بعد استعراض البدايات الأولى لنشأة المسألة اليهودية في الحلقة السابقة، نستكمل هنا تطور المسألة اليهودية وصولًا إلى نشأة الحركة الصهيونية.

كان الحاخامات اليهود يمنعون العامة من التفكير في العودة لفلسطين، ويذكّرونهُم أن ذلك يجعلهم ملحدين مُهرطِقين فالدين اليهودي يُحرِّم العودة لفلسطين بنية إقامة دولة إلا بظهور «الماشيح» في آخر الزمان.

في الحقيقة كانت فِكرة إعادة اليهود إلى القدس فِكرة مسيحية في الأصل، ولنكون أكثر دِقة هي بروتستانتية صهيونية، أي قائمة على إعادة اليهود إلى «جبل صهيون» بفلسطين، حيثُ ظهر في القرن السابع عشر في صفوف المسيحيين البروتستانت فكرة مفادها أن المسيح سيعود في آخر الزمان ليحكُم العالم هو والقديسون لمدة ألف عام، يسود فيها العدل والسَلام، ولن يحدثُ ذلك إلا عندما يتم استرجاع اليهود لفلسطين كي يتم تنصيرهُم وتمت تسمية تلك الفكرة بالعقيدة الألفية. [1]

مشروع «لورنس أوليفانت»

وظلّت مُجرد نبوءة غير مؤثرة، إلى أن تلاقت مع الوضع السياسي تدريجيًا، وكان من أوائل منْ فكّروا في توطين اليهود بفلسْطين هو «لورنس أوليفانت» الدبلوماسي المسيحي البريطاني، والذي قام برحلة في العام 1880م للمنطقة العربية لمُعاينة الأماكن التي يرىَ أنها مُناسِبة للاستيطان، وكان أقربها فلسْطين بالإضافة للأردُن، وعرض فكرة لحل العديد من المشاكِل في نظره وشرحها لرئيس الوزراء البريطاني، والذي وافق عليها، وتمثلت ببساطة في إرجاع اليهود الغربيين للمنطقة العربية داخل حدود الدولة العثمانية، وإنشاء مستعمرات زراعية وصناعية وكانت رؤيتهُ كالآتي:

  • من الناحية الدينية: وهي الدافع الأساسي لديه ستتحقق النبوءة التي يؤمن بها أوليفانت والبروتستانت، وهي التعجيل بعودة المسيح.
  • من الناحية الاقتصادية: يملك اليهود الغربيون ثروات ضخمة غير مُستغلة، يمكنها مُسَاعدة الدولة العثمانية في النهوض اقتصاديًا وعسكريًا.
  • من الناحية السياسية: ستتمكن الدولة العثمانية من استرداد عافيتها، مما يجعلها سياسيًا قادرة على مواجهة التوسع الروسي، فتطمئن بريطانيا على مستعمراتها.
  • من الناحية الاجتماعية: سيبتعد اليهود عن الاضطهاد الأوروبي ويتم حل المسألة اليهودية، التي أرّقت الجميع، كما أن ذلك لن يُشكِّل أزمة للدولة العثمانية التي اعتادت على منح اليهود مكانة طبيعية في مجتمعها.

وقد دلل أوليفانت حينها على رؤيته تلك بالإشارة إلى فرمان كان قد أصدره السلطان العثماني في تلك الفترة، شدّد فيه على أن الأمة اليهودية يجب أن تحصُل على نفس الامتيازات الممنوحة للأمم المتعددة الخاضعة لسُلطات للدولة العثمانية، ويجب حمايتها، ولتحقيق هذا الهدف تم إعطاء أوامر بأن من يقيم من الأمة اليهودية في سائر أنحاء الإمبراطورية يجب أن يتمتع بالحماية ذاتها التي يتمتع بها بقية الرعايا الخاضعين للباب العالي، وأن يُمنَع أي شخص من إهانتهم بأي أسلوب سواء في ممارستهم لشعائرهم أو فيما يتعلق بسلامتهم وهدوئهم وسكينتهم. [2]

لاقت رؤية أوليفانت إعجاب بعض المسئولين في الدولة العثمانية وعلى رأسهم الصدر الأعظم، ولكن السُلطان «عبد الحميد الثاني» كان مُترددًا في اتخاذ قرار بالموافقة أو الرفض، حيث ظلّ يؤجل موعِد المقابلة، وبعد حوالي عام قرر مُقابلة أوليفانت ومُناقشة الأمر معه في شهر إبريل/نيسان عام 1880، وبعد فترة من الحوار أعرب السلطان عن موافقته الشخصية  لكنه استرسل موضحًا أن وزراءهُ ومستشاريه عارضوا ذلك، مما جعل أوليفانت يغضب من المراوغة، حيثُ إنه كان قد تحدّث مع الصدر الأعظم و7 من الوزراء ولم يكن هناك اعتراض، بل ترحيب واقتناع.

فبدأ حوار ساخن لم يخفِ فيه عدم تصديقه للسلطان، وتفاديًا لأي أزمة في الحوار قام «هنري لايارد» السفير البريطاني في القصر العثماني بمُرافقة أوليفانت إلى غرفة أخرى، وشرح له أن السلطان كان على وشك الموافقة لولا حديثه عن أن عودة اليهود لفلسطين ستكون إيذانًا بعودة المسيح.

والحقيقة أن السلطان لم يكُن مراوغًا، فمستشاروه مِن المسيحيين العرب فِعلًا أشاروا عليه بعدم الموافقة، لأن تلك الرؤية ليست بدافع العطف على اليهود وإنما مُحركهَا عقيدة مسيحية فاسِدة، وقد أشار أوليفانت بنفسه إلى ذلك في كتابه، حين وصف أن حجر العثرة الذي وقف أمامهُ كان مسيحيًا. [3]

توقفت محاولة أوليفنت الرسمية، لكنه استمر بشكل آخر، وأسّس صندوق تطوير الاستيطان، واستغل العائلات اليهودية الفقيرة، ونجح في نقل 25 ألف فرد يهودي إلى فلسطين، وأقام معهُم هناك، وتكفّل بهم برعاية الأجهزة البريطانية، لكن لم ينجح ذلك في إقناع أغلبية اليهود.

يوتوبيا هرتزل

شغلت المسألة اليهودية، تيودور هرتزل، في شبابه، وحاول المشاركة في الحركات الداعمة لدمج اليهود في المجتمعات الأوروبية، واعتبارهم مواطنين وليسوا جسمًا غريبًا، ولكن أصابه اليأس بعد فترة وأدرك كما شرَح بنفسه أن الحل لا يكمُن في الدمج بل في الانسحاب، وبالرغم من أنه أشار إلى أن منْ يصِف أفكارهُ بأنها «يوتوبيا» فهو سطحي وساذج، إلا أنها في الحقيقة كانت يوتوبيا، مقارنةً بمَا تم تنفيذُه فيما بعد، حيثُ لم يطمحَ هرتزل في احتلال دولة أخرىَ وإنما أراد حل المسألة اليهودية والعيش بسلام وإنشاء علاقات جيدة مع الدول المحيطة.

فكر هرتزل في أن يتم منح اليهود سيادة على أرض ما من العالم، تكون كافية للوفاء بالمتطلبات العادلة لأمة اليهود بدلًا من التسلل أو الهجرة، لأن ذلك محكوم عليه بالفشل إذا لم تكن هناك سيادة، لذا ارتأى أن يتفاوض اليهود مع الملّاك الحاليين لتلك الأرض ويعرضوا عليهم مزايا عديدة وتحمّل جزء من الدين العام وبناء طرق جديدة إلخ من الامتيازات.

والحقيقة أن فلسطين لم تكُن أولوية في نظره، وإنما كانت خيارًا تم طرحه لقلة سكانها وقتئذ، واتساع المنطقة حولها، وكان هناك خيارات أخرىَ لها الأولوية، كالأرجنتين. وكانت رؤيتهُ هي أخُذ ما سيُعطَى لهم من أرض وما يختارُه الرأي العام. وكان يُرجِّح الأرجنتين، لأنها واحدة من أخصب دول العالم، وتمتد لمساحه ضخمة، وفي ذات الوقت كثافتها السكانية ضئيلة ومناخها معتدل وستحصل على أرباح هائلة نظير تنازلها عن جزء من أرضها، وعبّر عن معرفته بأن الهجرات العشوائية اليهودية قد تسبّبت في إثارة بعض السخط حينها للأرجنتين، لذلك شدّد أنه من الضروري أن يتم توضيح الفارق الجوهري لهم الذي تمتاز به حركتهم الجديدة. [4]

يرىَ البعض هرتزل كصهيوني، لكنه في الحقيقة كان باحثًا عن التحرُر اليهودي، وحاول دمج اليهود في المجتمع الأوروبي، لكنه فشل، فوجد أن الحل هو استقلال اليهود، ولم يجِد من داعِم لهذه الفكرة إلا الصهيونية المسيحية البروتستانتية ذات العقيدة الألفية، فسعى إليهم طلبًا للمساعدة، وكان ذلك بهدف إيجاد الحل لبني جلدته، وليس إعجابًا بالصهيونية المسيحية في حد ذاتها، فهو كان مدركًا لاحتقارهم لليهود، وأنهُم –كأوروبيين- يريدون التخلُص من اليهود.

وقد دلّ على ذلك الخطاب الذي وصل إلى هرتزل من دوق إيلونبرج باسم حكومة قيصر ألمانيا، والذي عبّر فيه الدوق عن مدى استعداد صاحب الجلالة لمناقشة أمر توطين اليهود مع السلطان العثماني، كي يُخلِّص ألمانيا من الوجود اليهودي بها، ووصف صهيونية القيصر بأنها نابعة من كره صريح لليهود، فهُم قتلة المسيح، ولكنه سيتعاون معهُم فقط للتخلُص منهُم. [5]

كانت رؤية هرتزل يوتوبيا خيالية من كل الجوانب، فأخذ أرض ولو بطريقة سلمية أو بقوة شرائية ليست بالسهولة التي تخيلها، وقد اكتشف ذلك بنفسه عندما حاول مع السلطان العثماني، والذي ظل رافضًا منذ زيارة أوليفانت.

كانت رؤية هرتزل خيالية من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، فقد تخيّلها دولة اشتراكية عادلة بعلاقات جيدة مع جيرانها، وتخيل أسُسَها وقوانينهَا، مُسْتدعيًا بذلك بعضًا من أفكار أفلاطون وتوماس مور عن المدينة الفاضلة. كانت يوتوبيا رومانسية تناولها بشيء من التفصيل في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والعملية والدينية، وظن أنها ستكون دولة اشتراكية أخلاقية وأن بقيامها ستُحَل الأزمة، ولكن ما حدث كان مغايرًا تمَامًا، وأنتج دولة ممسْوخة، حيثُ توفي وترك أفكاره في يد الصهيونية الحقيقية، التي لم تتوانَ في تحقيق رؤيته وإظهارها كأنها إرادة يهودية، ولكنها في الحقيقة كانت إرادة أوروبية بروتستانتية تم إلباسها الرداء اليهودي.

انقسام اليهود

بعد وفاة هرتزل كان اليهود ما زالوا يحاولون الاندماج في المُجتمعات، وكان أول من جاءتهم الفرصة للاندماج هُم يهود أوروبا الشرقية، حيثُ إنه في فبراير/شباط عام 1917  قامت الثورة الروسية، وبشّرت بنظام اشتراكي ظن اليهود أنه سيضمن لهم التحرر والحصول على مكانة أفضل كمواطنين، لذلك اشتركوا في الثورة ضد نظام القيصَر، وهو الشيء الذي استغله البعض في إظهار اليهود كقوم متآمرين مثيرين للفِتن داخل المُجتمعات، ورغم ذلك لم يتغير موقفهُم وظلوا طامحين في الوصول إلى نظام سياسي يضمن لهم الاستقرار في المكان الذي يعتبرونه وطنًا لهُم.

لكن على الجانب الآخر في غرب أوروبا، كان الصهاينة البروتستانت يعملون على ترحيل اليهود خشية أن يتحقق ليهود شرق أوروبا الاستقرار بعد الثورة، فيقتدي بهم اليهود في باقي أوروبا ويشعلوا ثورات اشتراكية، لذلك عملوا على تسريع خطوات توطين اليهود في فلسطين، وقد عملوا بجد، حيثُ لم يمر سوى 8 أشهر فقط وصدر وعد بلفور عام 1917، ورغم ذلك لم تتغير إرادة أغلب اليهود وظلّوا مُعارضين للصهيونية وفكرة الانتقال إلى فلسطين، بل أنهم كانوا قادرين على رؤية حقيقة الموقف، وهي أن الصهيونية في أساسها ليست داعمَة لليهود، وإنما هي عدو لهُم، وظلوا على رفضهم، فقد شعروا أن في فكرة الإخلاء عن طريق الهجرة الجماعية من أوطانهم القاطنين فيها والتي عاش فيها أجدادهُم لقرون عديدة، تعتبر تخليًا عن حقوقهم. [6]

لكن لم تستمِر مقاومتهُم كثيرًا، فقد تنوّعت الضغوط وتغير العالمْ وتبدلت الأحلام، وفي عام 1942، طلبت حكومة السوفييت من اليهود إجلاء تاجونروج لأن النازيين يزحفون تجاهها، لكن اليهود ظنوا أنها خدعة من ستالين لتهجيرهم، معتقدين أن الأمة الألمانية التي أنجبت جوته وبيتهوفن وماركس وإنجلز –أمة الشعراء والمفكرين– لن ترتكب الجرائم تجاه العُزَل، ولم يصدقوا ستالين لأنه مشهور بالبروباجندا، لكنه في تلك المرة كان صادقًا، فراح أغلبهُم ضحية للهجوم النازي. [7]

حينئذ أمر ستالين بنقل 2 مليون ونصف يهودي من المناطق المحتلة إلى داخل البلاد، وأنقذهم بذلك من المعسكرات النازية، وتم توزيعهم على بلاد الاتحاد السوفييتي فوجدوا أنفسهم في كازاخستان وأوزبكستان ومناطق وسط آسيا في بيئات غير معتادين عليها، وعليهم أن يكسبوا قوت يومهم أثناء الحرب في مناطق ينقص بها الطعَام، فعادوا إلى ما يجيدونهُ وهو السمسرة والمتاجرة بما يستطيعون امتلاكه من السلع الغذائية البسيطة.

حتى جاء عام 1946 ومعه كارثة موسم الحصاد ودب اليأس من نقص الغذاء، وبدأ حصر خسائر الحرب، وكان عدد قتلى الاتحاد السوفييتي 20 مليون، حتى أن أغلب المزارع والحقول الجافة لم يكن بها إلا المسنين والنساء والأطفال، والمحاصيل لا تكفي لسد الحاجة، فبدأ الصراع بين الأيديولوجيات القديمة يعود، وبدأ النظر إلى اليهود كفائض بشري مسْتهلِك للإنتاج الذي يعتبر أولوية تستحِقُه الأمة السوفييتية، فتوترتْ العلاقات، ولم يعُد يهود شرق أوروبا محتفظين بقناعاتهُم السابقة عن كونهُم جزءًا من المُجتمع، فقرّر بعضهُم الذهاب إلى الملجَأ الأخير والحل الذي تم دفعهُم إليه مُجبرين، وهو الهجرة لفلسْطين.

وحسْب الإحصَاءات، فقد شهدت تلك الفترة التاريخية دخول أكبر عدد مُهاجِرين يهود، ليصل إجمالي اليهود في فلسطين حينها 625 ألفًا، وكانت الغالبية الساحقة منهُم قادمة مِن شرق أوروبا ثم تتابعت الهجرات.

الحقيقة التي يتم تجاهلهَا

استغل أصحاب العقيدة الألفية حالة اليهود وحاولوا إقناعهُم أن إنشاء دولة لهم سيكون الطريق للاستقرار، لكن في الحقيقة لم يكُن هذا إلا نتيجة رغبة اجتماعية بالتخلص منهم، وسعيًا لتحقيق نبوءة دينية، بالإضافة إلى أهداف استعمارية ومكاسب اقتصادية.

ورغم أن أغلب اليهود لم يستجيبوا ولم يتخذوا أي خطوات لتنفيذه فإن أوروبا استطاعت رفع وتيرة إرهابهم حتى لا يظل لهُم إلا الهجرة، وقامت بترحيل اليهود الغربيين تدريجيًا، ثم إجبار الشرقيين من بعدهم على الهجرة لفلسطين، وحينها تجاهل العالم صيحات اليهود بأنهم رافضون للهجرة، وتجاهل العالم التحليلات الحقيقية التي شرحها أبرز مثقفي اليهود حينها، إبراهام ليون، والذي وصف الأيديولوجية البروتستانتية بأنها انعكاس مُشَوه لمصالح طبقة ما، ولن يساعد وجود دولة في فلسطين على تحسين حال يهود الشتات، فوضع اليهود لا يتعلق بوجود دولة يهودية في فلسطين، وإنما يتعلق بالوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي العام. [8]

الخاتمة

بعد أن قامت أوروبا بتهجير يهودها، قامت الحكومات العربية بترحيل يهودها بطرق مباشرة وغير مباشرة، فدعمت الصهيونية حين كانت في مهدها بعتاد بشري وصلت نسبته 56% من اليهود الذين شكّلوا الدولة الممسوخة على حساب الفلسطينيين.

علينا أن نعلم أن اليهود الشرقيين داخل إسرائيل اليوم منبوذون لا يتم تقبلهُم أو إعطاؤهم مناصب قيادية إدارية أو عسكرية إلا نادرًا، لأنهم أتوا مُجبرين ولم يقتنعوا بالصهيونية، ونفس المعاملة يتلقاها اليهود القادمون من الشرق الأوسط، لأن هناك ظنًا أنه إذا قامت توترات سياسية وعسكرية فسينحازون للعرب لأن هوياتهم منتمية لبلدانهم التي جاء مِنها آباؤهم. [9]

وبجانب هؤلاء، توجد أيضًا الفئة المتدينة، والتي ترفض وجود دولة يهودية، وتتناول الدوائر الثقافية الإسرائيلية تلك الفئة الأخيرة وتأثيرها، حتى أن الدراما الإسرائيلية تطرقت مؤخرًا لذلك الخطر في مسلسل بعنوان «الحكم الذاتي»، حيثُ في أحداثه ينفصِل أغلب اليهود عن إسْرائيل الصهيونية. وفي مسلسل آخر بعنوان «آل شتيسيل» يظهر بوضوح رفض اليهود المتدينين لوجود الكيان الصهيوني.

وبخلاف كل هؤلاء توجد الكثير من الحركات المجتمعية الرافضة للوجود الإسرائيلي، كـ «منظمة يهود لمناهضة الصهيونية» و«حركة يهود من أجل العدالة للفلسطينيين» و«الرابطة اليهودية الدولية ضد الصهيونية»، فهل من الممكن لنا كعرب أن نستغل كل هؤلاء بشكل عقلاني لخدمة الصالح العام؟

لم ترغب أوروبا في حل «المسألة اليهودية» حين تعرضت لها، ولم تستطع التغلب على عنصريتها وتحاول حل الأزمة فعليًا، بل وجدت أن الأيسَر هو التخلص منها وإلقاؤها للطرف الأضعف كما تظُن، ثم تناست أنها أصل الأزمة، وبالمثل فعل شعبها، فصار لدينا نحنُ العرب مسألتين (الفلسطينية، اليهودية)، ولن يتم حَل مسألتنا إلا بحل المسألة الأولى، ويتطلب الحَل مجهودًا حقيقيًا في إفهام الشعوب عامةً والعربية خاصةً جذور الأزمة وإيضاح المكمن الحقيقي وجوهر الصراع.

لذا يكمُن الحل لدى المفكرين أولًا قبل السياسيين، وللتأكيد على ذلك دعونا نتساءل: هل يُمكِن لدول العالم التي تدّعي البحث عن الحَل ليلًا نهارًا أن تستغل حالة الرفض الموجودة لدى الكثيرين داخل المجتمع الإسرائيلي وتستقبل كل يهودي لا يريد البقاء في إسرائيل وتعاملهُ كمواطن حقيقي له حقوق مواطنيها الآخرين؟

هل يمكن للشعوب الغربية المتعاطفة ظاهريًا مع القضية الفلسطينية أن تقبل عودة اليهود إليها وتتخلص من أحكامها المسبقة العنصرية القائمة على صور نمطية ساذجة، والتي كانت سببًا من ضمن الأسباب في خلق القضية الفلسطينية؟

هل يمكن أن تستقبل الحكومات العربية مهاجريها السابقين أو أبناءهم من اليهود؟

بل أن السؤال الحقيقي: هل ستتقبَل الشعوب العربية عودة المهاجرين اليهود إليها حتى يتسنى للفلسطينيين العودة إلى وطنهم بعد تفريغه من عِتاده البشري؟ أم أن النزعات القومية والدينية ستتحكم في العقول ويُفضِّل العالم الغربي والعربي أن يبقى الوضع كما هو عليه وينتظِر كل جانب تحقُق نبوءته الدينية للتخلُص من الآخر والقضاء عليه بالحرب الدينية أو القومية؟

في الحقيقة هذا السؤال لا يُعبِر عن رغبة في البحث عن ماهية الجواب، لأن إجابته المتوقعة كافية للتدليل على أن الأزمة بمسْألتيهَا يكمُن حلها عند المُفكرين المُصْلحين، وليس السياسيين، فلا جدوى من محاولة إصلاح القضية إذا لم يتم إصلاح الرؤية التي تتبناها عقول أطراف القضية.

المراجع
  1. عبد الوهاب المسيري، “الصهيونية والحضارة الغربية”، دار الهلال، القاهرة، 2003، صـ116-117.
  2. لورانس أوليفانت، “أرض جلعاد”، ترجمة: أحمد عويدي، الطبعة الأولى، دار مجدلاوي، عمان، 2004، صـ23.
  3. المرجع السابق، صـ465.
  4. تيودور هرتزل، “الدولة اليهودية”، ترجمة: محمد فاضل، الطبعة الأولى، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، 2007، صـ66.
  5. عبد الوهاب المسيري، “الصهيونية والحضارة الغربية”، مرجع سب ذكره، صـ133-134.
  6. إسحق دويتشر، “اليهودي اللايهودي”، ترجمة: ماهر الكيالي، الطبعة الثالثة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1986، صـ47.
  7. المرجع السابق، صـ57.
  8. إبراهام ليون، “المفهوم المادي للمسألة اليهودية”، الطبعة الثانية، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت 1973، صـ76-78.
  9. مصطفى الحسيني، “حيرة عربي وحيرة يهودي”، دار الهلال، القاهرة، 1997، صـ26.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.