كان قد مضى 3 أشهر فقط على سقوط حكم حسني مبارك، رغم ذلك حضرت القضية الفلسطينية على رأس أجندة ثورة 25 يناير. وفي مايو/آيار 2011 تم الإعلان عما سُمي «الانتفاضة الفلسطينية الثالثة» على مواقع التواصل الاجتماعي، لتبدأ مظاهرات الآلاف تنديدًا بالاحتلال الإسرائيلي ودعمًا للقضية، ثم مضت أشهر أخرى قليلة من نفس العام قبل اقتحام السفارة الإسرائيلية بالقاهرة من قِبل المتظاهرين، في أكبر رد فعل جماهيري عدائي منذ اتفاقية كامب ديفيد.

يعتبر البعض أن عدم قدرة «ثوَّار يناير» على تحديد أولوياتهم قد انعكست نتائجه على اللحظة الراهنة، عقب ما عايشناه بعد مرور 9 أعوام على انتفاضة ألهمت جميع من شاركوا بها، وخلقت روحًا لا يمكن تجاوزها بأي حال من الأحوال، ولكن القضية الفلسطينية تحديدًا لا يمكن التعامل معها بمعزل عن 25 يناير.

ليس لأن الأخيرة أحيت الآمال في نظام يحكم بدستور الشعب ويدرك معاناته وقضاياه – وبالتالي فإن فلسطين ستحتل محورًا رئيسًا في سياسته بنظرة متفائل قبل 9 أعوام – لكن لأن الثورة نفسها استفادت من القضية للوصول إلى لحظة سقوط رأس نظام دام 30 عامًا، عبر أعوام من العمل في الشارع من أجل فلسطين.

تجلى الترابط الواضح بين القضيتين عام 2012 عندما دخلت أول قافلة مصرية إلى غزة عبر معبر رفح، بأوراق إثبات الهوية. كان المئات فقط في تلك القافلة، ولكنها أظهرت قدرة زخم الحراك على خلق التضامن الواسع مع جيرانهم، وإلى أين يمكن أن يصل مداها لاحقًا.

الثورة وفلسطين

وفي وقت كان العديد من النشطاء يتحدثون فيه عن قوة العلاقة التاريخية بين الشعبين، وأن القضية الفلسطينية تأتي على رأس اهتمامات الثورة، عبَّر هيثم محمدين، أحد قيادات الاشتراكيين الثوريين وأحد أهم أصوات الثورة المصرية بكل ما حملته من صدق واستبصار ومبادئ -وهو معتقل حاليًّا- عن رؤيته، معتبرًا أن ثورة يناير هي ما تدين بالفضل إلى القضية الفلسطينية وليس العكس؛ لأن أعوام العمل في الشارع من أجلها آلت إلى خلع رأس النظام، وقد كانت كلماته حقيقية إلى أبعد مدى.

مع انفجار الانتفاضة الفلسطينية الثانية مطلع الألفية الثانية، انتفض معها آلاف المصريين في الشوارع في زمن كان من البديهي فيه أن تحتل قضية الأرض منبرًا أساسيًّا في تفكيرهم. وتلك المظاهرات شكَّلت البذرة التي نمت ببطء حتى حان قطافها، رفقة عوامل أخرى عدة.

مع المظاهرات تأسست «اللجنة الشعبية للتضامن مع الشعب الفلسطيني»، ومعها تمهد العمل السياسي الجامع لفئات وتوجهات مختلفة من الحركات والأحزاب السياسية لأول مرة معًا، وعندها ظهرت تكتيكات حشد جديدة لتفادي سطوة الأمن، وهو ما تحدثت عنه بالتفصيل الناشطة جيهان شعبان، وأدت نتائجه لتراكم الخبرات وتولد القدرة على الحشد والتنظيم السريع، الذي مرَّ بعدة مراحل من المعارضة المدنية حتى انتهى باحتلال الميدان وشلِّ مفاصل الدولة لمدة 18 يومًا.

يُدرك النظام المصري الحالي ذلك جيدًا، فقد درس كل الأسباب التي أدت إلى 25 يناير، ولذلك لم ولن يسمح على الإطلاق بأي هامش يخص القضية الفلسطينية، لأنه تيَّقن من أن الهوامش كانت سببًا في سقوط مبارك، وفي هذا السياق يبدو انزعاجه من هتافات لفلسطين في مباراة طبيعيًّا، والطبيعي معه أن يُعتقل من يرفع العلم أو من يعمل على المقاطعة.

خوف النظام بالأساس من كلمة فلسطين لا لأنها تُغضب واحدًا من أهم شركائه/ حلفائه الإقليميين، إن لم يكن أهمهم، وإنما لأنها تعني أن هناك روحًا ما زالت تنبض، وقضية يمكن التوحد حولها، ما يترتب عليه نتائج سبق أن شاهدها تهدد عرشه.

من اللافت للنظر هنا أن النظام المصري استخدم بعضًا من الأدوات التي استخدمها الإسرائيليون لردع الفلسطينيين، وهو ما يأتي ضمن نظرة جديدة لإسرائيل باعتبارها «زعامة عربية وشقيقة كبرى»، بحسب توصيف الكاتب محمد نعيم.

إذا إن كان النظام يستخدم الأدوات الإسرائيلية – التي أثبتت فعاليتها – فلماذا لا نستخدم نحن الأدوات الفلسطينية التي أثبتت كفاءتها من قبل؟

والمقصود هنا أدواته الاجتماعية والثقافية، وفي مقدمتها التأريخ الشفهي، كوسيلة لمجابهة احتكار الصهاينة لرواية التاريخ، وهو موقف مشابه لما حدث في مصر من رواية جعلت 25 يناير مؤامرة على كل المنابر التي تُحرِّكها السلطة، ليُدرَّس للأطفال في كتبهم أن 30 يونيو هي الثورة.

التاريخ الشفهي كوسيلة فعالة

للتاريخ الشفهي مصداقيته بحسب ما يدلل الكاتب «ستيفن ناش» في مقاله عبر موقع «ذي أتلانتيك»، والذي جاء بعنوان «التقليل من موثوقية التاريخ الشفهي»، والذي ترجمه للعربية موقع منشور، إذ استعرض العديد من الوقائع التاريخية التي تؤكد وجهة نظره.

وبغض النظر عن ذلك الجدل، كان التأريخ الشفهي وسيلة فعالة لدحض مقولة جولدا مائير الشهيرة «الكبار يموتون، والصغار ينسون» ليحوِّلها الفلسطينيون إلى «الكبار يموتون، والصغار لا ينسون»، متغلبين على ضياع أو إخفاء كم هائل من الوثائق منذ نكبة 1948.

وفي مقال للمركز الفلسطيني للإعلام بعنوان «التاريخ الشفوي: الذاكرة، الأهمية، الاحتياجات»، تحدث الكاتب عن تجربة «غسان الشهابي» في مخيم اليرموك، واعتبره «مثالًا جيدًا لقرويين فلسطينيين ينشرون كُتبًا بأنفسهم عن تجاربهم الخاصة، فقد نشر الشهابي كتابًا عن الطنطورة قبل أن يكتب المؤرخ الإسرائيلي (تيدي كاتس) دراسته عن المجزرة»، وأيضًا «كتب إبراهيم الشهابي كتابًا عن قرية (لوبيا)؛ مما استثار وحرَّك رجلًا من عائلة أخرى من ذات القرية، هو يوسف أبو دحيس، لكتابة كتاب آخر عن القرية نفسها؛ لأنه اعتقد أن كتاب إبراهيم غير مكتمل».

وتشير «شبكة السياسات الفلسطينية» إلى أن الكاتبة «روزماري صايغ» أول من وثَّق التاريخ الشفوي الفلسطيني توثيقًا منهجيًّا من خلال عملها في مخيمات اللاجئين في لبنان في الثمانينيات. وفي عام 1983، وضعت جامعة بيرزيت واحدًا من أوائل البرامج على صعيد العالم العربي لتدريس التاريخ الشفوي. وفي 1998، أسَّست الجامعة الإسلامية في غزة مركز التاريخ الشفوي، بهدف جمع الروايات الشفوية من زمن النكبة والنكسة، وهكذا بدأ إنتاج التاريخ الشفهي الفلسطيني يتوالى.

«دعَّم (التاريخ الشفهي) الدفاع عن الثقافة والذاكرة في أوساط الفلسطينيين في مواجهة محاولات الطمس والمحو»، بحسب المؤرخ الفلسطيني «نور مصالحة»، «لأنه يركز على التاريخ الاجتماعي ووجهات النظر المهمشة، لذلك فإنه قادر على إيجاد فضاء يستوعب التجارب المتنوعة للأجيال»، وهذا ما تحتاجه أجيال يناير المتعددة بالتأكيد.

إنتاج التاريخ الشفهي يشهد مساهمات هائلة من الفلسطينيين، ومن أبرز الفاعلين موقع «فلسطين في الذاكرة» الذي يوثق العديد من الشهادات والصور عن التطهير العرقي والقرى المدمرة، وكيف كانت الحياة الفلسطينية قبل النكبة وبعدها، وقد أتى موقع «أرشيف 858» المعني بتويثق أحداث ثورة يناير مشابهًا له إلى حد كبير، وإن كان بحاجة للتعريب والتقسيم بشكل أفضل.

كذلك يشمل التأريخ مقالات صحفية ومواضيع لمجلات ودوريات ومؤتمرات وحلقات عمل مجتمعية ومقابلات صوتية ومشروعات توثيقية.

تطرح تلك النماذج تساؤلًا: لماذا لا نجابه احتكار السلطة للرواية الرسمية، ونكتب نحن روايتنا عن الثورة كأرشفة وتوثيق لحدث ملهم يُعد «لبِنة» لبناء مستقبلي. وهنا أتحدث عمَّن لعبوا دورًا فيها وعايشوا أطرافها المختلفة، وكانوا فاعلين في المسارات المختلفة، أولئك على الأقل ممن نجوا من الاعتقال أو حالفهم الحظ في التواجد خارج مصر.

القضية الآن تلبس رداءً جديدًا قائمًا على محاولة الفهم والوعي، مدفوعة بطاقة الغضب الكبيرة، ولذا تحتاج أدوات جديدة. فالتراجع على الأرض يجب أن يقابله تقدم في القلوب والعقول، مثلما أصاب صديق في وصفه.

هناك الآلاف في منفًى اختياري بالخارج أو ما أطلق عليه اصطلاحًا «التغريبة الثالثة»، وبعضهم كانوا من أصحاب الرأي والفاعلية، والبعض الآخر كانوا من قادة الثورة، فلماذا لا يحدثوننا عن تفاصيل ما جرى خلف الكواليس، سواء شهدت تلك الكواليس تعاملاتهم مع أصحاب القرار ورؤيتهم لعقليتهم وشخصياتهم وطريقة الإدارة، أو تعاملاتهم مع الدوائر السياسية الأخرى التي تشمل من كانوا برفقتهم أو في جبهة مضادة.

فليحدثونا عن نظرتهم في ذلك الوقت وكيف اختلفت حاليًّا، والدروس التي خرجوا بها، والتجارب التي يودون تجنبها مستقبلًا. قد لا تتسم شهادات البعض بمصداقية كاملة، لذا فالأمر يحتاج لمنهجية في هذا الشأن، وعمل مؤسسي يمنحه طابعًا معلوماتيًّا مُصدَّقًا، يصنع معه زخمًا إعلاميًّا محايدًا، وقراءة جديدة مُحمَّلة بالتراكمات والخبرات، قادرة على إحياء مشهد المعارضة والمكاشفة بأدوات مختلفة (جديدة/قديمة).

من بين العديد من الكتب عن الثورة، كان كتاب «الثورة التائهة» (2012) لعبد العظيم حماد، المثال الذي نقل لنا بعضًا من كواليس ما جرى، إبان فترته كرئيس تحرير لجريدة الأهرام، حين شهد كيفية صنع القرار في مصر.

نحن بحاجة إلى مثل تلك الكتب. نحتاج تاريخنا الشفهي الذي يحفظ ذاكرة عهدت النسيان، فعلى الأقل حين يموت الكبار ربما لن ينسى الصغار. هتف محمدين يومًا «وأدي الحل أهو جي من الضفة»، ومن المحتمل أنه كان يعنيها حرفيًّا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.