يقول عالم الجغرافيا المصري د. جمال حمدان إن الأديان تشكل غلافًا شفافًا غير مادي يمكن أن يضاف إلى طبقات الغطاءات المادية المتعددة، التي تغلف سطح الكرة الأرضية؛ لذلك ظل علم الجغرافيا دائمًا يولي اهتمامًا للأديان.

 يظهر الاهتمام الراسخ للجغرافيا بالأديان -الذي يؤكده حمدان- في كتابات الجغرافي البريطاني جون هربرت فلير، وعالم الجغرافيا الأمريكي آيسايا باومان، وصمويل هنتجنتون، وفي العمل الموسوعي الكبير لبيير ديفونتين «الجغرافيات والأديان».

في كتابه «العالم الإسلامي المعاصر» المنشورة طبعته الأولى في القاهرة في أغسطس/ آب 1990، يقدم جمال حمدان تشريحًا دقيقًا، جامعًا مانعًا وماتعًا، لتركيب العالم الإسلامي وجغرافيته السياسية. نستعرض هنا أهم التبصرات الجغرافية الثاقبة التي توصل إليها حمدان في هذا الكتاب.

موقع الإسلام في الجغرافيا والديموغرافيا العالمية

يتمتع الإسلام بتوسع ديناميكي مطرد بعيد المدى من الناحية السكانية، حيث كان في نهاية الثمانينيات ومطلع تسعينيات القرن الماضي -وقت تأليف د. جمال حمدان للكتاب- يكسب كل يوم أرضًا جديدة على امتداد أفريقيا وآسيا المدارية والعالم الجديد. وهو ما يزال قائمًا حتى الآن، رغم كثير من المعوقات أمام العمل الخيري والدعوي الإسلامي التي برزت في تلك المناطق، بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام 2001، وتضييق الولايات المتحدة على الكثير من الجمعيات الإسلامية في هذا السياق بحجة الحرب على الإرهاب.

يعد العالم الإسلامي من أقاليم النمو السكاني السريع، حيث ما تزال معدلات المواليد مرتفعة، بينما انخفضت معدلات الوفيات انخفاضًا كبيرًا، لهذا يكسب الإسلام بمعدل الربح المركب، وتزداد قوته الديموغرافية باستمرار. في هذا السياق قدم حمدان في كتابه نبوءة عن مستقبل النمو السكاني للعالم الإسلامي، حيث يقول:

قد لا تحل دورة القرن إلا وقد أصبح خمس البشرية من المسلمين.

وهو ما تحقق بالفعل، بل ما يزال النمو مستمرًا أيضًا، ويتوقع في هذا الإطار بحسب دراسة أعدها مركز بيو للأبحاث أنه بحلول عام 2030 سيشكل المسلمون أكثر من ربع سكان العالم.

إذا استبعدنا هنا البوذية والهندوسية، واعتبرنا الأديان الإبراهيمية هي الأديان بمعنى الكلمة، نجد أن العالم المعاصر يستقطبه في الواقع قطبان لا ثالث لهما، هما: المسيحية والإسلام، إذ هما الديانتان العالميتان اللتان تتقاسمان العالم المعاصر.

قد يبدو الإسلام في عالم اليوم أضعف ناصرًا وأقل عددًا من المسيحية، إلا أن هذا النمط والتوازن -بحسب حمدان- حديث العهد نسبيًّا، حيث لم يتحقق إلا بعد الكشوف الجغرافية وتوسع أوروبا المسيحية في العالم الجديد والقديم، وبعد الثورة الديموغرافية التي عرفتها أوروبا الصناعية منذ القرن التاسع عشر، أما قبل ذلك فيرجح حمدان أن العكس هو ما كان سائدًا، حيث كان العالم الإسلامي أشد تراميًا واتساعًا من رقعة المسيحية.

من حيث الرقعة والانتشار، يعد الإسلام دينًا عالميًّا لا مراء، رغم ما يدعيه البعض أنه دين جزئي أو إقليمي أو «أفرو آسيوي»، حيث يوشك ألا تكون هناك دولة في عالم اليوم، لا يوجد فيها مسلمون.

يشغل جسم الإسلام الحقيقي، أو بيت الإسلام، كما يسميه حمدان، حيزًا جغرافيًّا هائلًا بأي مقياس، فالإطار الخارجي الأقصى للإسلام يصل شمالًا حتى أعالي الفولجا غير بعيد عن دائرة العرض 60 شمالًا، ويترامى جنوبًا حتى نهاية أفريقيا عند رأس الرجاء الصالح على خط عرض 35 جنوبًا، أما شرقًا وغربًا، فنحن نلهث مع الإسلام من خط طول 120 شرقًا حيث الفلبين، إلى حوالي 3 غربًا لدى أرخبيل الرأس الأخضر في المحيط الأطلسي.

تبلغ هذه المساحة 95 درجة بالطول ونحو 140 درجة بالعرض، أي ما يعادل نصف دورة من دورات الليل والنهار، ونصف دورة من دورات فصول السنة على التوالي.

في هذا السياق يتحدد محيط الإسلام بنصف الكرة الشمالي أولًا، ونصف العالم القديم ثانيًا، بينما يمثل الإسلام، كما يقول حمدان بلغته الأدبية الجزلة الرائقة، أطراف وأصابع ثانوية جنوب خط الاستواء، وشظايا سديمية متطايرة في العالم الجديد.

نظرية جمال حمدان حول جغرافيا العالم الإسلامي

كما فعل في عمله الأشهر «شخصية مصر، سعي حمدان في كتابه عن العالم الإسلامي المعاصر، إلى البحث عن «الشخصية الإقليمية» للعالم الإسلامي، وتحليل أبعادها الطبيعية والبشرية والتاريخية والدينية، من خلال نظرة كلية تكثف ملامحها في قانون مكاني واحد أو معادلة جغرافية واحدة.

يتبنى حمدان في هذا السياق تقسيمًا حلقيًّا للعالم الإسلامي، يتمحور حول بؤرة محددة هي القلب، تدور حولها حلقات متتابعة متحدة المركز، متزايدة الأقطار، كحلقات الماء عندما تلقي فيه بحجر.

يعود هذا النموذج إلى نشأة الإسلام من نقطة معينة في الجزيرة العربية، انتشر منها إلى جميع الجهات وصولًا إلى أقاصي العالم القديم، على محاور محددة وخطوط مقاومة دنيا بعينها، هنا تشكل بوضوح قلب وأطراف الإسلام في انحدارات يمكن قياسها وعلى محاور وقطاعات يمكن تحديدها، كما يقول حمدان.

يحدد حمدان أيضًا عددًا من المحاور الرئيسية والثانوية للعالم الإسلامي، منها 4  محاور في آسيا، و 3 في أفريقيا، و3 في أوروبا.

المحور الأول في أفريقيا هو المحور النيلي الذي بدأ بمصر ومنها انطلق داخل حوض النيل حتى وصل إلى النوبة ثم السودان، وصولًا إلى السافانا ومنطقة بحيرة تشاد التي يستدير معها الإسلام في محور ثانٍ، يغلق دائرة كاملة من دوائر حركة الإسلام التاريخية، وهو محور يتحلق تحديدًا حول الصحراء الكبرى في شمال أفريقيا ويتبع تمامًا حدود سواحلها وشواطئها.

المحور الثالث والأخير في أفريقيا، هو محور شرق أفريقيا، ابتداء من القرن الأفريقي وصولاً إلى رأس الرجاء الصالح في أقصى جنوب القارة، وهو محور مرتبط بحركة التجارة الإسلامية التاريخية التي تصل شرق أفريقيا ببحر العرب والمحيط الهندي.

أما عن آسيا، فيمثل الهلال الخصيب «الشام والعراق» المحور الأول، الذي انطلق منه الإسلام إلى هضبة إيران برمتها، وهبط من أعلاها كالسيل المنهمر، عبر سهول الهند الشمالية على ضفاف نهري السند والجانج، حتى خليج البنغال شرقًا ومشارف هضبة الدكن جنوبًا.

يبدأ المحور الثاني في آسيا من إيران كبؤرة ثانوية، ويمتد في سهول التركستان المترامية شرق بحر قزوين، ليرسم قوسًا عظيمًا عكس عقارب الساعة يلف السهوب ويطوي بلاد ما وراء النهرين، منتهيًا شمال بحر قزوين وغربه إلى الفولجا وتخوم البحر الأسود.

بدأ الإسلام منذ القرن الـ 13 م يصعد ذرى قلب آسيا الجبلية في طريقه إلى الصين، على طول الطرق التجارية التقليدية التاريخية، من خلال التجار العرب والفرس، وهنا يتشكل محور ثالث لانتشار الإسلام في قارة آسيا.

المحور الآسيوي الرابع وفق حمدان يتمثل في المحور التركي، الذي انطلق من أواسط آسيا، وأخذ مسارًا عكسيًّا مضادًّا لمسار المحور الإيراني الهندي، فاتجه غربًا عبر إيران إلى الأناضول التي دخلها الإسلام منذ القرن الـ 13 م، ليمتد إلى البر الأوروبي إلى البلقان حتى نهر الدانوب بين القرنين الـ 14 و الـ 17، ويعد هذا المحور آسيويًّا في أصله، وأوروبيًّا في امتداده، وهو منطلق أحد أهم المحاور الثلاثة التي دخل الإسلام أوروبا من خلالها، وكان أشدها توغلاً وأبقاها أثرًا.

كذلك ثمة محور بحري هام يترك اليابس إلى المحيط، ليقفز بالإسلام قفزة واسعة عبر المحيط الهندي إلى عالم الجزر وأشباه الجزر في جنوب شرق آسيا، في الملايو وإندونيسيا وغيرها، كان رواده البحارة والتجار العرب والمسلمون، على امتداد الطريق البحري التاريخي المعروف بطريق البهار أو التوابل.

بالعودة مرة أخرى إلى نموذج التقسيم الحلقي، استند حمدان إلى 5 عناصر أساسية في بناء حلقات هذا التقسيم، التي حددها بـ 6 حلقات.

والعناصر الأساسية هي على الترتيب: عمر الإسلام في المنطقة الجغرافية، الكثافة الديموغرافية، نوع الإسلام (سني، شيعي … إلخ)، نسبة العنصر السكاني العربي، مدى انتشار اللغة العربية.

أما بالنسبة إلى الحلقات فهي على التوالي:

1. منطقة القلب والنواة: وهي مناطق العالم العربي المعاصر التي تحولت إلى نواة كبرى للإسلام بعد انبثاقه من الجزيرة العربية، والتي تحول لسان أهلها إلى العربية بعد دخولهم الإسلام، رغم بعض الجيوب والجزر اللغوية التي تبقت لدى الأكراد والبربر.

يعزو حمدان سهولة التعريب وانتشار الإسلام في تلك المناطق إلى الجذور الأنثروبولجية المتقاربة في الأصول العليا لساكنة الصحراء الكبرى في مصر وشمال أفريقيا مع سكان الجزيرة العربية والهلال الخصيب، حيث كان هؤلاء بمثابة أبناء عمومة باعدت بينهم الأقطار، إلى أن جاء الفتح العربي الإسلامي، فكان بمثابة عملية «خض» كبرى أعادت تقليب كل أولئك لتصهرهم من جديد في بوتقة جنسية ولغوية وعقائدية واحدة.

2. النواة الميتة: وهي امتداد العالم العربي في العصور الوسطى عبر البحر المتوسط في إسبانيا وجنوب إيطاليا، أو حدود خط زراعة زيتون كما يقول عالم الجغرافيا المسلم الشريف الإدريسي المتوفى في العام 1165 م، في ملاحظة وصفها جمال حمدان بالثاقبة.

3. ظل العرب: وهي الحلقة الثالثة التي يصفها حمدان بأشد الحلقات التصاقًا بالنواة العربية، وهي خراسان أو إيران وأفغانستان اليوم.

4. شبه ظل العرب: ويقصد بها تركيا، التي تعد أقل تأثرًا بالعربية من الحلقة السابقة.

5. صدى العرب: وهي المناطق ذات الأغلبية المسلمة، البعيدة نسبيًّا عن العالم العربي، في آسيا الوسطى وباكستان وتركستان والملايو وجزر إندونيسيا الرئيسية، والساحل الشرقي لأفريقيا في إريتريا والصومال وصولاً إلى تنزانيا.

6. الأطراف الهامشية: وهي تخوم العالم الإسلامي وأطرافه النائية، التي لا يمثل فيها الإسلام سوى أقليات محدودة من التعداد السكاني، كما هو الحال في روسيا الاتحادية اليوم،وعلى الحدود مع وسط أوروبا في البلقان.

الدين والقومية : نظرية الوحدة الإسلامية من منظور حمدان

في تحليله لنظرية الوحدة الإسلامية من الناحية السياسية، استند جمال حمدان إلى أساس فكري قومي، جراء خلفيته القومية الناصرية، وفي هذا السياق يقسم حمدان الدور السياسي للإسلام على مستوى العلاقات الدولية، إلى دورين: دخيل وأصيل.

يتمثل الدور الإسلامي الدخيل في فترة صناعة الأحلاف بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وهي 6 مشاريع أحلاف متعاقبة عسكرية وسياسية، كان مهندسها هو المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية خلال مرحلة الحرب الباردة، ومن أشهرها حلف بغداد الذي دشن عام 1955.

أما الدور الأصيل للإسلام من الناحية السياسية على الصعيد الدولي، فهو التنسيق الاقتصادي والترابط  والتبادل التجاريين والتفاعل الثقافي والفكري العام، والتضامن السياسي الوثيق في المجتمع الدولي لمجابهة الأخطار الخارجية.

باختصار، تعد الوحدة الإسلامية من وجهة نظر حمدان، «وحدة عمل» لا «وحدة كيان»، أي أنها وحدة عقائدية وفكرية، ولكن ليست وحدة دستورية. يتبنى حمدان نموذجًا للوحدة الإسلامية، تمثل أقصى صوره الوحدة التعاهدية أو الكونفيدرالية مثل دول الاتحاد الأوروبي، على خلاف تجارب الوحدة الفيدرالية كما هو الحال اليوم في روسيا الاتحادية والولايات المتحدة الأمريكية.