لقرنين من الزمان حكم المماليك مصر كحقٍّ سياسي، نتيجة صمود مقاتليهم في وجه العدوان التتري الذي هدد الوجود العربي الإسلامي برمته. عبر سنوات حكمهم الطويلة ذاق المصريون كوارث متتالية ضاعف من مراراتها الإدارة السيئة والنظام الفاسد لسلاطين المماليك، الذي حكم مصر باعتبارها مُلكًا أبديًّا لن يزول مهما حدث، لكن على أيدي العثمانيين زالت دولة سلاطين المماليك، حتى انتهت تمامًا مع بزوغ نجم الوالي محمد علي باشا.

برغم الكوارث الطبيعية التي أنهكت المصريين، خاصة في النصف الثاني من الحكم المملوكي، تصاعدت مظاهر الاحتجاج الشعبي في إشارة واضحة إلى حراك اجتماعي وتقلُّبات سياسية واجتماعية، هي في الأساس نتاج السياسات الاقتصادية المجحفة التي بنى عليها المماليك دولتهم.

وعلى العكس من الصورة النمطية حول سكون المصريين واستسلامهم أمام جبروت المماليك الذين أثقلوا كواهلهم بالضرائب، ونهبوا خزائن الدولة لمصالحهم الشخصية، تُقدِّم لنا كتابات كبار المؤرخين صورًا ملحمية من مظاهر احتجاج وصل في بعض الأحيان إلى العصيان المدني في شكله المعاصر. ساهمت المظاهر الاحتجاجية للمصريين في تسريع وتيرة إسقاط الدولة المملوكية، لكنها وقعت فريسة للحكم العثماني، ما عرقل برأي بعض المؤرخين حراكًا اجتماعيًّا قويًّا بالفعل.

جاءت المجاعات والأوبئة كعوامل محفزة للغضب الشعبي والانهيار السياسي، الذي بدأ بالفعل من القرن الخامس عشر، وبلغ ذروته مع الوباء الكبير، ما استدعى تغييرات أعمق على المستوى الاقتصادي أفضت في النهاية إلى تحولات سياسية غيَّرت شكل المجتمع، وعبر عن هذا التغيير العامة ونقله المؤرخون، مشيرين إلى مواطن التوتر الاجتماعي ومظاهر التغيير مع كل سلطان جديد.

أزمة الشرعية

قامت دولة سلاطين المماليك في الأساس كحالة استثناء، وما كانت إلا إطارًا مشوَّهًا لضرورة تاريخية، وضعت الوجود الإسلامي على المحك، فبرز المماليك كفرسان الخلافة الشجعان، يزودون عن الإسلام ويحكمون باسمه، غير أنَّ وضعهم كرقيق استعان بهم السلطان الأيوبي نجم الدين الصالح أيوب للتصدي للحملات العسكرية، جعل من صعودهم للسلطة أزمة سياسية نتج عنها حرب بين المماليك والأيوبيين، وصعود درامي زائف للخلافة العباسية من جديد، حتى يتمكن السلاطين الجُدد من السيطرة على المصريين، الذين لم ينسجموا يومًا مع حكم المماليك.

في كتابه «عصر سلاطين المماليك»، يرى الدكتور قاسم عبده قاسم أنَّ وضع قيام الدولة المملوكية نفسها، بظروفها التاريخية وملابساتها الاجتماعية، هو ما أفضى في النهاية إلى التدهور السريع الذي شهدته، كما ساهم بجزء كبير في حالة السخط الشعبي العام على نمط الحكم السائد في مصر وقتها، بشكل لم يسبق له مثيل في العصور الوسيطة. 

كان لهذا الاحتجاج أشكال عدَّة، ولدت من رحم الأزمة السياسية والاقتصادية، وحالة الصدمة الاجتماعية التي عاشها الناس، جراء وباء حاصد للأرواح بلا توقُّف. اتخذ الاحتجاج أشكالًا أدبية وفنيَّة أحيانًا، وفي معظم الأحيان كانت قلاقل اجتماعية برزت في شكل احتجاجات في الشوارع، وانتحار في أحيانٍ قليلة.

خيَّم الموت الأسود (الطاعون) على مصر ودول المنطقة وأوروبا خلال القرن الخامس عشر، وضرب بقوة حتَّى ظنَّ الناس أن القيامة قاب قوسين أو أدنى، بعد أن أوشك البشر على الفناء، كان لهذا الموت تبعاته العميقة على مصر التي شهدت أكثر من قرن استقرار ورخاء، بعد نجاحها في صد الهجمات التترية، بل تحولت مصر في القرن الرابع عشر إلى قبلة ثقافية يأتيها من فرَّ من الشام والعراق بعد الفوضى التي عمَّت أراضي الخلافة العباسية، ومن جهة أخرى من فرُّوا من الأندلس قبيل السقوط وما بعده. 

ضربت الأزمة بعنف، وطالت كل ربوع مصر، حتَّى هلكت الأراضي الزراعية وبارت بعد موت زارعيها، ولعلَّ ما كتبه المقريزي في «إغاثة الأمَّة بكشف الغمَّة»، هو رصد وتحليل دقيق لما آلت إليه البلاد في تلك الفترة العصيبة.

فساد وإفساد

يذهب الدكتور قاسم عبده قاسم في دراسته إلى أنَّ الفساد السياسي لسلاطين المماليك، وابتعادهم عن الشعب بشكل أكبر مما فعل أسلافهم، عزز من سرعة انتشار الأزمة، ولعل فيما ذكره ابن إياس في «بدائع الزهور» دليلًا على أنَّ المماليك تعاملوا مع المصريين بتعالٍ مبالغ فيه، ففي بدائع الزهور ووقائع الدهور يرصد المؤرخ والشاعر ابن إياس كيف لجأ المماليك وعائلاتهم وجندهم إلى جبال سيناء وسرياقوس بمؤنهم هربًا من الوباء، دون اللجوء إلى سياسات تقلل من حدة الأزمة. 

أدرك المماليك أنَّ فشل إدارتهم سيتسبب في احتقان شعبي لا محالة، خاصة في ظل فهمهم لأزمة الشرعية السياسية وخلفيتهم الاجتماعية، لذلك عزموا على إرهاق المصريين في دوامات لا نهائية من الضرائب تفننوا في ابتداعها، لتعويض خسائرهم الفادحة من جهة، وإرهاق الناس من جهة أخرى، فلا يدعون مجالًا للحنق.

كان سعر صرف العملة بداية أعنف للأزمة، برز من خلاله مظاهر احتجاجية حديثة عهد بالمصريين. فتحت أزمة نقص الذهب بعد التوترات السياسية الإقليمية والخارجية بابًا لتلاعب السلاطين بأسعار العملة المحليَّة، بعد اختفاء العملات الفضيَّة والذهبية واستبدال العملة النحاسية بهما، وتلاعب الوالي بسعر الصرف، ما دفع الناس للعودة إلى نظام المقايضة في البيع والشراء وحتَّى سداد الإيجارات. 

اعتبرت أستاذ مساعد التاريخ الإسلامي في الجامعة الأمريكية بالقاهرة الدكتورة أمينة البنداري أنَّ هذا الخروج عن النظام كان وجهًا من أوجه الاحتجاج الشعبي في مصر، إلى جانب أشكال احتجاجيَّة أخرى، استفاضت في شرحها عبر كتابها «عوام وسلاطين: الاحتجاجات الحضرية في أواخر العصور الوسطى في مصر والشام».

وبحسب قصَّة أوردها ابن إياس في «بدائع الزهور»، اعترض الناس طريق السلطان قايتباي لتغيير سعر الصرف، فدعاهم السلطان إلى جلسة في المدرسة الصالحية، فحدد المحتسب أسعارًا مختلفة لكل عملة، فهجم عليه الناس ورجموه حتى كاد أن يهلك، لولا أنقذه كاتب السر لأردي قتيلًا. 

يقع هذا المشهد في قلب الأشكال الاحتجاجية التي شهدها أواخر القرن الخامس عشر، وهي إن دلَّت على شيء فليس أكثر من الوعي السياسي الشديد للناس ومحاولتهم الإمساك بزمام الأمور، وتعتبره البنداري بداية تبلور أشكال الغضب الشعبي.

 تحول اجتماعي

كان التغير العميق والسريع سمة من سمات أواخر العصر المملوكي، وهو عرض طبيعي ومنطقي في ظل حالة من التفكك والتشظي والموت وعدم الأمان تسود في المجتمع.

أبرز تلك التغيُّرات كان تبدُّل الطبقات الاجتماعية، وصعود البسطاء والعوام إلى مصافِّ النخب، وبيع المناصب بالأموال لتفتح الدولة بندًا جديدًا في ميزانيتها، فوصل الأمر حدودًا مبالغًا فيها.

يحكي المقريزي أنَّ صاحب المنصب الذي اشتراه يُعزَل فورًا إذا وجد السلطان من يشتري المنصب بسعر أكبر، مثلَّت هذه التحولات صدمة اجتماعية ثار لأجلها الناس واحتجوا في الشوارع والطرقات، وذهب فيها الباحثون مذاهب مختلفة.

ترى البنداري أنَّ هذا التغيُّر فتح فرصًا أمام أصحاب القدرات للصعود والترقي الاجتماعي، وأنَّ احتجاجات المجتمع كانت لأجل الدفاع عن الجمود واستعادة مجتمع قديم متصلب لم يصمد أمام تيار التجديد، وهناك من ذهب إلى أنَّ الحراك الاجتماعي في أواخر العصر المملوكي فتح الباب أمام لا مركزية الدولة المصرية، واستمرَّ الأمر حتى تحت الحكم العثماني كما تشير الدكتورة نيللي حنَّا في كتابها «مصر العثمانية والتحولات العالمية».

أتاحت اللامركزية القائمة في هذا العصر الباب أمام كل مدينة لتحتج بقدر ما وقع عليها من الظلم، منها ما كان دمويًّا مثل ما ذكره المقريزي في الجزء الرابع من كتابه السلوك لمعرفة دول الملوك.

في مدينة دمياط، اجتمع صيادون من قرية سمناوة بالقرب من بحيرة المنزلة، بعدما طفح بهم الكيل من مظالم الوالي ناصر الدين محمد السلاخوري، فأوقعوا بنائبه وضربوه، ثم تجمعوا على باب الوالي الذي هرب عبر النيل فهرعوا خلفه وسحلوه وقتلوه وطافوا به المدينة ثم حرقوه بالنار، وهجموا على بيته ونهبوه وعمَّت الفوضى حتى سقطت الدولة تمامًا واستولى الناس على المدينة. 

وفي المحلة التي انتفضت غضبًا من تغير سعر الصرف، فقد كان رد فعلهم أكثر حدة من نظرائهم في القاهرة، فيذكر المقريزي أن أهل المدينة قاطبة قاموا ضد الوالي ورجموه حتى هلك ورحلوا إلى القاهرة طلبًا للمال. 

وبرز الاعتداء على موظفي الدولة في كل المدن بدرجات مختلفة، ووصل في مدن أخرى مثل الصعيد إلى ضرب العسكر وسحلهم.

طفح الكيل

لم تبرز أشكال احتجاجات عنيفة في مصر مباشرة ضد الظلم الواقع عليهم، على عكس مدن الشام المنتفضة بشكل أكثر عنفًا. تدرَّج المصريون في مظاهر احتجاجهم، بداية من اللجوء للقضاء، والامتناع عن سداد الضرائب، والعصيان المدني وعدم الخروج إلى العمل، حتى وصل لمرحلة قتل الوالي في مدن خارج القاهرة، وبلغ أشده في مدينة قوص والمحلة ودمياط.

سكان القاهرة لم يميلوا إلى ضرب جابي الضرائب مباشرة، بل فضلوا الذهاب لمن هم أعلى سلطة، ولم يحدث الاعتداء الجسدي المباشر على موظفي الدولة، إلا في أوقات الأزمة الشديدة، مثل عام 1417 حين ضربت البلاد موجة جديدة من الطاعون، استدعت جبايات جديدة فرضتها الدولة لتعويض خساراتها.

الدعاء على الحاكم

كان الدعاء على الحكام أحد وسائل المصريين في مسيرتهم الاحتجاجية قبل التصعيد النهائي إلى العنف، ساعد على ذلك ما حظي به التصوف وأهله في العصر المملوكي من مكانة رفيعة سمحت بها الدولة كأحد طرق التعبير عن الذات. وقعت المساجد في القلب من الساحات الاحتجاجية، فقد كانت مكانًا لتعالي أصوات الدعاء على السلطان، واتخذ الدعاء شكلًا احتجاجيًّا مهمًّا بعد واقعة ذكرها شرف الدين الأنصاري في كتابه نزهة الخاطر وبهجة الناظر، حين ذكر الجند القادمين من القاهرة إلى الشام، أن والي المدينة سقط ميتًا صبيحة ما اجتمع أهل المظالم في المسجد للدعاء عليه.

يذكر ابن طولون في مفاكهة الخلَّان، إلى جانب كتابات ابن إياس والصيرفي، أن انتهاء صلاة الجمعة من كل أسبوع كانت ساعة الاحتجاج، يُنادى من أعلى مأذنة الجامع بالمظالم، ويهرول الناس إلى مساجدهم مكبرين ومهللين ومأمنين على دعوة الإمام على السلطان، حتى انتقل هذا الشكل الاحتجاجي إلى الشام، فكان المسجد الأموي ساحة احتجاجية واسعة يمارس فيها الثائرون طقوس دعائهم على السلطان حتى يهلك.

السخرية: احتجاج مصري أصيل

لعبت السخرية دورًا في الحياة السياسية المملوكية، لا يقل في تأثيره عن الدعاء على السلطان، بل وصل الأمر إلى تراث غنائي وشعري وأدبي يسخر مما آلت إليه أحوال البلاد والعباد. 

من ذلك يذكر المقريزي في السلوك، من عام 1420 حين أطلق العامة لقب «بكلمِش» على والي القاهرة ناصر الدين محمد، الذي اشترى منصبه وكان يتلعثم في الكلام فيثير سخرية العامة. 

بحسب معجم الخليل بن أحمد، فإن «كلمش» هو الشخص الذي يتكلم بسرعة شديدة لدرجة تدفعه للتلعثم وتمنعه من النطق السليم، أضاف عليها المصريون حرف الباء، واستعملوها للسخرية من حاكمهم غير الفصيح.

أرهق الوالي كواهل المصريين بالجباية والضرائب لتعويض ما دفعه من مال لشراء منصبه، لكن حدَّة سخرية الناس منه، بلغت مداها حتى إننا نجدها في كتب ابن إياس والمقريزي.

ترى البنداري أنَّ الشعر الشعبي الساخر برز في العصر المملوكي كأحد ساحات الاحتجاج والنيل من الحكام وزعزعة هيبتهم، وتعتبر أنَّ جمال الدين السلاموني من مشاهير هذا العصر في الشعر الشعبي الساخر والفاحش، وتعد أبياته في وكيل بيت المال التي أدت إلى الحكم عليه بالسجن سرًّا خوفًا من غضب الناس على شاعرهم المفضل، دليلًا على أثر السخرية وقوتها في زعزعة هيبة النظام السياسي.

على العكس من السخرية، ظهر الانتحار في نفس الوقت، بنسبة قليلة لكنه وجد، وتورد البنداري في دراستها عن حوليات من القرن الخامس عشر، أنَّ 28 حالة انتحار تم تسجيلها، بعضها تم بشكل علني، وأغلبها جرى دون أن ترصده كتب التاريخ، لكنه في نفس الوقت يضع أيادي الباحثين على مواطن التوتر الاجتماعي، ويرسم صورة واضحة لانتهاج المصريين أشكالًا عديدة من الاحتجاج، على العكس من فكرة التسليم بالأمر الواقع المأخوذة عن مجتمعات العصور الوسطى.

بشكل غير مباشر، ساهمت العملية التراكمية للاحتجاجات الشعبية على اختلاف أشكالها في تسريع انهيار الحكم المملوكي، وانهياره الداخلي قبل زواله مع دخول العثمانيين لمصر، لكنه في نفس الوقت يرسم صورة أكثر وضوحًا عن النظام الاجتماعي والسياسي في مصر، وعلاقة المجتمع بالدولة وتقاطعاتها في الحياة اليومية والثقافية والفنية، وتطورات هذه العلاقة عبر الزمن.