منذ ثلاثة أعوام تمكن حزب المحافظين من تحقيق أغلبية تاريخية بفضل بوريس جونسون. لم يحصل أحد على الدعم الذي حصل عليه جونسون منذ حصلت عليه مارجريت تاتشر عام 1987. رآه الناخبون عنيدًا ذا إرادة لا تلين وروح قتالية. لكن الإرادة القوية وَجب أن تلين أمام الحوادث المتتابعة حتى أُجبر جونسون على الاستقالة. جونسون أدرك أنه على الرغم من أن حزبه، حزب المحافظين، لا يزال يتمتع بأغلبيته التي يحكم بفضلها منذ 12 عامًا، فإنه شخصيًّا لم يعد يملك الأغلبية البرلمانية التي تمكنه من البقاء في منصبه.

اختار جونسون الاستقالة بعد معارك علنية، وخفية، مع خصومه داخل حزبه. بدأت بسبب التسريبات عن قيامه بحفلات في دوانينج ستريت، مقر إقامة وعمل رؤساء وزراء بريطانيا، في وقت كان فيه الإغلاق الكلي مفروضًا على الجميع بسبب الجائحة الوبائية. لاحقًا كشفت التحقيقات أن 83 شخصًا تواجدوا في هذه الحفلات، وفُرضت عليهم 126 غرامة لتجاوزهم قواعد التباعد الاجتماعي خلال الحفلات.

أدت تلك الفضيحة إلى تصويت لحجب الثقة عنه. لكن الرجل نجا منه؛ إذ لم يصوت ضده إلا 148 نائبًا برلمانيًّا من أصل 359. لكن النجاة لا تعني أنه لم يزل يمتلك الدعم الكافي داخل الحزب. الدعم الهش الذي بقي له أخذ في التآكل بفعل الضربة الثانية التي تعرض لها الرجل في فبراير/ شباط 2022 حين أقر أنه أخطأ بتعيين كريس بينشر في منصب مساعد المسئول عن الانضباط البرلماني للمحافظين. كريس متهم بالتحرش برجلين، واستقال لاحقًا بسبب تلك التهم.

الفضيحة تأتي من إقرار جونسون أنه تلقى معلومات رسمية حول كريس واتهامه بالتحرش قبل تعيينه، لكنه نسيها، على حد قوله، عند اتخاذ قرار تعيينه. بجانب تلك الفضائح الشخصية، فإن الغضبي ازداد بسبب المشاكل الأخرى الموجودة في بريطانيا، وعلى رأسها التضخم المتسارع. وهو ما تجلى في الهبوط التاريخي لليورو ما دفع رءوس الأموال للهروب من مختلف دول أوروبا باعتبارها ملاذًا غير آمن.

رحلة البحث عن البديل

أصبح الرجل الذي حظي بدعم غير مسبوق قبل عامين ونصف إلى رئيس وزراء معزول بلا دعم برلماني وبلا حكومة. فقد استقال 4 وزراء في يومين متتابعين، خلفهم أكثر من 40 مسئولًا من رتب متعددة. والوزراء الذين لم يستقيلوا طالبوا جونسون بالاستقالة، مثل وزيرة الداخلية بريتي باتيل. حتى وزير المال، ناظم الزهاوي، صرَّح بعد 24 ساعة من تعيينه بأن على جونسون الاستقالة.

حاول جونسون أن يتمسك بمنصبه قدر استطاعته. برر ذلك بأنه لن يتحمل ذنب ترك البلاد في ظروف حساسة كالحرب الروسية الأوكرانية. التمسك فتح الباب أمام سيناريو آخر بتصويت جديد لحجب الثقة، وهذه المرة كان جونسون متأكدًا أنه لن ينجو، لهذا قرر الخروج بأقل الخسائر، والحفاظ على بعض الطاقة للمعارك السياسية اللاحقة، وربما لعودة جديدة للمشهد السياسي مرة أخرى.

منذ لحظة إعلان جونسون قرار استقالته من زعامة المحافظين، والاستمرار في رئاسة الوزراء لحين اختيار خليفة له، بدأت عمليات البحث عن البديل. آلية الاختيار تقضي أن يترشح اثنان من حزب المحافظين كحد أدنى. أما إذا كان عدد المترشحين كبيرًا، فيجري المحافظون عدة تصويتات لخفض عدد المرشحين. يقومون فيها بالتصويت لمرشحهم المفضل، ويتم استبعاد المرشح الأقل أصواتًا. وتتكرر هذه العملية حتى يتم خفض المرشحين إلى اثنين في النهاية.

من المعتاد أن يتم التصويت في أيام الثلاثاء والخميس. لكن لأن البرلمان سيبدأ عطلة الصيف في 21 يوليو/ تموز، فيجب عليهم تسريع الأمور قليلًا. وبعد الوصول للاثنين الأخيرين يجري التصويت عليهم عبر البريد بين جميع أعضاء حزب المحافظين. وحين يُختار زعيم الحزب يصبح بالتبعية رئيسًا للوزراء، كون حزبه يمتلك الأغلبية في مجلس العموم. ولا يتوجب عليه الدعوة لانتخابات مبكرة، لكن يحق له ذلك دستوريًّا.

استقالة للهرب من الإقالة

تلك العملية تستغرق وقتًا يتناسب مع عدد المتقدمين. فمثلًا تيريزا ماي تولت المنصب بعد أقل من 3 أسابيع من استقالة ديفيد كاميرون عام 2016 بسبب انسحاب جميع منافيسها في منتصف السباق الانتخابي. وجونسون شخصيًّا تولى الحكم بعد شهرين من إعلان ماي تقديم استقالتها.

وإذا استقرت الأمور على أن يبقى جونسون رئيسًا للوزراء بشكل مؤقت فيُتوقع اختيار الزعيم القادم في سبتمبر/ أيلول 2022. إذ يواجه جونسون ضغطًا للاستقالة الفورية من رئاسة الوزراء وتعيين نائبه، وزير العدل، لقيادة المرحلة الانتقالية. وطالب العديدون حزب المحافظين بعزل جونسون فورًا من رئاسة الوزراء، لكن من الواضح أن الحزب يفضل السيناريو التقليدي باختيار بديل عبر سلسلة الاقتراعات المعتادة.

ومن أبرز الوجوه المرشحة وزيرة التجارة بيني موردانت. تمتلك بيني سمعةً طيبة داخل المحافظين، وشخصيتها قوية وقيادية. وكانت صاحبة دور بارز في الخروج من الاتحاد الأوروبي. واشتغلت سابقًا كمساعدة لساحر. وتشارك في العديد من البرامج لجمع التبرعات للأعمال الخيرية.

 أما المرشح الثاني فوزير المالية، ريشي سوناك، المستقيل حديثًا من الحكومة بصفته وزير المالية. وتأتي شعبيته من كونه شابًّا من أصل هندي، فله حضور قوي وسط الشباب، ويتمتع بنفوذ بين المهاجرين والهنود. لكن حظوظه بالفوز يمكن أن تتأثر بسبب حصوله على غرامة لمخالفته قواعد الإغلاق في فترة كورونا. كما أن الشئون الضريبية لزوجته تشغل الرأي العام البريطاني بسبب عدة مخالفات قامت بها.

الحلفاء يتصارعون على رئاسة الوزراء

أما ليز تروس، وزير الخارجية، فتُعتبر من المرشحين أيضًا للفوز، لكنها دعمت جونسون حتى بعد رحيل وزيري الصحة والمالية. تروس، ثاني امرأة تتولى وزارة الخارجية، ولها الفضل في فرض عقوبات على روسيا والأوليجاركية الروسية. وساهمت في الإفراج عن راتكليف بعد 6 سنوات من الاعتقال في إيران.

ساجد جاويد يُعد واحدًا من أبرز المرشحين الحاليين. كان قد انسحب من انتخابات 2019 لدعم جونسون، وكافأه جونسون بالحصول على منصب وزير المالية. لكنه استقال بعد 6 أشهر، ثم عاد مرة أخرى للحكومة في منصب وزير الصحة. وهو أول من وجه ضربة لجونسون مؤخرًا باستقالته قائلًا بأنه خَلص إلى أن مشكلة بريطانيا تبدأ من القمة.

جيرمي هانت موجود في قائمة المرشحين كذلك. لكن حظوظه تبدو قليلة هذه المرة. فالرجل على الرغم من أنه حل في المرتبة الثانية بعد جونسون في انتخابات 2019 فإنه صوَّت للبقاء في الاتحاد الأوروبي. وتلك عقبة عليه هو أن يتغلب عليها، أو أن يقنع أعضاء الحزب بتغيير وجهات نظرهم.

وزير التعليم، ووزير اللقاحات في فترة كورونا، ناظم الزهاوي، اسم له سمعة حسنة بين الجميع. فقد ترقى لمنصب وزير المالية بعد استقالة ريشي، لكنه بعد 24 ساعة طالب جونسون بالاستقالة. وكونه من العراق، وله شركات ناجحة تعمل في مجال استطلاعات الرأي، يزيد من فرصه للفوز.

بجانب الأسماء السابقة، يوجد وزير الدفاع بن ولاس في قائمة المرشحين لخلافة جونسون. وقد جذب الرجل اهتمامًا في الآونة الأخيرة بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، وقد اتخذ قرارًا مبكرًا بدعم أوكرانيا. كذلك يوجد توم توغاندت، النقيض الواضح لكل ما يوجد في جونسون. براجماتي لا شعبوي، يهتم بالتفاصيل والمصالح بدلًا من الشعارات الفضفاضة والمبادئ السياسية. عارض انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، ووقف ضد الخروج من الاتحاد الأوروبي.

بريطانيا تراجع مواقفها

استقالة جونسون ليس مردودها في مجرد اختيار خليفة له فحسب. فالبريطانيون حاليًّا يتساءلون حول قضايا أكبر، الخروج من الاتحاد الأوروبي مثالًا. فقد بات البعض متشككين في تصديقهم لجونسون حول البريكست. ومعارضو البريكست يضغطون على هذه النقطة، فالمؤلف الرئيسي لمشروع البريكست قد سقط، فما المانع من سقوط المشروع كاملًا لاحقًا.

وهو نفس الانطباع لدى كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي،إنريكي مورا، بأن رحيل جونسون يفتح صفحة جديدة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي. كذلك العديد من الساسة الألمان أظهروا سرورهم باستقالة الرجل. آملين أن يفتح ذلك الباب لعودة بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي مرة أخرى.

أما الموقف البريطاني من روسيا فلا يبدو أن تغيُّرًا كبيرًا سيحدث فيه. فموقف بريطانيا من روسيا ليس موقفًا شخصيًّا لجونسون، رغم دوره الكبير فيه. لكن بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي لا تريد بريطانيا أن تصطف ضد أوروبا في أي شيء، وتريد الاستمرار في الشعور بأنها ما زالت لاعبًا كبيرًا في أوروبا، وهو ما لن يحدث إذا تغير الموقف البريطاني، ولو قليلًا، من روسيا.

وعودة إلى الداخل البريطاني فإن بريطانيا لن تنسى جونسون. فالرجل قد فعل كل ما يجب على رئيس الوزراء عدم فعله، كما أن تصرفاته قد كشفت ضعف القواعد والقوانين البريطانية الحاكمة لصلاحيات منصبه. فلا يوجد دستور مكتوب يقيد أفعال رئيس الوزراء، فصلاحيات رئيس الوزراء هي ما يفعله رئيس الوزراء. وأظهر جونسون للجميع أن سابقيه لم ينتهكوا القانون في الماضي لأنهم لم يريدوا انتهاكه فحسب، لا لوجود رادع قوي يمنعهم.