنتاج النظامي التابع الدولة، وتم تناول هذه الأفلام في أطر ضيقة وحذرة.

اتسمت أفلام هذه الموجة بطابع خصوصي، محاولة لإعادة قراءة التاريخ بصورة أكثر ذاتية، لا تنفصل عن الصوت الجماعي الرسمي، لكنها فقط تحاول خصخصة الرؤية، تبحث عن إجابات شخصية، توازي بين الماضي، المتمثل في الرواية التاريخية، والحاضر المتمثل في الكتلة حديثة التكوين، التي تعاني اغترابًا متفحِّشًا، بسبب محاولات الحكومة وقتها لخلق صوت واحد، يضم شملًا أتى من مناطق متفرقة، ويجبره على تأسيس عصبة تحارب وتعتدي بإيمان مستدام.

فيلم (شالوم) للمخرج ياكي يوشا، واحد من أفلام موجة إسرائيل الشابة، يعرض الفيلم رؤية ذاتية للمدينة، شخص مضطرب، قلق، عاجز عن التعاطي العاطفي مع عائلته، يخرج إلى المدينة، يتوسطها ويشتبك مع دواخلها المحلية، المشردين والعاهرات وحالة العري الشعوري التي تخيِّم على شوارع المدينة في الليل.

فيلم (الفيرا) الذي ينتمي لنفس الموجة، يقول عنه الناقد سمير فريد: «يعبر عن ذروة الإحباط في السينما الإسرائيلية الجديدة، إذ تدور أحداثه في قاع مدينة تل أبيب، حيث العاهرات والقوادون والشواذ والصعاليك، وفي الخلفية صوت أم كلثوم تغني: خد عمري كله بس النهارده خليني أعيش».

يتناول فيلم (الفيرا) قصة عاهرة تعيش في دهاليز مدينة تل أبيب، يدلل العمل من خلال الفيرا على حالة الانفصال بين واقع المدينة الحاصل، وبين مركزة الحرب. الفيرا لديها هم شخصي، والفيلم لا يمركز نفسه حول القضية القومية، تبحث الفيرا عن فرصة للسفر إلى أمريكا، هناك طموح العيش الكريم والآمن، لكنها تنتهي بفشل الحصول على التأشيرة، ويتم اغتصابها من ثلاثة أشخاص مجهولين.

جميع الأفلام التي صدرت من قبل مخرجي هذه الموجة تم منعها بالطبع عند ظهورها، قليل منها تم عرضه لمرة واحدة فقط، التعليقات الدائمة، كمبررات لمنع هذه الأفلام، هو أنها أفلام محبطة ولا منتمية ولا تعزز من روح الصعود القومي للدولة، لكن النتاجات المحدودة لهذه الموجة، سجَّلت صورة مبدئية عن تداعيات إيقاع الحرب على المدينة، نتاجات خطاب الكراهية المصدَّر دائمًا بصورة مستترة، سلَّطت أيضًا هذه الموجة صورة بديلة، توثق الحالة المزرية، والمتجاهلة من قبل الدولة أيضًا، لمدينة تل أبيب خلال فترات الحرب.

عقب الصعود/ الخفوت السريع للموجة الإسرائيلية الشابة، ظهر صوت أكثر حيادية، يصدر عدائية مستحقة لسينما إسرائيل القومية، تظهر أكثر تمثُّلاته نضجًا في المخرج (ماريو اوفنبرغ). عاش أوفنبرغ مهاجرًا في ألمانيا الغربية وقتها، هناك كان يخرج أفلامه، ولم تعرض أي منها في إسرائيل.

ينتمي أوفنبرغ إلى منظمة (متسبين) بالعربية تعني (البوصلة)، منظمة يسارية ظهرت في إسرائيل أول الستينيات.

تؤيد المنظمة صراحة في أحد بياناتها (أن من واجبنا التنديد بحكومة إسرائيل لرفضها الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثلة للشعب العربي الفلسطيني).

شعار متسبين اليسارية
شعار متسبين اليسارية

فيلم (الكفاح من أجل الأرض) لماريو أوفنبرغ، واحد من الأفلام التي كانت معادية للخطاب السينمائي الإسرائيلي بصورة مباشرة، خطاب ضد في كل تفصيلاته للخطاب القومي المصدَّر بصورة مستترة في السينما. يتناول الفيلم تداعيات حرب 48 على الجانب الفلسطيني، باعتبارهم أصحابًا للأرض، وأن الكيان الصهيوني وقتها ليس أكثر من محاول غاشم للاستعمار.

يتبنى الفيلم طبيعة توثيقية، يستمد مادته الحكائية من أطراف متعددة، أشخاص مهجَّرين من القرى التي اعتدى عليها الاحتلال خلال الحرب، مثل قرية (صفورية) التي تم تدميرها، وقرية (عرعرة) التي كانت جنَّة زراعية، وتم الاعتداء على أهلها وتهجيرهم والاستيلاء على الأراضي الزراعية وماكينات وأدوات الزراعة والري والحصاد، اعتمد المخرج في سياقات أخرى، استضافة أشخاص من عرب 48، ومواطنين إسرائيليين يعادون ممارسات دولتهم ويدينونها.

العرض الأول لفيلم الكفاح كان في 1977 في مهرجان بينمالدمينا في إسبانيا، أوفنبرغ كان يعتمد على مثل هذه الفعاليات، كي يصل صوته لأكبر مدى ممكن، قبالة محاولات التحجيم والتعسف الإسرائيلي لتعطيل انتشار أفلامه. الجدير بالذكر، في هذه النسخة من المهرجان الإسباني، اشترك المصور الصحفي عبد الحافظ الأسمر، ضمن الوفد الفلسطيني في المهرجان، في مؤتمر صحفي مع مخرج فيلم الكفاح من أجل الأرض، وكان كل منهما ينادي الآخر بـ (رفيق).

من ناحية أخرى، كان تعليق الحكومة الإسرائيلية تجاه منع تداول أفلام ماريو أوفنبرغ أو عرضها بأي صورة رسمية، أن مثل هذه النوعية من الأفلام (تشترك في جريمة تحريض الأقليات ضد الدولة ومواطنيها، ومن المتوقع أن تثير مشاعر العنف وتؤدي إلى اخلال سافر بالآداب المرعية).

في 1978 شارك أوفنبرغ في نفس المهرجان في إسبانيا بفيلم جديد (الطريق الصعب إلى فلسطين)، لكنه وقتها لم يجد عبد الحافظ الأسمر ليشاركه المؤتمر، أو حتى يشاركه التحية، لأنه استشهد أثناء تغطيته للعدوان الإسرائيلي على لبنان في نفس العام.

من فيلم الطريق الصعب إلى فلسطين
من فيلم الطريق الصعب إلى فلسطين

فالس مع بشير: إعادة إنتاج الذاكرة

فيلم (فالس مع بشير- Waltz with Bashir) الصادر عام 2008، واحد من الأفلام التي يمكن اعتبارها نتاجًا لتطورات (الصوت الآخر) في خطاب الفن لدى الكيان الصهيوني. الفيلم من إخراج آري فولمان، جندي سابق في جيش الاحتلال. يعيد فولمان إنتاج تاريخه الشخصي باستدعائه لحدث حرج، يحاول دفع مساحة منزوية إلى المركز، هي واحدة من المساحات التي يعمل الكيان، دائمًا، مستغلًّا كل أدواته، على دفعها بعيدًا عن ذاكرة العالم.

مذبحة صبرا وشاتيلا، الحاصلة في سبتمبر 1982، من خلال التنسيق بين الحزب اليميني في لبنان، حزب الكتائب اللبنانية وبين إسرائيل، لإخماد حركة المقاومة الفلسطينية في جنوب لبنان وكسر شوكة نشاط منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان. ضحايا مخيم صبرا وشاتيلا، من الفلسطينيين العزل، تم قتلهم من خلال فرق تابعة لحزب الكتائب، تحت رعاية الجيش الإسرائيلي، الذي قدَّم الدعم اللوجيستي والمادي، وأحاطت جنوده بمنطقة المخيم ومنعت خروج أي واحد منها.

فولمان، الذي كان واحدًا من الجنود الإسرائيليين وقتها، يبحث بعد 27 عامًا عن ذاكرته كجندي، يدفعه بحثه إلى حدث المذبحة، نقطة محورية، مجهولة ومنزوية، لكنها تنبش في مساحة سؤال الإدانة والاحتكام إلى الصوت المستقل، بعيدًا عن رواية الدولة.

فالس مع بشير، كفيلم سينمائي مجرد من سياق الموقف الأخلاقي والسياسي من صنَّاعه، كأشخاص ذوي هوية لكيان استعماري، هو فيلم يحفل بتقدم ملحوظ على المستوى التقني والبصري، مقارنة بالأدوات الفنية الساذجة في نتاجات درامية وسينمائية أخرى. طبيعة حكي متدفقة، بناء الفيلم خطوة بخطوة، من خلال تركيب الحكاية مع بعضها، تصعيد صوت الضمير الشخصي وسؤاله، والأهم، محاولة الخروج عن السيادة على التاريخ الشخصي!

من فيلم فالس مع بشير
من فيلم فالس مع بشير

خطاب الفن لدى كيان الاحتلال ينطلق أولًا من الرغبة المباشرة في إعادة إنتاج الحدث، بطريقة أو بأخرى، كي يقبل -بصورة مشوهة- رواية تتخذ طابعًا إشكاليًّا، يمكِّن الكيان وقتها من تصديره ومحاولة التصديق عليه، مثل الأطفال الساذجة التي تكذب الكذبة وتصدقها.

يستعيد فيلم فالس مع بشير، من خلال طابعه التوثيقي، أحداث المذبحة من خلال رحلة آري فولمان ولقائه بأصدقاء قدامى وأشخاص آخرين، مختلفي المواقع ومساحة القرب من الحدث، كل واحد منهم لديه همه الشخصي المحفوظ تجاه ما رآه هناك.

تنشط ذاكرة الفيلم، هي ذاتها ذاكرة آري، شيئًا فشيئًا ويشتبك الحاضر المتمثل في الزمن، مع الماضي المتمثل في المكان، ويتصاعد صوت الاتهام الواضح، للجيش الإسرائيلي ولحزب الكتائب، ولأصدقاء فولمان، ولفولمان نفسه، كطرف مشترك في قتل عزل ومهجَّرين.

على كل حال، رغم استقلالية الفيلم الجزئية عن صوت السيادات والكوادر القومية، فإنه لا تزال مادة الفيلم مريبة على مستوى إقحام نشاط حزب الكتائب اللبنانية في تحقيق المذبحة، الحدث التاريخي لا يزال قريبًا، وما زال ما تبقى من يقظة العالم، يخبرنا بمركزية الكيان الصهيوني، ومسؤوليته الأولى عن الحدث.

المراجع
  1. الصراع العربي الصهيوني في السينما- سمير فريد- ص4، طبعة دار سعاد الصبّاح
  2. نفس المصدر، ص 17 و18
  3. نفس المصدر، ص18
  4. نفس المصدر، ص 20 و 21
  5. مجلة المعرفة السورية، عدد سبتمبر 1962
  6. الصراع العربي الصهيوني في السينما- ص 26