لما كان العقل موضع الفكر، كانت اللغة طريقة تعبير الإنسان عن فكره وتأملاته وهويته، يقول الفيلسوف النمساوي «لودفيغ فيتغنشتاين»: «حدود لغتي هي حدود عالمي»، ولما كان التوسع والاستكشاف والتعرف على الآخر طبيعة وحاجة في الإنسان، كانت الترجمة والتنقل بين اللغات والألسنة تذكرة سفر الإنسان بين الثقافات والعقول.

وبالنظر في حركة التاريخ؛ نجد أن التواصل البشري قد لعب دورًا مهمًا في عملية نقل السمات الحضارية والأفكار والعلوم من مجتمع لآخر، عن طريق التجارة والأسفار والرحلات، وحتى الحروب. وعليه؛ كانت الترجمة لازمة لفهم الآخر أولًا، ثم نقل فكره وعلمه ثانيًا.

الترجمة هي دعوةٌ لعالم آخر، وربما تجلّت جمالية التنقل بين العوالم عن طريق فهم لغة الآخر في قصة النبي داوود، وقد أخبرنا القرآن الكريم عن محاوراته مع الكائنات على اختلافها، كل بلغته، في أكثر من موضع؛ تنقلُ سلس بين ملكوتٍ وآخر مكّن هذا النبي من فهم الكون حوله، وكانت قُدرته على استيعاب نفس الآخر وفهم لغته واحدة من معجزاته.

أنقذ العرب جزءًا كبيرًا من التراث الإنساني بترجمتهم للعلوم اليونانية، وكان تفاعل المُترجم مع ما يقوم بترجمته واردًا وطبيعيًا، فإما أنه كان يُضيف عليه ملاحظاته، أو أن تأثره بالكتاب كان يمتد حد دفعه لتأليف كتاب يُحاكيه، ثم ردت الترجمة جميل العرب عندما أنقذت كتب ابن رشد من الضياع التام بعد حرقها؛ بالترجمة كُتبت حياة جديدة لاسم ابن رشد عندما ترجمت كتبه الباقية التي توزعت في أنحاء أوروبا للغات الأوروبية، قبل أن يُعاد ترجمتها للعربية.

على الرغم من قلة الوثائق المتوفرة بشأن حركة الترجمة العربية قبل الإسلام، فإنه من البديهي أن يكون للعرب نشاط في مجال الترجمة فعلًا؛ ارتبط على الأقل برحلات التجارة التي أثبتها القرآن الكريم إلى اليمن وإثيوبيا (ولغتها الجعزية) شتاءً، وإلى الشام (الهلال الخصيب) صيفًا، ومن المُفترض أن يكون العرب قد اتصلوا بالفعل بأهل تلك البلاد لأن التجارة نشاط قائم في الأساس على التواصل الإنساني، بجانب اتصالهم فعلًا بالفُرس (اللغة البهلوية = فرع من الفارسية القديمة) والرومان (اللغة اللاتينية)، فلا بد أنه كان هناك نوع من الترجمة بين العرب وأهل تلك البلاد؛ ولو أنها كانت تقتصر فقط على التعاملات التجارية، إلا أن الترجمة كانت واقعًا موجودًا وبوضوح لدى العرب في تلك الفترة، وقد بدت بعض التأثيرات الأجنبية بالفعل على الشواهد الأثرية في كثير من مناطق جزيرة العرب والبتراء.

في العصور القديمة، كانت اللغة اليونانية هي لغة العلم والثقافة والأدب، حد أن كثيرًا من الفلاسفة الرومان انغمسوا بشكلٍ كبير في الأدب اليوناني، انغماسًا دفع شيشيرون لزيارة أثينا احترامًا للفلاسفة اليونان الذين أثروا فكره. لكن مع انقسام الإمبراطورية الرومانية لشرقية وغربية؛ تدهورت اللغة اليونانية في القسم الغربي منها؛ حد أن العلوم الهللينية أصبحت مُتاحة، جُزئيًا، فقط باللغة اللاتينية.

أمّا في الإمبراطورية الشرقية، فقد بقي البيزنطيون على اتصال بالعلوم اليونانية بلغتها الأصلية، تلك العلوم التي انتقلت لأيدي العرب المسلمين، أيضًا باللغة اليونانية، فقاموا، عندما ترجموا تلك الكتب من اليونانية للعربية، بحفظ اللغة اليونانية بشكلٍ ما. في الواقع؛ استمتع العرب بنقل وترجمة تلك العلوم، حد أنه قيل إن القارئ العربي في مدينة بغداد في القرن الـ10 الميلادي أُتيحت له فرصة التعرف إلى الكتب والعلوم اليونانية بنفس القدر المُتاح للقارئ باللغة الإنجليزية حاليًا.

مع مجيء الإسلام، اتسع نطاق المعرفة، واتسع معها نطاق العالم لدى العرب، من ناحية بسبب الفتوحات الإسلامية خارج الجزيرة العربية، ومن ناحية أُخرى لأن الإسلام حثّ المسلمين على العلم والتأمل، ومن هنا تولّدت فرصة الترجمة بغرض ثقافي واجتماعي وسياسي، وبانتشار الإسلام والاتصال مع أهل البلدان المفتوحة، ثم إضافة مصطلحات جديدة خاصة بالدين الإسلامي أو التعاملات اليومية حتى، كل هذا استدعى حركة الترجمة.

ونجد أن النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، قد شجع على الترجمة وتعلم اللغات الأجنبية، ولعل زيد بن ثابت من أشهر المترجمين في هذا العصر؛ والذي لعب دورًا مهمًا في ترجمة رسائل النبي لملوك البلدان المختلفة.

وبموت النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، وتولي الخلفاء الراشدين من بعده أمور الحكم وشئون المسلمين، تراجعت حركة الترجمة بعض الشيء لانصراف الخلفاء الراشدين للمشاكل السياسية والمسائل الفقهية والتشريعية التي واجهت الدولة المسلمة التي ازدادت رقعتها، التي كانت، طوال حكمهم، لا تزالُ في ازدياد.

في عهد الأمويين لم تتقدم حركة الترجمة بشكلٍ كبير، وإن كانت حركة التعريب والترجمة لكتب بعض العلوم الأساسية كالطب والكيمياء قد مهّدت لظهور حركة الترجمة الواسعة في زمن العباسيين، لكن يمكننا القول إن حركة الترجمة الفعلية قد بدأت في عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، الذي كان مُهتمًا بتقريب العلماء في مجلسه. كما وأنه شجع على الترجمة، لا يمكن التغافل عن دور الأمير خالد بن يزيد بن معاوية في الاشتغال بالعلم خصوصًا الكيمياء، وأيضًا في الترجمة، فقال عنه ابن النديم، إنه كان من المُترجمين المشهورين لكتب الطب والكيمياء والعلوم العقلية، هذا بجانب اهتمامه بترجمة علوم السابقين من اليونانيين والبيزنطيين والفُرس والمصريين.

في زمن الدولة العباسية وبفضل اهتمام العباسيين بالترجمة، بدءًا من الخليفة أبو جعفر المنصور، الذي كان مُهتمًا بالكتب والعلوم حد أنه طلب من بيزنطة تزويده بما لديها من كتب ومخطوطات لترجمتها، أُدخلت الفلسفة مع بقية العلوم اليونانية إلى اللغة العربية، هذا إلى جانب حالة التنوع الثقافي التي كانت تتسم بها الدولة العباسية، فضمت مع العرب غير العرب أو المسلمين، كالمسيحيين السريان، فكان الأرستقراطيون العرب يستعينون بالسريان لترجمة العلوم اليونانية، فتُترجم إلى السريانية أولًا، ومنها إلى العربية؛ حيث كانت الترجمة من اليونانية مباشرة عملًا شاقًا لأنها لم تكن من اللغات السامية. وهكذا كانت السريانية أشبه ما يكون بحلقة الاتصال بين اللغتين.

ربما قامت الطبقة الارستقراطية في العصر العباسي بدعم حركة الترجمة بغرض الاستفادة العلمية من تلك الكتب والمخطوطات، لا سيما وأنها تحتوي على علوم مثل الطب والهندسة والرياضيات، وإن كانت بعض الآراء تُشير للرغبة في الهيمنة الثقافية ومُنافسة الثقافات الأخرى بخاصة الثقافة الفارسية، بل والتنافس حتى مع البيزنطيين الناطقين باليونانية، حيث فضلت الكنيسة البيزنطية إبقاءهم في حالة لا نهائية من الجهل.

أمّا في زمن الخليفة هارون الرشيد، تكلّل الحراك الثقافي العربي بإنشاء بيت الحكمة، حيث جمع الرشيد الكتب والمخطوطات التي كان أبو جعفر المنصور مُهتمًا بجمعها وإيداعها في قصره، ونقلها لمكتبة عامة للدارسين والباحثين والعلماء، وقام بتسمية تلك المكتبة «بيت الحكمة»، التي ازدهرت في زمن المأمون، الذي قيل إنه أحيانًا كان يُفرج عن أسرى الروم أو يعقد اتفاقيات سلام مقابل المخطوطات الإغريقية، وإنه كان يمنح المترجم وزن ما ترجمه ذهبًا، فتُرجمت العديد من الكتب والمخطوطات من اللغات الفارسية والهندية واليونانية إلى العربية، ربما أشهرها كان كليلة ودمنة الذي أمر البرامكة بترجمته.

وقد أوكل المأمون إلى يوحنا بن ماسويه مسئولية الترجمة، على أن يتولى الكندي الإشراف على ترجمة الأعمال الفلسفية والعلمية من اليونانية إلى العربية، وأن يتولى حنين بن إسحاق الإشراف على الترجمة للكتب الطبية، ويُعد حُنين بن إسحاق من أبرز العلماء الذين أثروا مكتبة بيت الحكمة في بغداد بترجماته لكتب الطب اليونانية إلى اللغة العربية.

كان حُنين من مسيحي الحيرة وكان على مذهب نسطور، وكان مُجيدًا للعربية بجانب اليونانية والفارسية والسريانية، كما كان دائم المراجعة لترجماته السابقة، ليعود ويُقدمها بشكل أكثر تفصيلًا ودقة، وكان يهتم بالمعنى قبل اللفظ، ويُظهر وعيًا بمبادئ النشر العلمي بالذات عند رجوعه إلى أفضل المخطوطات، وعليه؛ كانت ترجماته تجمع بين الدقة ورصانة الأسلوب العربي. ومن جميل صُنع الابن؛ إسحاق بن حُنين في الترجمة لبيت الحكمة، كانت إعادته لترجمة تراجم ابن البطريق لمؤلفات جالينوس وإصلاح ما فيها خلل، وأيضًا إعادة ترجمة ترجمات أسطفان بن باسيل.

رأى المسلمون الفلسفة اليونانية على أنها أداة لفهم دينهم والدفاع عنه في نفس الوقت. كان الكندي أول من آمنوا بتلك الفرضية، وفي الوقت الذي كان فيه الكندي مُشرفًا على ترجمات الباحثين المسيحيين لكتب أرسطو وأفلوطين، وعلى الرغم من كونه أول فيلسوف مسلم يكتب الفلسفة بالعربية، فإن الترجمات كان بها من الخلط ما يجعل المعنى يبدو صعب الفهم والاستيعاب، كمثال على ذلك كتاب أرسطو «الميتافيزيقا» الذي إن كان يصعب حتى فهمه باليونانية على الناطقين بذات اللغة، إلا أن الترجمة زادته صعوبة في بعض المواضع، بينما خرجت ترجمات كتب أفلوطين كأقرب ما تكون لإعادة الصياغة مع إضافة بعض التعليقات.

وربما تتجلى هنا مدى صعوبة ترجمة الفلسفة؛ إذ تبدو عملية ترجمة المصطلحات العلمية وتقريب الصور الشعرية من لغة إلى أخرى أكثر سلاسة من ترجمة فكرة فلسفية كما صاغها كاتبها، صعوبة وكأنها تضع شرطًا مفاده: كي تُترجم الفلسفة عليك في الأصل أن تكون فيلسوفًا.

أمّا في الغرب الإسلامي فقد حفظ ابن رشد الوجه الأصلي لكتابات أرسطو عندما قام بإعادة شرحها تفصيليًا مع ذكر النص الأرسطي الأصلي، ولولا حركة الترجمة التي طالت أوروبا في بدايات عصر النهضة في إيطاليا، الذي بدأ بعد قرن واحد من وفاة ابن رشد، لولا حركة الترجمة للعلوم والفلسفة العربية المقبلة من بيزنطة بعد سقوط القسطنطينية في يد العثمانيين للغة اللاتينية، لما حُفظت لنا أعمال ابن رشد.

اللغة والفلسفة والترجمة؛ حالة تلازم أبقى كل طرفٍ فيها على حياة واستمرارية الأطراف الأخرى، وبالتأمل في اللغة/القدرة على التعبير، الفلسفة/إطلاق عنان الخيال والعقل للتعبير، والترجمة/إمكانية السفر عبر التعبير، فإننا نجد أنفسنا أمام تلخيص بسيط لجوهر الوجود الإنساني.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.