أربكت الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987-1993) صفوف المجتمع والجيش الإسرائيلي بشكل غير عادي، نظراً لقلة خبرات جنود الجيش في التعامل مع ذلك النوع من الاحتجاجات في بادئ الأمر وانتظار التعليمات من قيادتهم، زعماً بأنّ الأمر لم يكن كما اعتادوه، وهو ما صعّب مهمة الأطباء النفسيين الذين يحاولون معالجة الجنود من الاضطرابات التي تصيبهم بعد أي حرب.

هذا التخبُّط والارتباك ظهر جليّاً بوضوح، وفقاً لتقرير مراقب الدولة الإسرائيلية في عام 1990 حين واجه الناطق باسم الجيش الإسرائيلي صعوبة في الإبلاغ عن أحداث الانتفاضة، بسبب معدل التقارير المنقولة من الميدان إلى الوحدة، إذ كان توقيت نقلها لوسائل الإعلام بطيئاً، وهو ما أضّر بـ«مصداقية المتحدث الإعلامي للجيش الإسرائيلي»، وفقاً للتقرير.

يشير التقرير إلى أن الناطق باسم الجيش الإسرائيلي لم يكن لديه تعليمات واضحة بشأن سياسة المعلومات التي ينقلها إلى وسائل الإعلام الإسرائيلية أو الأجنبية؛ وكان الإعداد الوحيد للاتصال بممثلي وسائل الإعلام الأجنبية ضعيفاً.

الصمت أو الطرد

على الجانب الآخر؛ فإنّ قسم الصحة النفسية بجيش الاحتلال توصّل لاستنتاج مفاده أنّ الطلبات المقدّمة من جنود جيش الاحتلال إلى عيادات الأطباء قليلة جداً، واستناداً إلى قلّتها؛ فإنّه «لا يوجد دليل على الأقل على وجود أي مرض نفسي بين الجنود نتيجة عمليات الجيش الإسرائيلي في الضفّة الغربية وفي غزة (تُكتب الضفة الغربية في وسائل الإعلام الإسرائيلية وفي التقارير الرسمية بيهودا والسامرة)»، وفقاً لما ورد في التقرير.

فيما يتعلق بالشق العسكري؛ فإن الانتفاضة ومواجهة جيش الاحتلال بالحجارة، لم يكن سهلاً، إذ سبب ذلك بلبلة في صفوف جيش الاحتلال في إمكانية التعامل مع الحجارة، وكيفية الردّ عليها، هذا التواتر تزامن مع نقاش استعر مع بدء الانتفاضة حيال الاضطرابات النفسية التي يواجهها جنود الاحتلال.

قبل هذه الانتفاضة لم يكن للأطباء النفسيين في جيش الاحتلال انخراط في الحياة السياسية الإسرائيلية، بحسب ما يحكي نسيم أفيشر (Nissim Avissar)، الطبيب النفسي الإسرائيلي المعروف، لكن مع وقوع الانتفاضة، وجد علماء النفس بإسرائيل وبجيش الاحتلال أنفسهم مطالبين بالانخراط في الحياة السياسية والعامة وتفسير تأثيرها على جنود الاحتلال.

كانت نقطة التحول في اندلاع انتفاضة الحجارة مداهمة شاحنة عسكرية إسرائيلية لعدد من الفلسطينيين ما أدى لاستشهاد 4 وجرح 7 آخرين؛ لكن سائق الشاحنة الإسرائيلية لاذ بالفرار على مرأى جنود الاحتلال، وصباح اليوم التالي اندلع الغضب الفلسطيني العارم.

وجد جنود جيش الاحتلال أنفسهم في مأزق وبمواجهة تهديد حقيقي شاركت فيه حشود من الفلسطينيين في مناطق مختلفة داخل الضفة الغربية وقطاع غزة، اللذين كان في ذلك الوقت تحت سيطرة جيش الاحتلال، ولم يكن مستعداً للتعامل مع الوضع الجديد الذي واجهوه.

في ذلك الوقت بدأت تعلو أصوات تنادي بمراعاة الصحّة النفسية للجنود، وبدأ يظهر في الخطاب العام لوسائل الإعلام الإسرائيلية، فالأسئلة التي طرحتها الانتفاضة على المجتمع الإسرائيلي طُرحت أيضاً على علم النفس العسكري، الذي واجه شكوكاً ذاتية وانتقادات من الداخل والخارج.

العقيد السابق بجيش الاحتلال الإسرائيلي ورئيس وحدة العلوم السلوكية رؤفين جال، أصدر تصريحاً بشأن تأثير عمليات جيش الاحتلال على الجنود في الضفة الغربية وقطاع غزة بقوله: «لا توجد بالفعل صدمة نفسية نتيجة لما يحدث»، وعبّر عن «إعجابه بالصحّة النفسية والعقلية للجنود على المدى القصير»؛ لكنّه في الوقت ذاته «توقَّع أن تؤثر العمليات عليهم على المدى الطويل؛ مما سيزيد من الغموض بشأن حالتهم النفسية».

تزامن تصريح جال مع تصريح للمتحدث باسم الجيش الإسرائيلي الذي أكد فيه «عدم وجود أي مشاكل نفسية بين جنود الاحتلال المشاركين في عمليات الانتفاضة»، لكن هذا التصريح قوبل بانتقادات عديدة، وظهرت في الصحف الإسرائيلية ما يُسمّى «عريضة علماء النفس 1988»، وعُرفت باسم «علماء النفس ضد الصمت».

نُظمت احتجاجات عديدة ضد عمليات الجيش الإسرائيلي في قمع الانتفاضة بغزة والضفة الغربية؛ شملت العريضة معارضة الموقِّعون استمرار الاحتلال، مُحذّرين من أضرار نفسية ستلحق بالجنود نتيجة العمليات؛ بينما جادل البعض بأنّ هذه العريضة «غير صالحة»؛ لأنّ «علماء النفس يستخدمون مهنتهم لأغراض سياسية».

تقرير سري

مع تعالي الأصوات المطالبة بمراعاة نفسية الجنود، ظهر الارتباك أكثر، بعد تسريب تقرير طُلب إعداده من الطبيب النفسي تشارلي جرينبوم (צ’רלי גרינבום) والطبيب النفسي دان بار أون (דן בר און 1938-2008)، الذي رأس قسم العلوم السلوكية بجامعة بن غوريون، بالتجول في الضفة الغربية وقطاع غزة (موقع العمليات) وإعداد تقرير عن الحالة النفسية للجنود.

التقرير السرّي الذي سُرّب منه إلى الجمهور الإسرائيلي في ما بعد؛ كشف تحذير جرينبوم وبار أون من استخدام العنف المُفرط لجنود الاحتلال ضد المدنيين الفلسطينيين، وبعد تسريب هذه الأجزاء تم عزل الاثنين من وظائفهما في قوة الاحتياط التابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي كعلماء نفس عسكريين.

الطبيب النفسي الإسرائيلي، يوئيل أليتسور، كتب مقالة نُشرت في صحيفة هآرتس في 31 مايو 1989، ينتقد فيها علماء النفس العسكريين، ويقول: «في حياتنا اليومية، نحتاج جميعاً إلى إنكار الحقائق المروعة عن أنفسنا، لكنّ دور عالم النفس هو كسر هذا الإنكار»، يمضي بالقول: «يبدو أن علم النفس العسكري مُعرّضٌ اليوم لخطر أن يصبح مهنة مجنَّدة يتمثل دورها في إخفاء الثمن البشري الذي تجنيه الانتفاضة من الجيش الإسرائيلي، والمفارقة أن هذا التعتيم يحدث بعد تراكم خبرته في الإصابات العقلية».

يؤكّد في حديثه إلى أفيشر: «لم يرغب الناس في فتح أفواههم وكانوا خائفين؛ لأنّ النظام العسكري لا يتسامح مع أولئك الذين يخرجون عن الإجماع، بخاصة مع وجود أزمة شكلت صدعاً داخلياً في الجيش الإسرائيلي».

في ورقة بحثية بعنوان «التداعيات النفسية والأخلاقية على المجتمع الإسرائيلي لاحتلال الأراضي الفلسطينية» لجرينبوم، وأليتسور، يشيران إلى أن هناك عناصر أسهمت في تعزيز حدة عنف الجنود الإسرائيليين تجاه المدنيين الفلسطينيين خلال انتفاضة الحجارة.

يمضيا بالقول إن العنصر الأول هو الخوف، الخوف الذي ينقله الجنود في مواجهتهم مع السكان المدنيين، بما يمثله من تهديد جسدي «صريح» على حياتهم، والثاني هو القوة التي يشعر بها جنود الاحتلال في الدفاع عن أنفسهم، بخاصة وأنهم طوال الوقت مُسلّحون.

العنصر الثالث- بحسب الورقة البحثية- تصوُّر المدني الفلسطيني على أنه الآخر الذي لا ينتمي إلى المجموعة البشرية، أمّا الرابع فهو عدم وجود رقابة وتنفيذ أعمال غير مصرح بها ضد الفلسطينيين دون عقاب، العنصر الخامس هو التضامن الجماعي، الذي تطالب به وحدة الجيش أو قائدها بعدم الإبلاغ عن السلوك العدواني مع معاقبة الذين يفعلون غير ذلك.

كبير الأطباء الإسرائيليين في جيش الاحتلال في الفترة من 1982 إلى 1991، الذي يشغل حاليًّا رئيس جامعة أرئيل الإسرائيلية يهودا دانون، يحكي أنَّ النظام العسكري بأكمله تعرّض لـ«الصدمة» جراء الانتفاضة؛ وبدلًا من توجيه القائد لجنوده فإنّ ما حدث هو العكس؛ بلّ وتم جرّ وحدات الصحّة العقلية للأحداث؛ التي لم تستطع اللحاق بركب التطوّرات التي يصفها بأنّها «سريعة» وفقدوا السيطرة على الجنود، ويشبّه الأمر بأنّه «سائح يوجه سائق مركبة في بلده»، وفق تعبيره.

ليس هناك انتفاضة

يحكي نسيم أفيشر خلال مقابلته مع دانون أنه قوبل باستهجان شديد من قِبَل مرؤوسيه عندما رفض إطلاق مصطلح «انتفاضة»، ورداً على سؤال أفيشر له قال: «ما الذي تتحدث عنه؟ ليس هناك انتفاضة؟» يفسِّر قوله: «نيتي كانت أن هناك ظاهرة يجب أن يكون اسمها مختلفاً عن وجهة نظرنا، وتقييمها أيضاً مختلف عن كل ما نعرفه أو نعلمه».

وهو ما يؤكدّه عميد الاحتياط في جيش الاحتلال، حاجي دافنا، بأن «الانتفاضة الأولى كانت مفاجأة على عكس الثانية، في البداية كانت هناك حالة من عدم اليقين، وأبلغ الجنود عن مشكلة في التوجيه، حتى وحدات الصحّة العقلية العسكرية التي تهدف لمساعدة الجنود والنظام على العمل بشكلٍ أفضل، وجدت نفسها في مشكلة بالتوجيه».

حالة البلبلة التي عايشها جيش الاحتلال طالت الوحدات كلها وليس وحدات الصحة العقلية والنفسية لجنود جيش الاحتلال الإسرائيلي، وبدأت تعلو أسئلة من جانب الوحدات النفسية بالجيش من نوعية هل نخدم النظام أم الجنود؟ ماذا علينا أن نفعل؟ هل يجب التعتيم إلى أن تصدر الأوامر بكيفية التصرُّف؟

زهفا سولمون، التي كانت تعمل في وحدة الأبحاث بجيش الاحتلال الإسرائيلي أثناء فترة الانتفاضة تقول: «لقد كانت فترة عاصفة ومعقدة وصعبة للغاية، فجأة، اندلع كل شيء وتغيّر كل شيء، في ذلك الوقت كنت في قسم الصحة العقلية، وكنتُ رئيسة لفرع الأبحاث ولم يكن الجنود في وضع يشي بحربٍ؛ لكنهم كانوا في حالة عنف سياسي شديد التعقيد، تزامنت تلك الحالة مع غموض دورنا وظهور أسئلة حول ما الذي يجب علينا فعله وهل نحن نخدم النظام أم نخدم الجنود، هل يجب علينا الذهاب إلى الجنود في مكان العمليات أم ماذا؟».

ترى سولمون أنه في ظل الأحداث المفاجئة التي فُرضت على الجيش الإسرائيلي، لم يكن دور الطبيب النفسي وما عليه فعله واضحاً؛ تزامن مع انهيار التعريفات المألوفة لطبيب النفس العسكري ودوره في النظام، حتى إن قادة الجيش اعتبروا بعضهم غير لائقين؛ في حين أنهم حاولوا التمسُّك بآخرين لمواجهة عاصفة الانتقادات وارتباك المشهد.

تعامل الطبيب النفسي التابع للجيش تكون مهمته سهلة في حالة اندلاع حرب، يمتلك الأدوات التي تؤهله للتعامل مع مثل تلك المواقف؛ يقول رؤفين جال: «نحن علماء النفس العسكريين نتفق كثيراً مع حقيقة أن صدمة المعركة تحدث نتيجة انفجار الألغام والقذائف والدبابات؛ لكننا كنا أقل استعدادًا لردود الفعل المحتملة من تفريق التظاهرات أو تفريق المواطنين أو دخول منازل الفلسطينيين في جباليا أو نابلس على سبيل المثال».

سلطت الانتفاضة أيضاً الضوء على المعضلة الأخلاقية للأطباء النفسيين، بحسب ما يشير أفيشر، التي أثرت على أدائهم والتعامل مع الموقف؛ لذلك اختار عديد من أطباء النفس الإسرائيليين في جيش الاحتلال آنذاك، الصمت أو حتى المراقبة من بعيد؛ لأسباب تتعلق بالحيطة والحذر.

اختلاط الأوراق

في هذه الأوضاع؛ اختلط المهني والسياسي، ولم يعد بمقدور علماء النفس العسكريين التمييز بينهما؛ وصل الأمر إلى اتّهام علماء النفس بالتعتيم على الخسائر النفسية التي تسببها الانتفاضة على جنودها؛ خصوصاً بعد انتشار التقارير التي تشير إلى معرفتهم بالأزمات النفسية التي تعرض الجنود.

ورداً على مقال أليتسور المذكور آنفاً؛ كتب الأخصائي النفسي، ناحي ألون، مقالاً في 1990، بعنوان «حول مهمة الأخصائي النفسي العسكري» الذي- بحسب أفيشر- كشف عن شدة الانقسام الداخلي الذي انكشف في أوساط علماء النفس في مواجهة أحداث الانتفاضة.

مقال أليتسور؛ ومقال ألون مثلا جانبين متناقضين: الأخصائي النفسي العسكري، في مواجهة الأخصائي النفسي المدني، والأخير تحديداً كيّل الاتهامات للذي يقف على الجهة الأخرى، إذ كتب ألون يقول: «الأخصائي النفسي العسكري مثل أي مستشار في النظام، يجب أن يكون غير متحيز».