رغم الاهتمام الواسع الذي تحظى به الأخبار والتغطيات الإعلامية المتعلقة بكوريا الشمالية في مجال السياسة الدولية، لا يدري الكثيرون حتى اليوم رغم ذلك طبيعة العقيدة السياسية الحاكمة للنظام الكوري الشمالي، حيث يسود الاعتقاد خطأ أن الأيديولوجيا الحاكمة هناك هي الماركسية اللينينية.

في حين أن العقيدة السياسية لنظام الحكم في كوريا الشمالية هي «الزوتشية»، التي هي خليط مشترك بين الاشتراكية الأممية والقومية، في مزيج معقد لا يخلو من المفارقات العجيبة.

بجانب تلك المفارقات أيضا تثير تلك العقيدة السياسية بشكل أو بآخر تساؤلا، مفاده هل تلك العقيدة السياسية أيدولوجيا فقط أم أنها تتجاوز ذلك إلى أن تكون ديانة؟

من خلال التأمل في هذه المفارقات، ومحاولة الإجابة عن تلك الأسئلة، سنكتشف ربما جانبا آخر من جوانب كوريا الشمالية، التي لا يتم تسليط الضوء عليها بشكل كافٍ في التغطيات الإعلامية عن واقع الحياة هناك.


كيف تبلورت الزوتشية

تمثال للزعيم الكوري الراحل كيم ال سونغ
تمثال للزعيم الكوري الراحل كيم ال سونغ

نائيا بنفسه بعيدا عن الشد والجذب بين موسكو وبكين، سعى الزعيم الكوري الراحل كيم إل سونغ في خمسينيات القرن الماضي إلى بلورة فكر يتماشى مع وضع كوريا الشمالية، ويبتعد عن الصراع الفكري الذي كان محتدما بين أكبر قوتين شيوعيتين في العالم، ويؤدي للتخلص من الخصوم والمنافسين السياسيين الموالين لهاتين القوتين في الآن نفسه.

نتيجة لهذا المسعى خرجت أفكار الزوتشية بالتدريج إلى حيز الوجود، وبنهاية المطاف حلت الزوتشية محل الماركسية اللينينية في الدستور الكوري الشمالي في العام 1972، وأصبحت العقيدة الرسمية للبلاد.

وقد لخص كيم إل سونغ المبادئ الأساسية الزوتشية في خطابه العام 1965 في ثلاثة مبادئ هي:

1- استقلال في السياسة «شاجو»

2- اكتفاء ذاتي في الاقتصاد «شارب»

3- دفاع ذاتي في الدفاع الوطني «شاوي»

في العام 1982 أصدر الزعيم السابق لكوريا الشمالية رسميا البيان الحاسم حول الزوتشية، خلال وثيقة تتركز حول أفكارها الرئيسية، وأعطى نفسه السلطة النهائية في تفسير العقيدة الرسمية.

في تناقض صارخ مع الماركسية الكلاسيكية ترى الزوتشية أن القومية الكورية أساسها الدم، وأن الدولة القومية الكورية ستبقى للأبد، وأن الكوريين سيعيشون دائما في كوريا ويتكلمون اللغة الكورية. ولذلك تكتفي الزوتشية فقط بتأسيس اشتراكية وشيوعية ضمن الحدود الوطنية لكوريا الشمالية، بعيدا عن الطموحات الأممية للماركسية.

واعتمدت الزوتشية الجيش الكوري الشمالي بدلا من القوة العاملة أساسا للصناعة والزراعة، العنصر الأساسي في اقتصاد الشمال، إذ استأثر بـ25 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، كما تعطي الزوتشية القوات المسلحة الكورية الشمالية تقريبا الدور المركزي نفسه الذي تلعبه البروليتاريا في الماركسية اللينينية.

وأخيرا في العام 1996 م دمج كيم جونغ إل بنهاية المطاف الزوتشية بسياسة «سونغون» أو (الجيش أولا)، وهي سياسة لا تخفي تناقضها مع طابع النظم الشيوعية حول العالم، الذي يعطي الحزب الشيوعي الحاكم عادة الأولوية في النظام السياسي.


الزوتشية دين أم أيديولوجيا

نصب تذكاري لكيم إل سونغ و كيم جونج إل
نصب تذكاري لكيم إل سونغ و كيم جونج إل

وفقا للمعايير الدينية التقليدية، يمكن وصف غالبية السكان في كوريا الشمالية بأنهم ملحدون أو من متبعي الفلسفة الزوتشية، حيث ينص الدستور الكوري الشمالي على عدم السماح بحرية الدين.

ورغم أن الزوتشية بالأساس هي فلسفة حكم أو أيديولوجيا سياسية، فإن تلك الأخيرة لعبت على المستوى العملي دور الديانة في حياة شعب كوريا الشمالية.

فعلى سبيل المثال حين زار الصحفي برادلي مارتن مؤلف كتاب «Under the Loving Care of the Fatherly Leader: North Korea and the Kim Dynasty» كوريا الشمالية في عام 1979، لاحظ أن الموسيقى كلها تقريبا، والفن، والنحت تمجد كيم إل سونغ لدرجة العبادة، وهو ما استمر كذلك لاحقا مع ابنه كيم جونغ إل.

وقد ذكر برادلي مارتن أيضا في كتابه المشار إليه أن هناك اعتقادات على نطاق واسع بين شعب كوريا الشمالية أن كيم إل سونغ «خلق العالم»، وكيم جونغ إل «يمكن أن يتحكم في الطقس».


عنصرية الزوتشية

بالتناقض كذلك مع الماركسية وطابعها الأممي، وبالتناقض حتى مع خطاب نظام كوريا الشمالية الموجه إلى الخارج،يصف الإعلام الكوري الشمالي الرسمي، الذي يقوده الحزب الحاكم، ذوي البشرة السوداء، الذين يشكلون الغالبية العظمى من سكان قارة أفريقيا، بأنهم قرود بشعون، لم يشملهم التطور البشري.

كما هاجم الإعلام الرسمي، ممثلا بوكالة الأنباء الكورية الشمالية المركزية، الرئيس الأمريكي أوباما بألفاظ غير مسبوقة، حيث وصفه بأنه: «قرد أفريقي بوجه أسود، وعينين رماديتين هزيلتين، ومنخرين مجوفين، وفم كبير، وأذنين يغزوهما الشعر، وأن أفضل مكان له ليعيش فيه هو حديقة وطنية في أفريقيا، يلتهم فيها فتات ما يلقيه عليه المتفرجون».


برج جوتشي

في قلب العاصمة الكورية الشمالية بيونغ يانغ وعلى ضفاف نهر تادونغ هناك برج يناطح السحاب ويشق عنان السماء بارتفاع 170 مترا، تعلوه شعلة حمراء وتتوسطه عبارة (العقيدة الزوتشية) مكتوبة بماء الذهب، وقد كُشِفَ عن الأخير في سنة 1982 في عيد ميلاد كيم إل سونغ السبعين.

يصل ارتفاع البرج إلى مائة وخمسين مترا، وفي أعلاه توجد شعلة ذهبية تُنير ليلا وارتفاعها عشرون مترا، فيصل الارتفاع الإجمالي لِلْمَعْلَمْ مائة وسبعين مترا، وبذلك يعتبر أطول من نصب واشنطن.

يضم البرج أيضا منصة للمراقبة مفتوحة للزوار، كما يحتوي البرج على 25,550 قالبا من الغرانيت تمثل عدد الأيام التي عاشها كيم إل سونغ قبل الكشف عن البرج، والبرج أيضا مقسم إلى 70 لوحا من الغرانيت تمثل عدد سنوات كيم إل سونغ عند الكشف عن البرج.

في أسفل البرج يوجد تمثال لثلاثة أشخاص يُظهر عاملا يَرفع مطرقة، ومزارعةً تَرفع منجلا، ومفكرا يَرفع فرشاة كتابة، وكلهم في نفس الحجم، ويمثل هذا التمثال وحدة الشعب الكوري الشمالي في دعمه لحزب العمال الحاكم.


الزوتشية خارج كوريا الشمالية

برج جوتشي
برج جوتشي

يغص أسفل قاعدة البرج بلوحات موقعة بأسماء لمراكز أبحاث ودراسات للفكر الزوتشي من شتى أنحاء العالم، خاصة من منظمات وأحزاب يسارية عربية وآسيوية وأفريقية ولاتينية، لكنها لا وجود لها على أرض الواقع.

أثناء الحرب الباردة، روجت كوريا الشمالية للزوتشية ولمبدأ الاعتماد على الذات داخل البلدان، خصوصا في دول العالم الثالث، من أجل تطوير اقتصادياتها. فحاولت تصدير أفكار الزوتشية إلى إندونيسيا ورومانيا.

بين العامين 2007 و2009 انطلقت عدة أحزاب شيوعية زوتشية تتميز باختلافاتها على أساس فكرة زوتشية وتضع برامجها المختلفة على هذا الأساس، ومن تلك الأحزاب على سبيل المثال: حزب شيوعي زوتشي فرنسي، و هو يدعو إلى الاشتراكية في فرنسا، ويدعم كوريا الشمالية، وحزب زوتشية الإسباني، وهو حزب ثوري زوتشي تأسس في العام 2007، وهو حزب غير قومي يطمح للاشتراكية في إسبانيا.

المراجع
  1. [[2]]A Journey through North Korea. Ronny Mintjens. Trafford Publishing 2013