محتوى مترجم
المصدر
aeon
التاريخ
2019/12/11
الكاتب
سام دريسر

الستالينية… تستحضر هذه الكلمة العشرات من الارتباطات، وعادةً لا تكون كلمة «مضحك» واحدة منهم. أصبحت هذه الكلمة الآن مُرادفة لسيطرة الدولة الوحشية والكُلية التي لم تترك مجالًا للضحك أو لأي شكل من أشكال المعارضة. ومع ذلك، هناك عدد لا يُحصى من اليوميات والمذكرات -وحتى داخل أرشيفات الدولة نفسها- تكشف أن الناس استمروا في نشر النكات حول الحياة الفظيعة التي أُجبروا على العيش فيها في ظل معسكرات الاعتقالات السوفييتية في سيبريا أو ما يُعرف بـ «جولاج».

بحلول الثمانينيات من القرن الماضي، أصبحت النكات السياسية السوفييتية ظاهرة عالمية يستمتع بها الناس، لدرجة أن الرئيس الأمريكي رونالد ريجان نفسه أحب جمعها وإعادة حكيها.

لا تخبر أحدًا أنني أنقذتك

ولكن، قبل 50 عامًا، وفي ظل حكم ستالين الوحشي والمليء بالشك: لماذا قد يتبادل الأفراد السوفييت العاديون النكات التي تسخر من قادتهم والنظام السوفييتي، إذا كان ذلك يُعرضهم لخطر قيام سلطات أمن الدولة التي تُعرف بـ NKVD بكسر باب شقتهم وإبعادهم عن عائلاتهم، مع احتمالية ألّا يعودوا أبدًا؟

نحن نعلم الآن أنه بالرغم من الحث الدائم على إظهار إخلاصهم المُطلق للقضية السوفييتية، لم يُطلق الناس النكات، التي شوّهت سمعة النظام وسمعة ستالين نفسه، وهم متجمعون فقط حول طاولة المطبخ، وإنما فعلوا ذلك حتى على الترام وهم مُحاطون بالغرباء، وربما الأكثر جرأة، أنهم تمكّنوا من ذلك داخل أراضي المصانع.

يُقدم بوريس أورمان، الذي كان يعمل في مخبز، مثالًا نموذجيًا على ذلك، ففي منتصف عام 1937، ومع اندلاع زوبعة عمليات التطهير التي قام بها ستالين في جميع أنحاء البلاد، شارك أورمان النكتة التالية مع زميل له أثناء تناول الشاي في كافيتريا المخبز:

كان ستالين يسبح في الخارج، لكنه بدأ يغرق. فقفز فلاح مار وقتها وسحبه بأمان إلى الشاطئ. سأل ستالين الفلاح عمّا يريده كمكافأة، وبعد أن أدرك من أنقذه، صرخ الفلاح: «لا شيء! فقط من فضلك لا تخبر أحدًا أنني أنقذتك!».

يمكن لمثل هذه النكتة بسهولة -وفي حالة أورمان أدت إلى ذلك بالفعل- أن تؤدي إلى قضاء 10 سنوات في مُعسكر للعمل الجبري، حيث كان السجناء يعملون بشكل روتيني حتى الموت. ومن المفارقات أن قمع النظام زاد من الرغبة في مشاركة النكات التي ساعدت على تخفيف التوتر والتعامل مع الحقائق القاسية غير القابلة للتغيير. فحتى في أكثر الأوقات بؤسًا، «لطالما أنقذتنا النكات» كما قال الزعيم السوفييتي «ميخائيل جورباتشوف» لاحقًا.

النكتة في خدمة النظام

ومع ذلك، على الرغم من ردود الأفعال الوحشية، كانت علاقة النظام بالفكاهة أكثر تعقيدًا مما نميل إلى افتراضه، ومما استوعبناه من الروايات الأيقونية منذ فترة طويلة، كرواية جورج أورويل «1984» التي صدرت عام 1949، ومذكرات ألكسندر سولجينتسين بعنوان «أرخبيل جولاج» التي صدرت عام 1973.

كان البلاشفة مُرتابين بالتأكيد من الفكاهة السياسية، خاصةً بعد أن استخدموها كسلاح حاد في نضالهم الثوري، لهدم نظام القيصر، قبل استيلائهم الدرامي على السلطة في عام 1917. وبعد أن عزّزوا موقفهم، قرّرت القيادة السوفييتية بحذر أن الفكاهة يجب أن تُستخدم الآن لإضفاء الشرعية على النظام الجديد فقط.

لذلك قدّمت المجلات الساخرة مثل Krokodil هجمات ساخرة لاذعة على أعداء النظام في الداخل والخارج. واعتُبرت الدعابة مفيدة ومقبولة فقط في حالة استخدامها لخدمة أهداف «الثورة»، كما لخّص مندوب بمؤتمر الكُتّاب السوفييت لعام 1934 أن:

مهمة الكوميديا ​​السوفييتية هي قتل الأعداء بالضحك، وتقويم الموالين للنظام بالضحك.

ومع ذلك، بينما وجد العديد من السوفييت بلا شك بعض الارتياح المرح في المنشورات التي أقرّتها الدولة، فلا يمكن الاعتماد كليًا على الدُعابة المُوجهة من السلطات الأعلى. فكان من المستحيل في كثير من الأحيان، بصحبة الأصدقاء وربما مع القليل من الفودكا، مقاومة التمادي قليلًا والسخرية من أهداف الإنتاج العُظمى، والفساد المنتشر في كل مكان والتناقضات الشاسعة بين وعود النظام المتلألئة والحقائق الرمادية والبائسة التي يواجهها الناس العاديون يوميًا.

خذ، على سبيل المثال، روح الدعابة السوداء لميخائيل فيدوتوف، وكيل مشتريات من منطقة فورونيج، الذي شارك نكتة شائعة تسخر من التكاليف الحقيقية لحملة ستالين الصناعية العنيدة:

فلاح يزور الزعيم البلشفي كالينين في موسكو ليسأل عن سبب استمرار وتيرة التحديث بلا هوادة. أخذه كالينين إلى النافذة وأشار إلى ترام عابر: «كما ترى، إذا كان لدينا عشرات من قطارات الترام في الوقت الحالي، فبعد خمس سنوات سيكون لدينا المئات». عاد الفلاح إلى مزرعته الجماعية، واجتمع رفاقه من حوله فورًا منتظرين سماع ما تعلّمه، فنظر حوله بحثًا عن الإلهام وأشار إلى المقبرة القريبة، قائلًا: «هل ترون تلك القبور العشر؟ بعد خمس سنوات، سيكون هناك الآلاف».

يمكن لمثل هذه النكتة أن تُخفِّف من المخاوف القمعية من خلال جعلها -لفترة وجيزة- مُضحكة، ومساعدة الناس على مشاركة العبء الهائل لحياة مُعاشة -وفقًا لملاحظة ساخرة أخرى- «تحت أفضال أمن الدولة NKVD».

ولكن حتى عندما ساعدت النكات الناس على الاستمرار والمضي قدمًا، أصبحت مشاركتها أكثر خطورة، وذلك مع تزايد إصابة النظام بجنون الارتياب على مدار الثلاثينيات. ومع تهديد الحرب الذي لاح في أفق أوروبا، بات الاتحاد السوفييتي مهووسًا بمخاوف من المؤامرة والتخريب الصناعي.

الفكاهة السياسية كفيروس

ونتيجةً لذلك، فإن أي نكات انتقدت النظام السياسي السوفييتي سرعان ما أصبحت بمثابة خيانة. ومنذ منتصف الثلاثينيات فصاعدًا، بدأ النظام يرى الفكاهة السياسية كفيروس سام له القدرة على نشر السم عبر شرايين البلاد.

وفقًا للتوجيه الصادر في مارس/أذار 1935، أصبح إلقاء النكات السياسية من ذلك الوقت فصاعدًا على نفس درجة خطورة تسريب أسرار الدولة، وهو أمر خطير ومعدٍ، لدرجة أن حتى وثائق المحكمة امتنعت عن الاقتباس منها، فلم يُسمح إلا للأعضاء الأكثر ولاءً بمعرفة محتويات جرائم الفكر هذه، وكان رواة النكات يُحاكمون أحيانًا دون أن تُدرج كلماتهم في سجل المحاكمة الرسمي.

لم يكن لدى الناس العاديين فرصة تُذكر لمتابعة جنون الارتياب لدى النظام. في عام 1932، عندما كان قَول نكتة شيء غير مُحبِّذ أكثر من كونه خطرًا، كان بإمكان عامل في السكك الحديدية مثل «بافل جادالوف» أن يُطلِق نكتة بسيطة عن كون الفاشية والشيوعية وجهين لعملة واحدة دون مواجهة تداعيات خطيرة، لكن بعد خمس سنوات فقط، أُعيد تفسير نفس النكتة على أنها إشارة على عدو خفي، وتم الحكم عليه بالسجن سبع سنوات في معسكر للعمل بالسُخرة.

هذا النمط من «العدالة بأثر رجعي» هو شيء يمكننا التعرف عليه اليوم، عندما يمكن للرغبة الشديدة في جعل العالم مكانًا أفضل، يتم تحويل تغريدة طائشة من 10 سنوات إلى عقوبة إعدام مهنية واجتماعية. بالطبع، هذا بعيد كل البعد عن أهوال معسكر جولاج، لكن المبدأ الأساسي مُشابه بشكل مخيف.

ومع ذلك، مثل الكثيرين منّا اليوم، أساء القادة السوفييت فهم ماهية الفكاهة وما تفعله للناس في الواقع. إن إلقاء نكتة حول شيء ما يختلف عن إدانة هذا الشيء أو تأييده. في كثير من الأحيان، يمكن للفكاهة أن تساعد الأشخاص ببساطة على الإشارة إلى المواقف الصعبة أو المخيفة والتعامل معها، مما يسمح لهم بعدم الشعور بالغباء، أو الضعف، أو العزلة.

في الواقع، الشيء الذي فشل النظام الستاليني في تقديره هو أنه، نظرًا لأن النكات المروية يمكن أن توفر راحة مؤقتة من ضغوط الحياة اليومية، فقد مكّنت المواطنين السوفييت في الواقع من فعل ما توقعه النظام منهم بالضبط، الحفاظ على الهدوء والمُضي قدمًا.

عندما نقول النكات، فإننا غالبًا ما نختبر ببساطة الآراء أو الأفكار التي لسنا متأكدين منها. فالنكات مرحة واستكشافية، حتى وهم يرقصون بجانب خط التقبل الرسمي أو عندما يتخطونه أحيانًا. بدا أن الغالبية العظمى من رواة النكات الذين تم اعتقالهم في الثلاثينيات من القرن الماضي مرتبكون حقًا لوصمهم بأعداء الدولة بسبب «جرائمهم» المضحكة.

في كثير من الحالات، شارك الناس النكات التي تنتقد الظروف المجهدة وغير المفهومة، لمجرد تذكير أنفسهم بأنهم يستطيعون رؤية ما وراء حجاب الدعاية، وداخل الوقائع القاسية التي تتجاوزه. في عالم من الخضوع الخانق والأخبار المزيفة التي لا نهاية لها، يمكن أن تكون الانتقادات الساخرة البسيطة بمثابة تأكيد شخصي عميق على أن:

أنا أمزح، إذن أنا موجود.

نحن نضحك في أحلك الأوقات، ليس لأن الضحك يُمكن أن يُغيِّر ظروفنا، ولكن لأنه يمكن أن يغير دائمًا كيفية شعورنا تجاه الواقع. النكات لا تعني شيئًا واحدًا، والقصة الخفية للفكاهة السياسية في عهد ستالين تحمل طبقات أكثر بكثير من مجرد فكرة الصراع البسيط بين القمع والمقاومة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.