اﻷصولية الماركسية (الجدانوفية) أو الواقعية الاشتراكية، هي المجال الموازي للأصولية الدينية، من حيث العناصر المشتركة في (أُحادية الإدراك، وحرفية الفهم، وتقليدية الوعي، واتباعية النظر)، ويُصاحب هذه العناصر آليات فكرية مثل: (الجمود ورفض التغيير، التعصب وعدم التسامح، الإجماع ورفض الخلاف، التصلب في الرأي وعدم المرونة، و«أنا» المحدودة للمتكلم موضع الوعي المُطلق للأمة، والتعميم بحيث يصبح الجزء محل الكل)، فيكون الخطاب الموجه بهذه العناصر وآلياتها خطاب العنف والأنانية ونبذ الآخر، ووضع كل مختلف -في نظر الأصوليين الماركسيين- تحت طاولة الخيانة باتهامات معينة مثل (التبعية للغرب الرأسمالي أو حتى البرجوازية فقط).

البداية

ظهرت هذه النزعة الأصولية على يد «أندريه ألكسندرفتش جدانوف» (1896-1948)، وقد بوركت من قِبل «ستالين» و«جوركي».

أطلقها جدانوف، عام 1934 حينما كان سكرتير اللجنة المركزية للشئون الأيديولوجية للحزب الشيوعي، وذلك في المؤتمر الأول للكُتَّاب السوفييت تحت شعار: «استئصال مخلفات الرأسمالية في اقتصادنا وعقول شعبنا». وقد مارست هذه المنظومة كل أشكال الأصولية، من خلال الاحتكار الفني والإبداعي وعمليات الإخراس لكل الأصوات المُخالفة، فقد أحلُّوا التأويلات المُتصلبة محل التأويلات الاشتراكية المرنة، وبدأت بالمراقبة الحكومية على الفن والإبداع والشعر والمسرح والمجلات والصحف حتى الراديو، ومارست ألوانًا مختلفة من القمع والتسلط. وقائمة ضحايا هذا النظام تطول ومنها: [1]

  1. انتحار الشاعر «مايكوفسكي» عام 1930 وتدمير «الجبهة اليسارية» المُخالفة لتلك الأصولية الواقعية لـ «ستالين» وأعوانه. ومِن الكُتاب مَنْ فرَّ إلى الغرب الرأسمالي طلبًا للحرية بعد تضييق الخناق عليه وعلى أفكاره مثل «كرومان ياكسبون».
  2. «ميخائيل زوشينكو»، الذي تم طرده من اتحاد الكُتَّاب السوفييت واتهموا كتاباته بالتبعية للأنظمة البرجوازية.
  3. «فسيفولد برهولد»، المُنتج المسرحي التجريبي الذي أعلن قائلًا: «إن هذا الشيء التافه العقيم المُسمى بالواقعية الاشتراكية لا علاقة له بالفن». فتم اعتقاله في اليوم التالي من إعلانه هذا وتوفي في السجن، واغتيلت زوجته في ظروف غامضة.

والجدير بالذكر أن هذه الأصولية رغم موت صاحبها (جدانوف) عام 1948، فإنها ظلت منهجًا لكهنة الواقعية الاشتراكية الجِدانوفية إلى موت ستالين عام 1953. وعند تولى «خروتشيف» حكم البلاد، انقلب على أفكار ستالين الأصولية، وبدأ بعملية «ذوبان الجليد» أي إصلاح ما نتج عن فترة ستالين القمعية، وإعادة الهيكلة التي أفسدتها الهيمنة الستالينية الجِدانوفية الأصولية، وبدأت عملية التبرؤ من هذا الخطر القابع في الفكر السوفيتي.

والحق أن هذه الأصولية السوفيتية قد خدمت النظرة الشوفونية (الغلو في حب الوطن) ذات الطابع العرقي الاستعلائي، أو كما سمَّوها هم بأنفسهم (الإثنية)، وهي أن العرق الروسي هو الأسمى من بين الأعراق بثقافته الواقعية واقتصادياته المُنهكة وسياساته القمعية، وذلك لا يختلف عن فكرة الجنس الآري لدى «أدولف هتلر»، فصار كهنة الأصولية هم أبناء الفرقة الناجية الموعودة بفردوس يوتوبيا المُستقبل الشيوعي.

أمَّا أبناء الفرقة الضالة، فليس لهم إلا السكوت والصمت، حيث تم إغلاق المنافذ التي يروجون من خلالها أفكارهم، وهُدمت منابرهم كما حدث مع مجلتي (زفيزدا – النجم) و(ستالين جراد) عام 1946، وتم إعدام عدد من كُتَّابها. [2]

مُعاناة الشاعرة «آنا أخماتوف»

من أشهر الضحايا لهذه الفترة القمعية الشاعرة والأديبة «آنا أخماتوف»، والتي تم إخراسها طوال حكم ستالين ومنعها من الكتابة من عام 1923 إلى 1940. ففي عام 1940 تم السماح بنشر ديوان لها، ولكن تم إصدار قرار حكومي بسحبه من المطابع ودور النشر ومُصادرته ومُلاحقة كل من يتداوله، ولم تنشر من وقتها أي شيء، إلا في عام 1950 حين نشرت قصيدة شعرية في إحدى المجلات مادحة لستالين، والسبب وراء ذلك أن ابنها تم اعتقاله ونفيه إلى سيبريا، فمدحت ونافقت ستالين مقابل إطلاق سراح ابنها. [3]

كذلك وصلت الوقاحة بكهنة الواقعية الاشتراكية أن حاولوا أدلجة العلم، أي طبع العلم بالهوية الثقافية السوفيتية، ليُساير أهواء وثقافات وأيديولوجيات السوفييت، فادَّعوا أن الاختراعات الموجودة في الغرب ذات أصل روسي، كما يفعل الإسرائيليون اليوم، وادَّعوا أن هناك عِلمًا سوفييتيًّا خالصًا لهم وأسموه بـالعلم الماركسي، مُعتمدًا على منهج معين يرتكز على كتاب «جدل الطبيعة» لـ «فريدريك إنجلز» ورسالة «لينين» عن المادية والنقد التجريبي الإمبريقي.

وقد قام أحد أعلام الجدانوفية وهو «ليسينكو» بابتكار ما يسمى بالأحياء الاشتراكية، والتي انتهت بفضائح وخسائر في الزراعة الروسية، وتأخر علم البيولوجي بسبب هذه الخُرافات قُرابة عقدين من الزمان في روسيا، وتم إعدام وحبس كل العُلماء المُعارضين لخلط العلم بالهوية الثقافية، كالعالم الروسي «فافيلوف»، الذي تم إعدامه عسكريًّا رميًا بالرصاص. [4]

بعد موت ستالين اتجه المثقفون إلى التبرأ من تلك الأفكار الكارثية المُسماة بالواقعية الجدانوفية، وبدأ خروتشيف بإصلاح المفاسد الناتجة عن نظام ستالين. وقام الكاتب الفرنسي «روجيه جارودي» في كتابه «الفن ضد الأيديولوجيا» بتشبيه الواقعية الاشتراكية بأنها حالة من الكبت الجنسي، وليس لها علاقة بالاشتراكية والماركسية لا من قريب ولا من بعيد

الخلاصة

في الأخير ما حدث في الاتحاد السوفيتي من محاولتهم لأدلجة العلم وقمع الأصوات المُعارضة، وانتهاجهم المنهج الأصولي في التفكير ورفضهم للآخر، ليس بالأمر الغريب على كل مجتمعات العالم، فقد حدث نظير ذلك في ألمانيا عند صعود الرايخ الألماني قبل الحرب العالمية الثانية، وقيام هتلر بحرق كل الكتب غير الألمانية خاصة الأدبيات اليهودية منها والروسية والفرنسية كذلك، بحجة أنها مفسدة لعقول الشعب الألماني، ونحن في عالمنا العربي نُقاسي مثل ما قاسه أدباء ومُفكرو تلك الحقبة السوفيتية القاتمة.

والسؤال الذي يطرح نفسه: هل للعلم جنسية أو وطن؟ بالتأكيد لا، فالعلم مثل الحلقات المتتابعة والمتتالية، لا نستطيع أن نحصره داخل دائرة واحدة خاصة لو كانت دائرة أيديولوجية فكرية، فنحن لا نستطيع أن نقول: إن علم الاجتماع علم إسلامي، ولو كان منبعه وانطلاقته على يد عالم مُسلم وهو «ابن خلدون»، إلا أن كل الحضارات والدول منذ عصر النهضة وضعت بصمتها في ذلك العلم، فصار غير قاصر على أيديولوجية دون أخرى، بل صار يحوي العديد والعديد من البصمات المُختلفة الدالة على أفكار وحضارات مُختلفة، فالعلم مثل القماش المتمدد يزداد تمدده على يد المُبدعين والمُفكرين، وقابل لإضافة كل جديد فيه بغض النظر عن صاحب الإضافة سواء جنسه أو لونه أو تلك الأيديولوجية التي يتبناها.

فالعلم يُوحِّد الأمم، ولا يُفرقها.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. جابر عصفور، “الهوية الثقافية والنقد الأدبي”، دار الشروق، القاهرة، 2010، صـ352-353.
  2. المرجع السابق، صـ354.
  3. إرنست فيشر، “ضرورة الفن”، ترجمة: أسعد حليم، الهيئة المصرية للكتاب، 1998، صـ269.
  4. جابر عصفور، مرجع سبق ذكره، صـ356.