يدٌ تمسك بالتوراة، أو قبضة يد قوية، وتحتهما كلمة كاخ بالعبرية،  الكلمة تعني، هكذا. الشعار الذي ينتمي للحركة التي تحمل اسم «كاخ» يعني أن القوة، السيف، والتوراة هما المزيج المثالي، والوحيد، لتحقيق الآمال الصهيونية في فلسطين. فالحديث الديني التوراتي، والعنف المسلح غير المحدود، هما جناحا حركة كاخ، عصبة الدفاع اليهودية. وتلك العقيدة وُلدت وترعرعت على يد الصهيوني المتطرف جابوتنيسكي.

كاخ، التي أصدرت الولايات المتحدة قرارًا في مايو/ آيار 2022 برفعها من قوائم الإرهاب، تقوم أساسًا على مجموعة من المتطرفين اليهود، والإرهابيين الصهاينة. مثل إيلي هزئيف، المعروف إعلاميًا باسم الذئب أو القاتل. صهيوني غير يهودي، كان جنديًا في فيتنام، لكنه اعتنق اليهودية لاحقًا واستقر في إسرائيل. ومثل يوئيل ليرنر، الذي قُبض عليه عام 1975 بتهمة محاولة اغتيال وزير الخارجية الأمريكي هينري كيسنجر. ثم قبض بعد عدة أعوام لتنظيم فريق من فتيان وفتايات إسرائيل لمهاجمة المسجد الأقصى.

يهودا ريختر من أركان الحركة أيضًا، ويشتبه في قتله فردًا من منظمة السلام الآن. ومن أعمدة الحركة أيضًا يوسي ديان، الذي حاول اغتيال سائق تاكسي عربي عام 1980. ديان قد انسحب من حركة كاخ، بسبب صراعه مع مائير كاهانا على زعامة الحركة. ويظل اسم كاهانا من أبرز أسماء الحركة عبر تاريخها، وتُنسب إليه أحيانًا، ويُنسب إليه طريقة كاملة في التعامل مع القضية الفلسطينية، فيُقال الحركة الكاهانية أو الطريقة الكاهانية.

يعتبره اليهود حاخامًا ويعاملونه على هذا الأساس، غير أنه لم يتلق أي تعليم ديني. وتقول بعض المصادر، إنه ادعى لنفسه لقب حاخام، ولم يراجعه أحد فيه. بدأ حياته عميلًا للمخابرات المركزية الأمريكية، ولمكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكي. وقام عام 1968 بتأسيس رابطة الدفاع اليهودي في الولايات المتحدة.

العرب سر تعاسة إسرائيل

تلك الرابطة قُسمت إلى فئتين، الأولى عُرفت باسم حيا، وهي كلمة عبرية تعني حيوانًا أو وحشًا. أما الثانية فكان اسمها بالعبرية يُترجم إلى رابطة أهل العلم والفكر. ظلت الرابطة نشطة في الولايات المتحدة حتى عام 1971، حيث قرر كاهانا نقل نشاطه بالكامل إلى إسرائيل. وفي عام 1973 تخلى الرجل عن التقسيم الثنائي وأعلن دمج الفئتين في رابطة واحدة، سماها «كاخ»، وشعارها التوراة، إشارة لأهل العلم والفكر، والسيف، إشارةً للحيوان أو الوحش.

نظمّت كاخ مسيرات عديدة لمناوشة السكان الفلسطينين، وإقناعهم عبر التحرش المستمر بأنه لا مفر أمامهم من مغادرة فلسطين، لأنها باتت أرض إسرائيل. كما نُسب لها العدد من الأنشطة الإرهابية مثل تدمير الممتلكات، وتخريب المزروعات، والقتل، والاعتداء على الأشخاص. وجميع أعضاء الحركة لهم سجل إجرامي ممتلئ بجرائمهم الفردية، حتى لو لم ينسبوها للحركة بصفة عامة.

في أواخر الثمانينيات نقلت كاخ عملها إلى الضفة الغربية، حيث قاعدتها الشعبية الأكبر. ومقر قيادتها في مستوطنة كريات، قريبة من الخليل. ولكي يضمن كاهانا جيلًا جديدًا من الإسرائيلين يعتنق مذهبه أسس معهدين لتعليم اليهودية، معهد جبل الهيكل ومعهد الفكرة اليهودية. كذلك أسس الرجل تنظيمين مسلحيّن.

الأول لجنة الأمن على الطرق، لا يوجد عدد محدد لأعضائه لكنهم يُقدرون بالمئات. التنظيم يوفر مواكب تأمين مسلحة ترافق المواصلات والحافلات الإسرائيلية على الطرق من أجل تأمينها. وتحمي تلك اللجنة سيارات المستوطنين الموجودين في الضفة الغربية. لاحقًا انتقل التنظيم من التأمين للهجوم. فكان ينظم حملات انتقامية ضد السكان الفلسطينين وضد ممتلكاتهم. ودائمًا ما وصل الجيش الإسرائيلي لمناطق هجومهم بعد رحيل أعضاء الحركة، ما أوحى للجميع بتنسيق مشترك بين الطرفين.

أما التنظيم الثاني، فيحمل اسم دولة يهودا المستقلة. ذلك التنظيم وجه غضبه لإسرائيل نفسها، فأعلن أنه يوالي ويوافق إسرائيل طالما تمسكت بكامل أراضي إسرائيل. ما يعني أنه لا يدين بالولاء للدولة إذا تخلت عن شبر واحد من أرض إسرائيل. وإذا حدث وتخلت الدولة عن منطقة ما، فيصبح من حق المنظمة الاستيلاء عليها، وتعلن قيام دولة يهودا المستقلة، التي تقوم بدورها بالدفاع عن الأراضي التي تخلت عنها الدولة.

بجانب التنظيمين البارزين يوجد تنظيمان آخران ارتبط بهما اسم كاخ، هما تنظيم الإرهاب ضد الإرهاب، المعروف اختصارًا بالعربية «ت.ن.ت»، وتنظيم السيكارييم، ويعني حملة الخناجر.

من الهامش للقلب

لم يقنع كاهانا بكونه يعمل جنبًا إلى جنب مع الساسة الإسرائيليين، فأراد أن يدخل للمطبخ السياسي بنفسه. ترشح لانتخابات الكنيست في أعوام 1972، و1977، و1981. وفي كل مرة كان يفشل في الحصول على عدد كافٍ من الأصوات لانتخابه. كانت تلك إشارة له أن حركة كاخ ستظل في هامش إسرائيل لا في مركزها. لكن بمرور الوقت، وتقدم اليمين المتطرف، وتزايد الخطابات التوراتية المتشددة، وتصاعد مشاعر السخط والعداء للعرب، بدأت الحركة تتزحزح من الهامش إلى المركز، حتى صارت في القلب.

ترشح كاهانا لانتخابات عام 1984، وحصد منفردًا على 26 ألف صوت، فأصبح عضوًا رسميًا في الكنيست الإسرائيلي. لكن تم الانقلاب عليه من قِبل الدولة الصهيوينة نفسها، حين أدركت وحشيته ومدى خطورته على واجهة إسرائيل الدولية، فعدّلت القوانين لإزاحته. عُدّل قانون الانتخابات ليتم حظر الأحزاب الداعية، علانية، إلى التمييز العنصري، أو الداعمة لمشاعر الكراهية والعداء ضد العرب.

وحشية كاهانا تأتي من أنه يرفض التلوث بقيم الحضارة الغربية، أو حتى الادعاء كذبًا أنه يؤمن بها. فالرجل مذهبه مشيّحاني، المسيح المنتظر، أي يري أن خلاص اليهود قد اقترب، لكن لا بد له من شروط.  فلا بد من ضم كافة المناطق المحتلة، وإزالة كل العبادات الغريبة من جبل الهيكل، أي المسجد الأقصى وحرم القدس، وبالطبع ضرورة التخلص من كافة أعداء اليهودية القاطنين في فلسطين.

كاهانا يؤكد علانية أن اليهودية دين قوة وبطش. وقد فقدت الصهيونية قوتها وهيبتها حين انفصلت عن اليهودية الباطشة. وأن التأثر بقيم الحضارة الغربية، الديمقراطية والاشتراكية، قد أفسد على اليهود دينهم.  وأن اليهودية الحقيقية لا سبيل لبعثها إلا بالتسامي فوق الاختلافات، ونبذ اللمسات الغربية والحضارية، والعودة للمنبع، السيف.

العرب ليسوا براغيب، بل عبيد

ومن أجل العودة لذلك النبع الدموي يرى كاهانا ضرورة تغيير التعليم في إسرائيل بصورة شاملة، ودمج التعليم باليهودية التوراتية دمجًا كاملًا. ويرى ضرورة هجرة كافة يهود العالم إلى إسرائيل، لأنه لا مستقبل لهم إلا فيها. كاهانا يرى يهود العالم يتعرضون لإبادة جماعية جديدة، وأن المنظمات اليهودية في العالم منظمات متعفنة وخائنة، لأنها في رأيه لا تدق جرس الإنذار أمام اليهود ولا تخبرهم عن خطر الإبادة الذي يتربص بهم.

ويدعو كاهانا اليهود للتماسك، فسيأتي المشيح، المسيح المنتظر، وسيخلص اليهود من كل أعدائهم، ويمنحهم السيادة المطلقة على كافة شعوب العالم. لكن ليحدث على الدولة اليهودية في رأيه أن تكون معبرة عن هوية اليهودي وتفرده. فتصبح دولة عضوية تقوم على أساس نقاء ووحدة السلالة، وتعلن بشكل صريح السيادة الإسرائيلية الكاملة على فلسطين، وتسيطر فيها الثقافة اليهودية المتشددة على كافة مناحي الحياة.

إن تعاسة إسرائيل وجميع متاعبها ناجمة عن الفلسطينيين العرب، واليهود المتغربين عن يهوديتهم. فالفلسطينيون خطر على الشعب اليهودي ودولة إسرائيل، وهم كمجموع يتكاثرون كالبراغيث. وإذا لم يعالج أمرهم، فسوف يصبحون بمرور الوقت أكثرية في البلد، ويغيرون القوانين لينهوا دولة إسرائيل كدولة يهودية.
مائير كاهانا

وبناءً على ذلك، فإن كل من لا يعتنق اليهودية يصبح غريبًا، لا حقوق له. والأهم أنه على الدولة اليهودية ألا تسمح بتكاثر هؤلاء الغرباء، فهم كالبراغيث، كما يصفهم كاهانا. ولأنهم براغيث فيجب ألا تمنحهم الدولة إقامة إلا لعام واحد، يُجدد أو لا يُجدد حسب رأي الدولة وقتها. ويخضع هؤلاء البراغيث لفحص دقيق نهاية كل عام.

أمّا العرب الذي يريدون البقاء داخل حدود دولة إسرائيل، فليسوا براغيث، بل يجب أن يكونوا عبيدًا. عليهم أن يدفعوا الضرائب، ولن يحصلوا على أي حقوق محتملة. والأهم أنه يجب ألا يُسمح لهم بأي حال من الأحوال أن يسكنوا في القدس، أو يشغلوا مناصب مهمة، أو يصوتوا في انتخابات الكنيست. ولا يختلطون باليهود في حمامات السباحة، أو الأماكن العامة، أو المدارس. وسيُمنع، ويجرّم، الزواج المختلط بكافة الوسائل المشروعة وغير المشروعة.

السلاح هو الوسيلة

كما تطالب كاخ بإزالة كافة الآثار الإسلامية. وتعتمد كاخ الخريطة التوراتية للإسرائيل التي تمتد من النيل للفرات. والخريطة المزعومة تمثل ركنًا أساسيًا من عقيدة حركة كاخ، وعقلية كاهانا خاصة. فالرجل يقول إن الأرض هى الوعاء الذي يضم مجموعة من البشر، عليهم أن يحيوا فيها حياة متميزة عن غيرهم من البشر. وفي تلك الرقعة الجغرافية يكون عليهم أن يحققوا الرسالة القومية والتراثية المطلوبة منهم.

والدولة، الحكومة والسلاح، هى الوسيلة اللازمة لتحقق الغايات السابقة. فاليهود هم أصحاب الأرض وأسيادها، وهم الذين يحددون هوية الأرض التي يعيشون فيها، لا الأرض التي تفرض عليهم طباعًا معينة. فكاهانا يقول، إن الفرد لا يصبح إسرائيليًا لمجرد أنه يعيش في الحدود الجغرافية لإسرائيل، لكنه يصبح كذلك حين يمتزج مع الأهداف والغايات والوسائل الإسرائيلية.

حتى بعد أن قُتل كاهانا عام 1990 في نيويورك، على يد مواطن أمريكي من أصل مصري، سيد نصير، أول جهادي إسلامي يرتكب جريمة قتل في الولايات المتحدة، على حد وصف مكتب التحقيقات الفيدرالي.  ظلت أفكاره حيّة. وانشطرت الحركة من بعده الأول تمسك باسم كاخ، وهو الأكبر والأخطر والذي يضم قاعدة شعبية أشرس.

أما القسم الثاني، فأطلق على نفسه، كاهانا حي، وترأسه ابن كاهانا، لقى نفس مصير والده في انتفاضة الأقصى. التنظيم الثاني يبدو أقل شراسة وأضعف من حيث عدد الأنصار والحاضنة الشعبية، إلا أنه لا يختلف من حيث العمليات التي يقوم بها عن كاخ الأصلية.

الصندوق فاسد كله

وللحركة تُنسب مذبحة الحرم الإبراهيمي في 25 فبراير/ شباط 1994، ونفذها المتطرف باروخ جولدشتاين. وبناءً على ذلك حُظرت حركة كاخ وكاهانا حي من قبل الحكومة الإسرائيلية. وظلت الحركة كذلك طوال أعوام، حتى أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية شطب الحركة من قوائم الإرهاب رغم كل ما سبق عن تاريخها الدموي وفكرها المتطرف، مع الإبقاء على منظمة التحرير الفلسطينية عضوًا دائمًا في قائمة الإرهاب.

وفي العموم، رغم تصوير الإعلام العبري والدولي للحركة باعتبارها تفاحة فاسدة وسط الحركات الإسرائيلية، فإن ذلك من غير المنطقي.  فمن الداخل لا توجد خلافات أو اختلافات كبيرة بين الحركات اليهودية والصهيونية، أو كما يقول رافي بيرتس، زعيم البيت اليهودي، إنه عندما يحترق المنزل فليس من المهم، ومن غير النافع، أن تتشاجر مع من يساعدك في إطفاء الحريق. يشير بذلك إلى أن الخطر الفلسطيني المحدق لا يصلح معه الشجار مع باقي الأحزاب اليهودية مهما اختلفت مذاهبهم، المهم أنهم يتشاركون في ضرورة طرد الفلسطيني.

لذلك فإنه حين حُظرت الحركة رسميًا، فإن العديد من الحركات الأخرى انبرت لتقوم بما قامت به. مثل مجموعة فتية التلال، التي قامت بقتل عائلة الدوابشة حرقًا قرب نابلس. وقامت بقتل السيدة عائشة الرابي رميًا بالحجارة قرب نابلس كذلك.

كما نشأت حركة قوة يهودية، إيتمار بن غفير زعيمها. درس المحاماة فكان يدافع عن كل من يعتدي على فلسطينيّ، وهو من دافع عن قتلة عائلة الدوابشة وعائشة الرابي.  وبن غفير وحركة الصهيوينة اليهودية هما من تعاونا بناءً على طلب من رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو، كي يحصل على أكثرية تمكنه من الفوز الائتلاف الحكومي والبقاء مدة إضافية في منصبه.

ثم نشأت مجموعة تحمل اسم تدفيع الثمن، تعتنق نفس أفكار كاخ. ويدرك الجميع أن كل تلك المسميات ليست إلا تحايلًا من الحركة على حظرها، لكنها لم تعد بحاجة للتحايل بعد الآن.