طلت النجمة «إسعاد يونس» من خلال الفضائيات عبر إعلان تحدثنا فيه عن حق المواطن فى المعرفة، لفت انتباهي أن النجمة المثقفة كانت ترتدي في الإعلان رداءً بديعًا مطرزًا بنسيج التَلّىِ الذي يكاد لا يعرفه أحد في مصر، وأخذتني المفارقة الساخرة والتي تأتي من أنه بالفعل من حق المواطن من الجيل الجديد أن يعرف هذا الفن الجميل، على الرغم من أنه من أقدم فنون النسيج التراثية المصرية والذي برع في إبداعه سيدات الصعيد وتوارثنه منذ القدم عبر الأجيال المتعاقبة.

أعادتني هذه الأفكار إلى سنوات مضت كنت أعرض لوحاتي في معرض جماعي بمتحف الفنون الشعبية بوسط القاهرة، وذهبت مبكرًا قليلاً وكان بالمتحف دكتورة في معهد الفنون الشعبية تشرف على رفع معروضات معرض منتهٍ للحرف والصناعات التراثية الصعيدية، وكانت سيدة لطيفة غزيرة العلم استرعى انتباهها وقوفي طويلا أمام رداء مطرز بخيوط معدنية ثقيلة براقة، فكانت أول من يعرفني على فن التَلّىِ الأسيوطي التراثى العالمي.

كانت تشكو وقتها من أن الفن يكاد أن يندثر بوفاة السيدات العجائز القليلات اللاتي يجدنه واحدة وراء الأخرى، وتحدثت بحماس عن محاولات جادة لإحياء هذا الفن مرة أخرى. كان ذلك منذ سنوات بعيدة، فهل ظل حال فن التَلّىِ على ما هو عليه من التجاهل والتهميش؟، تأخذنا إجابة هذا السؤال لتسأولات أخرى تساعدنا الإجابة عليها على اكتشاف هويتنا، والتأصيل لكل ما هو حقيقي وأصيل وجميل في مصر.


ما هو فن التَلّىِ؟

التلي، فضة، أشرطة معدنية
الأشرطة المعدنية والأدوات المستخدمة في صناعة التلى

يرجح البعض أن هذا الاسم يرجع إلى اسم «قماش الشبك»، أو Tull باللغة الفرنسية، والذي يستخدم كقاعدة لتطريز التَلّىِ عليه، كما نسبه البعض الآخر إلى الملك «أتالوس» من آسيا الصغرى، الذي اخترع فن التطريز بالذهب، إلا أنه أصبح معروفًا عالميًا منذ بداية القرن الماضي باسم «الأسيوطي» وخصوصًا في أمريكا وأوروبا.

و التَلّىِ نوع من النسيج ينفذ بأشرطة معدنية رقيقة على أقمشة قطنية أو حريرية أو شبكية (مثل قماش التُلّ). واسم التَلّىِ يطلق على الأشرطة المعدنية التي يتم صناعة النسيج بها، كما يطلق أيضًا على المنتَج النهائي المطرز بهذه الأشرطة.

وخيوط التَلّىِ عبارة عن أشرطة معدنية عرضها حوالى 3 مللي، وقديمًا كانت هذه الأشرطة من الفضة الخالصة، أما الآن فهي عادة أشرطة فضية اللون وقليلاً ما تكون ذهبية، وهي غالبًا تكون مصنوعة من أسلاك النحاس المطلية إما بالفضة أو النيكل، وهناك أشرطة معدنية رخيصة أو من البلاستيك.

وتستورد أشرطة التَلّىِ من بعض الدول الأوروبية، وتتميز كل بلد بألوان خيوطها المختلفة عن الأخرى، فالتَلّىِ الفضي يأتي من ألمانيا، أما التَلّىِ الذهبي فيستورد من فرنسا، وهو من أجود أنواع الأشرطة وهو مغطى بطبقة سميكة من الذهب، ويمتاز بالمرونة التي تساعد في التطريز، بالإضافة إلى قوة لمعانه، أما التَلّىِ المستورد من التشيك فهو النوع العريض، وهو قليل الاستعمال، وهناك أنواع أقل جودة تأتي من الهند والصين وباكستان.

رداء تلى بزخارف تقليدية (يمين) – رموز فن التلى

وتتميز غرزة التَلّىِ بأنها متفردة ولا تشبه أي غرزة أخرى في أعمال النسيج والتطريز، وكل غرزة مستقلة بذاتها عن باقي العمل، والغرزة الواحدة تحتاج لست خطوات لعملها، مما يتطلب حرفية عالية. وكان التَلّىِ يطرز على الحرير، على أماكن قليلة لصعوبة التطريز بالخيط المعدني على الحرير، وعندما ظهر التل أصبح العمل عليه أسهل من الحرير وأصبح التطريز يحتل مساحات أكبر من الأثواب.

وقد اشتهر النسيج التَلّىِ عالميًا باسم الأسيوطي كما ذكرنا، وهذه التسمية تعود لمدينة أسيوط التي اشتهرت بصناعة هذا الفن منذ القرن التاسع عشر، والتي تميزت بميناء مهم على نهر النيل كان محطة وصول للسياح الأجانب الذين عشقوا هذا الفن، الأمر الذي دفع القرويات الفنانات لتلبية رغبات الأجانب بتصميم أثواب ذات موديلات أوروبية الطابع، لا زال مركز الدراسات الشعبية يقتني بعضًا منها حتى الآن.

وعلى الرغم من هذا إلا أن هذا الفن احتفظ بموتيفات ذات رموز مغرقة في المحلية مستمدة من التراث المصري القديم والقبطي، أشهرها الموتيفات الهندسية مثل الخط المنكسر والذي يرمز لنهر النيل، والمثلث ويرمز للجبال التي تكثر بين أسيوط وسوهاج موطن فن التلى.

كما يستخدم المثل في تطريز طرحة العروس ويستخدم فى هذه الحالة كحجاب لمنع الحسد عن العروس، أو المعين الذي يتم تنسيقه في تكونات تكرارية لتكون أشكالاً متعددة من الصليب القبطي في الشكل النهائي، كما اشتهرت أيضًا الموتيفات الحيوانية مثل موتيفة الجمل الشهيرة، مع بعض الموتيفات الأخرى مثل العروسة وغيرها.


من شندويل إلى هوليوود

فن التلي، زخارف
فن التلي، زخارف
الملكة نازلي، شارلوت وصفي، التلي
الملكة نازلي (يمين) – شارلوت وصفي

كانت الملابس المنسوجة أو المطرزة بالتَلّىِ، تصنعها سيدات الصعيد لاستخدامهن الشخصي خاصة في الأعراس، فكانت الفتاة الصعيدية ترتدي عند خطبتها ثوبًا من التَلّىِ لونه «بيج»، وعند زفافها كانت ترتدي ثوب العرس الأبيض والطرحة من التَلّىِ، الفضي المزخرف، كما كان المفضل عند سيدات الأسر الغنية وعلية القوم في بداية القرن العشرين.

كما ارتدته نجمات السينما المصرية والراقصات مثل «زينات صدقي»، و«تحية كاريوكا»، وكان اختيار ملكة جمال الكون المصرية «شارلوت واصف» لترتديه في المسابقة الرسمية عام 1934 والتي فازت فيها باللقب، ليكون الزي المعبر عن الأناقة المصرية التراثية في هذه المسابقة العالمية، كما ارتدته أيضًا ملكة مصر «نازلي» في إحدى الصور الرسمية لها.

بروك شيلدز، فيلم صحاري، التلي
بروك شيلدز ترتدي التلى في فيلم صحارى 1983

وقد ارتدته كذلك الفنانة «هيدي لامار» في فيلم «شمشون ودليلة» عام 1949، ومن وقتها أصبح مفضلاً لدى نجوم هوليوود فارتدته كل من «ميا فارو»، و«باربرا سترايسند»، و«إليزابيث تايلور»، و«بروك شيلدز»، بل وارتداه الرجال أيضًا مثل النجم «توم كروز» الذي ارتدى وشاحًا من التَلّىِ في فيلمه Rock of Ages عام 2012، وأصبح المفضل لدى بيوت الأزياء الفرنسية مثل بيت أزياء «ديور» فظهر في مجموعة ربيع 1998، وربيع 2007.

وبعد أن كان التَلّىِ هو صناعة أسيوط الثقيلة في القرن التاسع عشر أصبحت تنحصر مناطق صناعته في «أخميم»، و«شندويل» بالإضافة لبيت التَلّىِ بأسيوط والذي أنشأه الفنان «سعد زغلول» للحفاظ على هذا الفن من الاندثار، حيث نجح في تدريب حوالى 100 فتاة على يد سيدة مسنة تجاوزت السبعين كانت آخر من يعرف أسرار هذه الصناعة بأسيوط واستطاعت أن تنقل خبرتها وفنها للجيل الجديد.

ويعد بيت التَلّىِ بأسيوط هو الجهة الوحيدة التي ترعى هذا الفن في مصر، على الرغم من فرص العمل التي من الممكن أن يوفرها فضلاً عن الدخل الذي يحققه خاصة وأن السوق العالمي متعطش لهذا الفن الذي لا توجد له حملات ترويجية بمصر بلد المنشأ على الرغم من وجود طوابق كاملة في مولات دبي تتخصص فقط في بيع أثواب التَلّىِ .